علاقات » عربي

قطر والربيع العربي: هل راهنت الدوحة على الجياد الخاسرة؟

في 2016/02/29

فتحي التريكي- الخليج الجديد-

لا شك أن هذا السؤال قد صار مطروحا بقوة في أعقاب التراجع الملحوظ لقوى وديناميات الربيع العربي خلال العامين الماضيين، وما صحبه من تقلص نسبي للنشاط الخارجي القطري، الذي بلغ ذروته تزامنا مع انتفاضات الربيع العربي.

منذ بداية الألفية، لعبت قطر دورا كبيرا يفوق حجمها المتواضع كإمارة صغيرة على أطراف الخليج. وقد ارتبطت تصاعد الدور القطري شكل كبير بصعود الشيخ «حمد بن خليفة» إلى رأس السلطة في الإمارة في عام 1995. جاء ذلك في أعقاب حرب الخليج وما ارتبطت به من تغير في النظرة التقليدية للدولة الخليجية نحو المملكة العربية السعودية كدولة حامية للخليجيين، وسعي الدول الصغيرة نحو تأسيس مصالح خاصة بها من خلال إقامة علاقات مباشرة مع الولايات المتحدة. وقد استغل الأمير «حمد» خبرته الكبيرة في هذا المجال، بوصفه وزيرا سابقا للدفاع في تأسيس قاعدتين أمريكيتين في البلاد، أولهما هي قاعدة العديد الجوية أما الثانية فهي معسكر السيلية. وقد عززت هذه القواعد من الضمانات الأمنية للبلاد مما جعلها تتحرك نحو طموحاتها السياسية بأريحية أكبر.

شرعت قطر أيضا في جهود حثيثة نحو تنويع اقتصادها. كانت البداية مطلع التسعينيات مع مشروعات التنقيب في حقل الشمال المشترك مع إيران. وسعيا لامتلاك أدوات القوة الناعمة سارعت قطر لتأسيس شبكة الجزيرة في عام 1996 مستفيدة من فشل تجربة قنوات أوربت السعودية التي كانت مقررة بالتعاون مع شبكة «بي بي سي» البريطانية. وسرعان ما اكتسبت الجزيرة ثقة المشاهد العربي بسبب سلسلة من التغطيات الخبرية غير المعتادة في الأوساط العربية مثل تغطية الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003. كما سعت قطر للاستفادة من منجزات قوتها الناعمة في تعزيز أجندة دبلوماسية طموحة كان ضابطها الأول هو الحفاظ على علاقات جيدة مع أطراف الأزمات المختلفة. لعبت قطر دور الوساطة في قضايا متعددة في ليبيا والسودان والصحراء الغربية واليمن وإثيوبيا وإريتريا وأقامت علاقات مع إيران و(إسرائيل)، بهدف بناء علامة تجارية محايدة. وصارت الدوحة قبلة لكبرى القوى في العالم لرعاية الوساطات الدولية بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

الرهان على الجماهير

مع اندلاع الربيع العربي، انتقلت قطر للوهلة الأولى من موقف المحايد الدبلوماسي إلى ساحة المراهنات السياسية. أدركت قطر أن الرياح التغيير التي تضرب المنطقة لن تمر مرور الكرام، وأن سوف ترتبط بتحولات كبرى في موازين القوى، أو هكذا ظنت الدوحة على الأقل. كانت تونس ساحة جيدة للمغامرة، وقد استغلت الجزيرة مصداقيتها المتزايدة في الشارع العربي وانحازت بشكل سافر ضد «زين العابدين بن علي» قبل سقوطه. وكررت الدوحة تجربتها في مصر وقدمت دعما إعلاميا وسياسيا يتجاوز التغطية الخبرية التقليدية من خلال الجزيرة التي عملت كمنصة للحشد ضد «مبارك». في ليبيا، كان الدور القطري أكثر وضوحا حيث كانت قطر أول من دعا إلى الإطاحة بـ«القذافي» وشاركت في العمليات العسكرية للناتو في البلاد ودفعت جامعة الدول العربية، التي كانت قطر تتولى رئاستها الدورية في هذا التوقيت، نحو تعليق عضوية ليبيا. دعمت الجزيرة تحركات الثوار في اليمن في الأسابيع الأولى، ولكن مواقف الدوحة الدبلوماسية جاءت أقل حدة بفعل ضغوط السعودية التي خططت لإدارة تغيير محدود في باحتها الجنوبية. وفي سوريا كانت قطر أول الدول التي سارعت إلى  قطع العلاقات الدبلوماسية مع «الأسد»، كما قامت بطرد سوريا من الجامعة العربية، وقدمت الأموال والأسلحة إلى المعارضة. بينما جاءت مواقف الدوحة في البحرين على النقيض من ذلك انسجاما مع السياسة الخليجية العامة، حيث وفرت الجزيرة تغطية محدودة جدا لاحتجاجات البحرين، ودعمت قطر، تحت مظلة مجلس التعاون، قمع الانتفاضة الشيعية في الإمارة الخليجية.

