فورين بوليسي إن فوكس- ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-
يعد قرار المملكة العربية السعودية بوقف حزمة مساعدات مالية عسكرية بقيمة 4 مليارات دولار إلى لبنان هو المثال الأحدث على تدخل قوة أجنبية في محاولة لتقويض السياسة اللبنانية من أجل خدمة مصالحها الخاصة. وعلى الرغم من لبنان عانى العديد من فصول مسرحيات السلطة في الماضي، إلا أن المناورة السعودية الحديثة تشكل تصاعدا في لعبة شد الحبل ضمن الحرب الجيوسياسية بين المملكة العربية السعودية وإيران، مما يزيد من زعزعة استقرار التوازن السياسي والطائفي في لبنان.
وتحوي لبنان مزيجا شديد التنوع من الجماعات العرقية والدينية. وقد صنع هذا التنوع تركيبة اجتماعية فريدة من نوعها، غنية في الثقافة والتاريخ. ولكن للأسف فإن هذا التنوع أيضا قد جعل لبنان عرضة لفترات طويلة من عدم الاستقرار. ويستند النظام السياسي اللبناني إلى اتفاق لتقاسم السلطة بين أكبر ثلاث طوائف في البلاد والتي تشمل المسيحيين الموارنة والمسلمين الشيعة والمسلمين السنة.
هذا الاتفاق لتقاسم السلطة، تم النص عليه خلال اتفاق الطائف الذي تم التوصل إليه بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت لمدة 15 عاما وتم تعديله لاحقا في اتفاق الدوحة عام 2008. وقد حافظ هذا الاتفاق على السلام بين الجماعات الدينية الرئيسية في لبنان. ولكن هذا الهدوء الهش يبقى دوما عرضة للتقلبات نتيجة للتوتر السياسي والطائفي في المنطقة.
صراع إقليمي
أشعلت النيران الملتهبة في كل من العراق وسوريا واليمن صراع الهيمنة الإقليمية بين القوى الكبرى في المنطقة. الخطاب الأيديولوجي الذي تتبناه المملكة العربية السعودية وإيران يغذي الانقسامات داخل المجتمع اللبناني بشكل كبير. يعتمد الاستقرار في لبنان بشكل كبير على نظام المحاصصة الذي يكفل أنه لن يكون بإمكان جماعة ما أن تقفز على السلطة على حساب غيرها من الجماعات، وهذا الوضع هو وحده الذي يمنع لبنان من الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة. هذا الفهم، رغم ذلك، قد تم استغلاله من قبل الجهات الفاعلة غير الحكومية، غير المسؤولة، والتي سعت إلى تطوير قنواتها الخاصة للقوة السياسية والعسكرية.
إيران، المشغل الأجنبي الأبرز داخل لبنان، قد نجحت في تحويل تلك الدولة الصغيرة على شاطئ المتوسط إلى دولة تابعة تدور في فلكها. على مدار السنوات العشر الماضية، فإن حزب الله، بفضل الدعم السياسي والمالي والعسكري لقوات الحرس الثوري الإيراني، قد أصبح هو القوة المهيمنة في لبنان. من خلال التلاعب المنظم والعنف والترهيب، فإن حزب الله قد نجح في استغلال الانقسامات الطائفية المتجذرة في صفوف المجتمع اللبناني وفقر النظام السياسي وضعفه من أجل حيازة المزيد من السلطة والنفوذ في البلاد.
وقد سمح هذا الموقع المتميز لحزب الله في لبنان بممارسة أنشطته الإقليمية لخدمة مصالح الرعاة في طهران. استفاد حزب الله من جهازه العسكري الهائل وصار نفوذه على الحكومة اللبنانية يهدد بتقويض سيادة لبنان ويعرض أمنها القومي إلى الخطر.
جعل السعوديون، فضلا عن سائر دول الخليج، مهمتهم الأولى متمثلة في مواجهة ظل النفوذ الإيراني في جميع أنحاء المنطقة أينما كان ذلك ممكنا. تتابع المملكة العربية السعودية الامتيازات التي تحظى بها إيران في لبنان وتشعر بالاستياء من النجاح الذي حققته في استمالة الحكومة اللبنانية. السعوديون، عن طريق رسم الخطوط في الرمال، يحاولون عزل حزب الله وإثبات التكاليف المرتبطة بالسماح للجماعة الشيعية القوية بالسيطرة على الحكومة اللبنانية. وقد كانت رسالة المملكة العربية السعودية إلى تحالف 14 أذار الموالي للغرب واضحة، وهي أنه قد مضى الزمن الذي ينظر فيه إلى الرعاية السعودية على أنها استحقاق مضمون.
