علاقات » عربي

هيكل ومحفوظ .. قصة عملاقين

في 2016/03/05

يوسف القعيد- عمان اليوم-

عشر سنوات تفصل بين رحيل العملاقين محمد حسنين هيكل ونجيب محفوظ. كان رحيل نجيب محفوظ في أغسطس 2006، وكان رحيل هيكل المؤلم والدامي في فبراير 2016، أي أنها عشر سنوات تفصل بين رحيل الرجلين إلا بضعة أشهر وأيام. الآن لم يعد ثمة حرج في أن يتناول الإنسان تلك العلاقة الفريدة بين الكبيرين العملاقين نجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل.
وأبدأ من لحظة جرت بينهما قبل رحيل نجيب محفوظ بعامين. وقبل رحيل هيكل باثني عشر عاماً:
الذي جرى أنه في الخامسة والنصف من مساء يوم السبت الحادي عشر من ديسمبر 2004، كان الأستاذ محمد حسنين هيكل يدفع باب شقة الأستاذ نجيب محفوظ القريبة من بيت ومكتب هيكل، ومع هذا فقد حضر له من عزبته في برقاش، حيث يحب أن يمضى أوقاته بعيداً عن التزامات مكتبه في القاهرة، مع أن برقاش لا تبعد عن القاهرة أكثر من عشرين كيلومتراً.
المفاجأة كانت كاملة لـ«نجيب محفوظ» حيث لم يكن يعرف مسبقاً بالزيارة، فضلاً عن أنه لم يكن يتوقعها، علاوة على أن هيكل كان الوحيد الذي أقدم على هذا التصرف الأكثر من حضاري بعد العناق والأحضان.
قال هيكل:
– كل سنة وأنت طيب يا نجيب.
فرد عليه محفوظ الذي كان يرتدي ملابس منزلية فوقها روب أرستقراطي:- أنت أكرمتني مرتين، الأولى عندما أقمت لي أول عيد لميلادي في «الأهرام»، كان ذلك في عيد ميلادي الخمسين، واليوم تأتي في عيد ميلادي الثالث والتسعين إلى بيتي، إن الكلمات تعجز عن شكرك.
لفتة جميلة، أكثر حميمية من أي تصرف إنساني آخر في مثل هذه المناسبة من قبل هيكل تجاه نجيب محفوظ، خاصة أنك واحد من كبار مصر، في جميع مجالاتها، لم يفكر في فعل ما قام به هيكل.
قال لي نجيب محفوظ: لا تتصور مدى سعادتي وفرحتي بهذه الزيارة الكريمة من الأستاذ هيكل، خاصة عنصر المفاجأة، لم أكن أعرف أو أعلم، والمفاجأة نفسها جعلت الفرحة آلاف الفرحات، وليست فرحتين كما يقال عادة.
ونجيب محفوظ ولد وتربى ونشأ في الجمالية بسيدنا الحسين. حيث لا يعرف الناس حكاية عيد الميلاد ولا الاحتفال به. وقد قال لي أكثر من مرة أنه لم يسبق أن احتفلت عائلته الأولى المكونة من والده ووالدته وإخوته بعيد ميلاده أو فكرت في ذلك. وأن الاحتفال بعيد ميلاده جرى في السنوات الأخيرة. بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب في أكتوبر سنة 1988.
قلت له مصححاً إن ما تقوله غير صحيح. لأننا سبق أن احتفلنا بعيد ميلادك أكثر من مرة قبل نوبل بسنوات في مقهى ريش. وكان الأمر لا يزيد على أن نقف جميعاً ونغني معك ومع أنفسنا نشيد: بلادي بلادي. لك حبي وفؤادي، المرتبط بحب الوطن والمُعَبِّر عن الوطنية المصرية.