لم تكن قطر لتكتفي بالمراهنة على الثورات كتحركات هلامية مفتوحة المآلات. إذا أردت أن تنزل إلى ساحة المراهنة فإن عليك أن تختار جوادا بعينه. كانت المؤشرات الأولية للربيع العربي تصب في صالح صعود نجم جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة سواء في مصر أو تونس أو حتى في اليمن وليبيا، ورغم أن الجماعة لم تكن تتمتع بنفوذ مماثل في سوريا، حيث تم تحجيم وجودها بشكل كبير إلا أن قطر قد راهنت عليهم في سوريا أيضا. ربما يرجع دعم قطر للإخوان المسلمين لجملة أسباب تبدو متداخلة، أقربها الرغبة في المراهنة على الجواد الجديد الأقرب إل الفوز، وخاصة أن الجماعة كانت تمثل القوة المشتركة الوحيدة بين دول الربيع العربي، والتيار الأكثر شعبية وتنظيما في موجة التغيير الهادرة.

أحد الأسباب المحتملة أيضا للدعم القطري للإخوان يقبع في قلب الصراع المكتوم ما بين قطر والمملكة العربية السعودية، والذي نشأ منذ وصول الأمير حمد إلى السلطة منتصف التسعينيات. سرعان ما خرج «حمد» عن العباءة السعودية وأسس علاقة حمائية مباشرة مع الولايات المتحدة خارج الإطار السعودي، وسارع إلى تأسيس علاقات مع إيران بالمخالفة للسعودية، وقد ازداد هذا التوتر بشكل كبير في ظل تورط السعودية في محاولة الإطاحة بحمد عبر انقلاب قصر. سارعت قطر إلى احتواء الإخوان المسلمين وتحجيم نفوذ السلفيين الوهابيين في محاولة للخروج من المظلة الأيدولوجية السعودية في إطار السعي نحو سياسة أكثر استقلالا.

الرهانات في مصر وليبيا واليمن

قدمت قطر دعما غير مشروط للحكومات الجديدة المنبثقة عن الثورات، والتي هيمن عليها الإخوان المسلمون. في مصر،  كلف دعم قطر للرئيس محمد مرسي القادم من جماعة الإخوان العديد من الإجراءات العقابية من قبل السعودية ودول مجلس التعاون، بلغت أوجها خلال أزمة سحب السفراء في مارس/ أذار عام 2014. قبل أن تقوم المملكة العربية السعودية، ومن قبلها دولة الإمارات العربية المتحدة بتصنيف الإخوان المسلمين بوصفها جماعة إرهابية. وفي آب/أغسطس 2014، بعد سيطرة كتائب  الثوار المدعومة من قطر على مطار طرابلس في ليبيا، نفّذت دولة الإمارات ضربات جوية ضد تلك الجماعات. لم يتسبب دعم قطر للإخوان والثوار عموما في توتير علاقاتها مع جيرانها الخليجيين فحسب، بل امتد هذا التوتر ليشمل علاقاتها مع الولايات المتحدة أيضا. قدمت قطر نفسها للولايات كوسيط للتعامل مع الإخوان، وقدمت العديد من التطمينات أن الأمور كانت تسير على ما يرام. وعندما أُقصي الإخوان من السلطة، خسرت قطر بعض نفوذها مع الولايات المتحدة.