ويجري الآن إعادة تقييم ومساءلة الدعم الشامل الذي تمتعت به لبنان في عهد الملك «عبدالله» وأسلافه من قبل القيادة السعودية الجديدة. صعود الملك «سلمان» على العرش يشير إلى تحول عميق في سياسة المملكة تجاه لبنان. يشير تقرير نشرته صحيفة «المونيتور» في يونيو/حزيران 2015 إلى أن الملك «سلمان» كان يخطط لاستغلال الاعتماد اللبناني على السعودية من أجل ترسخ نفوذ بلاده على النظام السياسي والاقتصادي الهش في لبنان. للأسف، فإن استراتيجية الملك «سلمان» قصيرة النظر قد أوضحت الضعف المتأصل للمملكة العربية السعودية داخل الساحة السياسية المعقدة في لبنان.
من خلف الكواليس، عملت المملكة العربية السعودية على مدار عقود من أجل إيجاد موقع نفوذ لها في لبنان. وعلى الرغم من ذلك فقد نجحت إيران، من خلال وكلائها في حزب الله، في اختطاف الحكومة اللبنانية وإقامة الحرس الإمبراطوري الذي ينافس القوات المسلحة اللبنانية، في حين تمكنت السعودية ببراعة من التغلغل داخل البنية الاقتصادية في لبنان وخلق طبقة سياسية تعتمد كليا على رعاية السعودية. قرار المملكة العربية السعودية بتجميد مليارات الدولارات في شكل مساعدات عسكرية يوضح استعداد الرياض لفرض الالتزام السياسي مستفيدة من نفوذها المالي.
الاقتصاد المتردي
يعاني الاقتصاد اللبناني واحدا من أكبر نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بإجمالي ديون تبلغ 70 مليار دولار وهو ما يعادل 145% من الناتج المحلي الإجمالي. ويتصرف السعوديون كضامن لجزء كبير من الديون اللبنانية. تستضيف المملكة العربية السعودية ودول الخليج في الوقت الحالي نصف مليون من المغتربين اللبنانيين وكثير منهم يعملون في مناصب بارزة في جميع أنحاء المملكة، ويقومون بتحويل 5 مليارات دولار سنويا إلى بلادهم. بعد وقت قصير من الإعلان عن تجميد المساعدات، تم تسريح 90 مواطنا لبنانيا من وظائفهم في المملكة العربية السعودية. في حين أنه من غير المرجح أن يتم طرد كامل المغتربين اللبنانيين فإنهم يمثلون أحد أوراق الضغط التي يمكن أن تستخدمها المملكة من أجل تحصيل الاستجابة المرجوة. ولكن حتى الترحيل المتواضع لبعض المواطنين اللبنانيين يمكن أن يكون له انعكاسات مالية وسياسية عميقة.
حذرت السعودية مواطنيها من السفر إلى لبنان ودعت أولئك الذين يقيمون هناك للعودة إلى ديارهم وينتظر أن تحذو باقي دول الخليج حذوها بتحرك مماثل. ومن المتوقع أن يضر رحيل السياح الخليجيين الأثرياء بصناعة السياحة في لبنان وهي تمثل 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. كما شجعت المملكة ودول الخليج الأخرى مواطنيهم المقيمين في لبنان على سحب أي ودائع لهم لدى البنك المركزي والتي قد تقدر بحوالي 900 مليون دولار من إجمالي الاحتياطي النقدي البالغ 37 مليار دولار.
قرار السعوديين بسحب الدعم المالي للبنان يتزامن أيضا مع تمرير قانون منع تمويل حزب الله، وهو تشريع أمريكي يهدف إلى الحد من شبكات الحزب ومصادره المالية، ما ينتظر أن يلقي بظلاله أيضا على الاقتصاد اللبناني. خلال الأسبوع الماضي، قامت دول الخليج بقيادة سعودية بتصنيف حزب الله منظمة إرهابية بهدف مراكمة الضغوط الدولية ضد الميليشيا الشيعية، ولكن هذا الأمر قد يجعل بداية حوار سياسي بين الفرقاء أمرا أكثر صعوبة. تقليديا، فإن المفاوضات مع الجماعات الإرهابية لا تسير على ما يرام وغالبا فإنها لا تنتهي إلى شيء.
قبل الحرب في عام 1975، كان لبنان نقطة ارتكاز للنظام الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، والتي تربط دول الخليج الغنية بالنفط مع الأسواق المالية الغربية. انهار الوضع الاقتصادي البارز للبنان خلال الثمانينيات وانحدرت البلاد إلى حرب أهلية. خلال هذه الفترة تدخلت المملكة العربية السعودية من أجل جمع الفصائل المتحاربة في البلاد والمساعدة في وضع حد للصراع. الاتفاق الذي وضع الأساس للنظام السياسي في لبنان، اتفاق الطائف، يأخذ اسمه من اسم المدينة السعودية التي شهدت توقيع الاتفاق. ومن المثير للسخرية أنه مع الدور التاريخي الذي لعبته المملكة العربية السعودية في المساعدة على إخراج لبنان من الهاوية، فإن المملكة تحاول تفصيل تغيير في لبنان بشكل يدفعها قريبا جدا من حافة الهاوية.