هذا العام أقيمت لـ«نجيب محفوظ» احتفالات كثيرة بعيد ميلاده ذات طابع ثقافي وشعبي أساساً، الغريب أنه في اللحظة التي وصل فيها هيكل إلى بيت نجيب محفوظ كانت الجامعة الأمريكية في القاهرة تحتفل بعيد ميلاد محفوظ في احتفال كبير، حيث أعلن عن حصول الروائية العراقية عالية ممدوح عن روايتها «المحبوبات»، الصادرة عن دار الساقي بـ«لندن» و«بيروت» على جائزة نجيب محفوظ للرواية وقد سجل نجيب محفوظ كلمة بالصوت والصورة عن الجائزة وعن الرواية الفائزة، ورغم أننا رأيناه بعد معرفته بالفائزة بجائزته، لم يخبرنا، ولكنه – كعادته – سألني عن الفائز أو الفائزة بالجائزة.
لكن تبقى رواية هيكل لما جرى.
قال لي الأستاذ هيكل:- إن محمد سلماوي اتصل به. كان هناك كلام يحتاج إلى استكمال من جانبه حول ما كتبه سلماوي عن رامي لكح، ثم اقترح سلماوي عليَّ زيارة نجيب محفوظ في يوم عيد ميلاده وفي بيته، استلمحت الفكرة، وقررت الذهاب فعلاً، كان عندي لحظة اتصال سلماوي، المهندس إبراهيم المعلم فطلب الحضور معي، وعندما وصلت إلى البيت كان هناك أنور الهواري رئيس تحرير جريدة «المصري اليوم»، ومعه المصور حسام دياب، فكان من حظهما تسجيل اللقاء – التاريخي – وكلمة التاريخي من عندي أنا وليست من عند الأستاذ – لقد سجلا اللقاء بالكلمة والصورة.
كان جزءاً من المشهد زوجة نجيب محفوظ السيدة عطية الله إبراهيم التي وصلت سعادتها إلى السحاب العابر في سماء الله العالية رغم تحفظاتها الثابتة على المشهد الناصري المصري بكل ما فيه، أما ابنتا نجيب محفوظ أم كلثوم وفاطمة كما يسميهما والدهما أو هدى وفاتن كما تحبان أن تسميا نفسيهما، حيث إن الاسمين الأولين أطلقهما عليهما والدهما، فإنهما تفضلان عدم حضور مثل هذه المناسبات، باعتبارهما تخص والدهما، لدرجة أنهما ترفضان الكلام عن والدهما وحياته وأدبه لوسائل الإعلام، مهما كانت الضغوط.
قالت كبراهما ذات يوم:
– ألا يعد ذلك تدخلاً فى حياته وتطفلاً عليها؟.
قلت لها:- لا.
هيكل والجامعة الأمريكية يحتفلان بالرجل، ما أبعد المسافة بينهما، ربما كان هيكل أكثر من كتب منبهاً إلى خطورة الغارة الأمريكية الراهنة على الكون كله، ومع هذا شاركا في تكريم الرجل دون اتفاق مسبق، طبعاً شارك في الاحتفال به أصدقاء جلساته اليومية، وأصدرت جريدة «أخبار الأدب» ما يمكن أن يعد عدداً خاصاً في هذه المناسبة.
يبقى الجانب الآخر للحكاية الذي رواه لي نجيب محفوظ. ولأن نجيب محفوظ حكَّاء، وأقوى ما فيه لسانه فقد بدأ يحكي لـ«هيكل» عن ظروفه الراهنة، قال: لديَّ مجموعات من الأصدقاء يخرجون معي كل يوم إلى مكان مختلف، وكل مجموعة أسميها باليوم الذي تخرج معي فيه، عندما يتكلم محفوظ تسمعه دون وسيط، ثمة بطء ومساحات من الصمت بين الكلمة والأخرى، وتمهل ومحاولة التفكير قبل أن ينطق وتأخذه الكلمات، وتلك عادة محفوظية، لا تشتعل الكلمات من بعضها أبداً، ولكن إن قررت الكلام مع محفوظ لا بد أن ترفع صوتك بلا حدود، أو أن يكون هناك وسيط يقوم بعملية رفع الصوت، وقد قام بدور التواصل بين هيكل ومحفوظ في هذا اللقاء محمد سلماوي الذي أبلغ محفوظ أن هيكل قرأ وصف اللقاء معه المنشور في «أخبار الأدب».