في ليبيا لم تسر الأمور على ما يرام منذ البداية. حيث لم تفز جماعة الإخوان بأغلبية مقاعد البرلمان في الانتخابات الليبية، وسرعان ما دخلت البلاد في أتون العنف المسلح. وردا على زيادة النفوذ القطري في مصر في عهد حكومة الإخوان، فقد كثفت الإمارات من أنشطتها في الساحة الليبية في دعم الثورة المضادة وما يعرف بـعملية الكرامة التي قادها الجنرال «خليفة حفتر». وبلغ التنافس حد  قيام الإمارات بتوجيه ضربات عسكرية مباشرة لقوات فجر ليبيا المتحالفة مع المؤتمر الوطني العام وجماعة الإخوان المسلمين. وفي اليمن، رغم أن جماعة الإخوان قد حصلت على مناصب حكومية رئيسية إلا أن السعودية ظلت مهيمنة على مجريات الأمور في اليمن، وسرعان ما انقلبت ضد حزب الإصلاح حليفها التاريخي، لدرجة أن بعض التقارير الغربية قد أوردت أنباء عن قيام المملكة العربية السعودية بتقديم الدعم إلى الحوثيين، حلفاء إيران، خلال عام 2013.

الإخفاق الأكبر في سوريا

مثلت سوريا سقف الرهانات القطرية غير الموفقة. رغم أن قطر والسعودية حملتا موقفا مشتركا تجاه إعطاء الأولوية لإسقاط نظام «بشار الأسد» في سوريا بعد أشهر قليلة على اندلاع الثورة، إلا أن كلا منهما قد فعل ذلك على طريقته الخاصة. راهنت قطر على جوادها الأثير، الإخوان المسلمين، ورعت تشكيل المؤتمر الوطني العام الذي هيمن عليه الإخوان في عام 2011. ثم استضافت أيضا مفاوضات تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في عام 2013 والذي حظي الإخوان فيه بتمثيل أقل نسبيا.

وقد تمتعت قطر بنفوذ كبير على الائتلاف في بادئ الأمر وبالأخص خلال الفترة التي تولى فيها رئاسة الائتلاف السيد «أحمد معاذ الخطيب» وهو شخصية مستقلة تحظى بقبول واسع وهو مقرب من التيار الدمشقي في جماعة الإخوان المسلمين. ولكن سرعان ما بدأ النفوذ القطري على الائتلاف يتقلص تدريجيا لصالح السعودية التي نجحت في تصعيد «أحمد الجربا» ثم هادي البحرة الموالين لها لرئاسة الائتلاف.

تسبب تنافس الرعاة داخل الائتلاف في إضعاف دورره بشكل كبير. انسحبت جماعة الإخوان من الائتلاف قبل مفاوضات جنيف 2 تعبيرا عن موقف مناهض للسعودية التي مارست ضغوطا على الائتلاف للمشاركة في المفاوضات. وقد عادت جماعة الإخوان إلى الائتلاف في نهاية المطاف إلا أن دورها قد تقلص بشكل كبير ويرجع ذلك، في جزء كبير منه، إلى خلافاتها الداخلية حول قضية المشاركة المباشرة في العمل المسلح. في ذلك التوقيت كانت قطر تبحث عن حليف ميداني لتكثف رهانها عليه في ظل التردد والتراجع الإخواني، وقد استقرت على تقديم الدعم للجيش الحر والجبهة الإسلامية.

في هذا التوقيت، خسرت قطر نفوذها أيضا في الجيش السوري الحر. في فبراير/شباط عام 2014 جرت عملية تغيير قيادي في الجيش الحر تم خلالها استبدال القائد المؤيد لقطر «سليم إدريس» ليحل محله «عبد الإله البشير»، الموالي للسعودية. وارتبط صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» بخسائر كبيرة للجبهة الإسلامية وللجيش الحر بطبيعة الحال، ما شكل فصلا جديدا في سلسلة العثرات القطرية في سوريا.

العودة إلى الخلف

تعثرت جياد قطر الإقليمية واحدا تلو الآخر، في الوقت الذي شهدت فيه البلاد انتقالا سياسيا للسلطة من الشيخ «حمد بن عيسى» إلى نجله الأمير «تميم بن حمد» قبل أسابيع من الانقلاب العسكري في مصر، وقبل أشهر قليلة من التحولات الكبرى في موازين القوى في المعارضة السورية لصالح السعودية وحلفاءها. قرر «تميم» الالتفات إلى التحديات الداخلية ومحاولة تأمين الجبهة الداخلية في ظل عدد كبير من التحديات.