إذا قررت السعودية استخدام جميع أوراقها المالية، فإن الاقتصاد اللبناني الهش سوف يتضرر كثيرا. ولكن غياب الدعم المالي السعودي يمكن أن يوفر لإيران أيضا فرصة مثالية للتدخل مثلما كان الحال في أعقاب الحرب بين (إسرائيل) وحزب الله في عام 2006، حيث قدمت المساعدة الاقتصادية والاجتماعية الحيوية للمحتاجين وهو التحرك الذي أعطى حزب الله في لبنان دفعة شعبية هائلة وأدى إلى حصوله على مكاسب سياسية غير متوقعة خلال اتفاق الدوحة في عام 2008.
وقد حاولت المملكة تسويق سحب دعمها للبنان في إطار كونه ناجما عن بعض الخلافات الدبلوماسية البسيطة. وهذا هو محض خيال. في الواقع فإن قرار السعوديين باتخاذ إجراءات عقابية ضد لبنان هو حيلة تهدف للتغطية على عجزها عن التغلب على النفوذ الإيراني. وهذه مناورة يائسة وخطيرة قد تؤدي إلى نتائج عكسية تتمثل في المزيد من تهميش المملكة العربية السعودية، والمساعدة في تشديد قبضة حزب الله على البلاد.
أضرار سياسية
ولعل ما هو أكثر شدة من النكسة الاقتصادية التي يمكن أن تنجم عن قرار السعودية سحب الدعم المالي عن لبنان هي الأضرار السياسية المحتملة التي يمكن أن تصيب الحكومة العاجزة في البلاد. يوم الأربعاء الماضي، فشل مجلس النواب اللبناني للمرة الـ36 في خلال عامين في انتخاب رئيس. وقد أدى الجمود السياسي الذي طال أمده بين التحالفين الرئيسيين في البلاد إلى جمود طويل الأمد في رأس السلطة في البلاد.
بدون وجود رئيس لقيادة السلطة في البلاد، فإن لبنان قد يسقط في فترة من الضمور السياسي الذي قد يمس قدرة الحكومة على العمل على نحو فعال. استمرار فقر الدم السياسي في لبنان يسمح لحزب الله بحرية أكبر لمتابعة جدول الأعمال السياسي والعسكري الخاص به. يتم التحكم في الحكومة المجزأة من قبل إيران، وتضع المعارضة المدعومة من السعودية في وضع غير موات، حيث إن البرلمان هو الساحة الوحيدة التي يمكن لتحالف 14 أذار أن يفوز فيها على حزب الله.
لكن سحب المملكة العربية السعودية المفاجئ للدعم سوف يجعل التفاوض على حل سياسي للأزمة أمرا أكثر صعوبة. عاد «سعد الحريري»، الزعيم المحاصر لتيار 14 أذار مؤخرا إلى لبنان من المنفى الذي أقام فيه، منذ انهيار حكومة الوحدة الوطنية التي قادها تحت ضغوط سياسية من حزب الله في عام 2011. ومع الذكرى الـ11 لوفاة والده، فإنه لا يزال يعتقد أن اغتياله قد تم تدبيره من قبل حزب الله.
تتشابك السياسة والدين في لبنان. إذا أجبرت السعودية «الحريري» على مواجهة حزب الله سياسيا فإن المعركة التي ستنشب في قاعات البرلمان من المحتمل أن تلحقها موجة من أحداث العنف. يحاول السعوديون التلاعب بميزان القوى في لبنان ولكنهم اختاروا أن يفعلوا ذلك عن طريق زيادة تمكين حزب الله. إذا تعمقت الأزمة السياسية وفشلت البنية التحتية المالية في لبنان، فإن ذلك من شأنه أن يخلق عاصفة من المواجهات العنيفة بين الفصائل في لبنان. في محاولة لبسط نفوذها على أكبر حلفائها، فإن المملكة العربية السعودية قد وضعت دون قصد لبنان على طريق خطير جدا.
سوف تجر المعركة الجيوسياسية الممتدة عبر المنطقة بين إيران والمملكة العربية السعودية لبنان إلى مزيد من النزاع. أحيت البلاد الذكرى الـ40 للحرب الأهلية التي امتدت لأكثر من 15 عاما تحت شعار «لن يحدث مرة أخرى». هذا الشعور له صدى حقيقي في قلوب وعقول الكثير من اللبنانيين، وخاصة أولئك المعمرين الذين شهدوا ويلات الصراع بشكل مباشر. ومع ذلك، فقد مرت الكثير من الوقت منذ تلك الحرب المدمرة، والخوف من العودة إلى تلك الأيام المظلمة لن يحصن البلاد ضد التهديد الطائفي والسياسي المتنامي داخل حدودها.
الحكومة اللبنانية لا تملك الإرادة ولا القدرة على كبح جماح النفوذ الأجنبي المدمر الذي يعيث فسادا في المجتمع اللبناني سواء كان ذلك سعي إيران لفرض هيمنتها على بلاد الشام، أو التلاعب المالي والسياسي الصارخ للسعودية، وسوف يكون الشعب اللبناني هو الخاسر الأكبر في نهاية المطاف.