ويبدو أن الأمير «تميم» قرر أن  يتخذ خطوة إلى الوراء في سياسته الخارجية لاحتواء الهجوم العنيف لقوى الثورة المضادة الإقليمية. استجابت قطر للضغوطات الخليجية في مصر وقامت بتقديم تنازلات نسبية في دعمها للإخوان المسلمين رغم أنها لم تقم بتحويل جوهر سياستها. وفي هذه الأثناء حدث تغيير في سلم السلطة في المملكة العربية السعودية بصعود الملك «سلمان» والأمير «محمد بن نايف».

يتمتع «بن نايف» بعلاقات جيدة مع القطريين، وقد شهدت العلاقات السعودية القطرية تفهمات كبرى في سوريا منذ تولي «بن نايف» للملف السوري في السعودية خلفا لـ«بندر بن سلطان» حتى قبل صعود «بن نايف» إلى ولاية العهد. اكتفت الإدارة السعودية الجديدة بهذا الانسحاب القطري المحدود إلى الوراء في مصر في مقابل قدر أكبر من التنسيق يشمل تسليم القيادة للمملكة العربية السعودية في اليمن وسوريا، وبقيت يد قطر في مربع نفوذها الأكبر في ليبيا.

مازالت مصر موضع سجال وبخاصة في ظل رغبة الإدارة السعودية الجديدة في الوصول إلى حلول وسطى، لكنّ التراشق الإعلامي المتبادل بين القاهرة والدوحة يعكس بحسم أنه لا توجد أي رغبة حالية لإنهاء صفحة الخلاف.

ويبدو أن قطر لم تكن تملك خيارا في اتخاذ هذه الخطوة إلى الوراء في ظل التحولات الجيوسياسية في المنطقة وتراجع نفوذ قوى الربيع العربي وتزايد التحديات الداخلية. وقد وفر تغيير الإدارة السعودية فرصة ثمينة لقطر من أجل الاحتفاظ بالخطوط العامة لسياستها والحفاظ على دعمها لجيادها المتعثرة ضمن الأطر المتفق عليها بين الطرفين. ليس من المرجح أن تغير قطر رهاناها على قوى الثورة العربية خاصة تيارات الإسلام السياسي بعد أن ارتبطت مصالحها بشكل كبير معه خلال السنوات الماضية، ولكن حجم الدعم الذي يمكن أن تحظى به هذه التيارات من الدوحة قد صار مرتبطا بشكل كبير بمدى قدرتها على مساعدة نفسها وخلخلة أوضاعها المتعثرة.

المحصلة القطرية من الربيع العربي - مرحليا - تميل  إلى الخسارة أكثر من الربح. لكن يبدو أن قطر كانت قادرة على تقليص حجم خسائرها إلى أقل حد ممكن.

تحالفات جديدة

قررت قطر أن تتخلى عن طموحاتها في القيادة المباشرة لصالح تحالف قادر على رعاية القدر الأكبر من مصالحها الإقليمية. كانت تركيا، أبرز الداعمين الإقليميين لقوى الربيع العربي مرشحا مثاليا. وقد ساهمت الديناميات الإقليمية في صناعة تقارب قطري تركي سعودي يدور محوره حول تحدي الهيمنة الإيرانية في المنطقة، وفي حين أنه ليس معاديا للربيع العربي وهو مثل حلا وسطا مثاليا بالنسبة إلى قطر.

يعمل هذا التحالف مع القوى المناوئة للحوثيين وحلفائهم لليمن وعلى رأسها حزب الإصلاح التابع لجماعة الإخوان، كما أنه يقدم الدعم لفصائل المعارضة السعودية على اختلاف تنوعاتها باستثناء الفصائل التي يفرض عليها الحظر الغربي. ويوفر هذا التحالف ضوءا أخضر للأنشطة القطرية في ليبيا، والتي لا تزال قطر تمتلك فيها زمام المبادرة. ومن المرجح أن يكون هذا التحالف هو الرهان القطري خلال المرحلة المقبلة، وهو وإن كان رهانا لا يلبي التطلعات القيادية في للدوحة، إلا أن يجعلها بمأمن، بأكبر قدر ممكن، من تلقي ضربات مباشرة أو تحمل تبعات كبرى لإخفاقات جديدة.