سيف دعنا- الاخبار اللبنانية-
«أتحدى أن يرفع منكم أحد عينيه أمام حذاء فدائي يا قردة» (مظفر النواب، «تل الزعتر»)
الفلسفة، حسب هيغل، «تصل دائماً متأخرة أكثر مما ينبغي بالنسبة لمهمة معرفة العالم».
فهي بوصفها «فكرة العالم»، لا تظهر «إلا حين يكتمل الواقع الفعلي وتنتهي عملية تطوره، فـ«ترسم لوحتها الرمادية لوناً رمادياً فوق لون رمادي»، كما جاء على لسان مفيستوفليس في مسرحية «فاوست» لـ غوته: «كل النظريات يا صديقي العزيز رمادية اللون، وشجرة الحياة الذهبية هي وحدها الخضراء». لهذا اختتم الفيلسوف الألماني تصديره لـ«فلسلفة الحق» كما يأتي: «آلهة الحكمة»، أو «بومة منيرفا»، كما سمّاها الرومان، «لا تبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل أسداله». فالفلسفة تبدأ باستيعاب أي حقبة تاريخية فقط حين توشك على الانتهاء وفيما العالم على أعتاب مرحلة جديدة.
بعد تسعة وأربعين عاماً على «النكسة»، وستة عشر عاماً على انتصار أيار ٢٠٠٠، وعشرة أعوام على انتصار تموز ٢٠٠٦، هذه هي الخلاصة: كان انتصارا حزب الله التاريخيان على العدو الصهيوني أكبر بكثير من أن يحتملهما نظام آل سعود والقوى المهيمنة على المنظومة العربية الرسمية المسمّاة «جامعة الدول العربية». فانتصار المقاومة لم يفضح قصور النموذج العربي الرسمي ولم يعَرِّ تواطؤه فقط، بل كشف وبوضوح عمق الارتباط البنيوي والمصلحي بين أقطاب المنظومة العربية الرسمية والاستعمار الصهيوني لفلسطين. فهذه المنظومة التي استولدتها الهزيمة وتطوّرت تدريجياً في أعقاب عام ١٩٦٧ كانت الرد الأكثر تشوّهاً على هزيمة العرب القاسية حينها، إن لم تكن الاستجابة الأكثر مثالية والتنفيذ الأكثر أمانة لشروط الهزيمة. كان تَشَكُّل هذه المنظومة الرسمية، وهيمنة آل سعود عليها تدريجياً، من أخطر آثار الهزيمة والعدوان، إن لم يكونا أخطرها على الإطلاق. ولأن انتصار أيار تحديداً، الذي أجمله السيد نصرالله بـ«إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، شكّل المحاولة العربية الجدية الأولى والوحيدة لإبطال مفاعيل الهزيمة المرة، فإنه كان في ذات الوقت، كما يبدو لنا اليوم، تحدّياً جدّياً لطبيعة المنظومة العربية الرسمية وماهيتها.
لهذا، إن أردنا أن نؤرخ لقرار آل سعود وجامعتهم باعتبار حزب الله «منظمة إرهابية»، علينا أن نبدأ من عام ١٩٦٧، وليس ٢٠١٦. فالقرار هو نتيجة لاستمرار وتصاعد مفاعيل الهزيمة في بنية المنظومة الرسمية العربية وتفاقم تماهيها مع مشروع الصهاينة الاستعماري في فلسطين. لا علاقة للقرار بأي دور لحزب الله في سوريا أو اليمن أو العراق، كما يدّعي أصحاب القرار ومن وافق عليه. هذه نظرة سطحية لا تبرر الهجوم على المقاومة منذ البداية، قبل أحداث سوريا واليمن والعراق، كما لا تبرّر أيضاً العدائية العربية الرسمية للمقاومة الفلسطينية منذ الستينيات (انظر مقالي هنا في «الأخبار» عن العداء للثورة الفلسطينية) أو تكفير الرئيس عبد الناصر «بالإجماع»، كما جاء في صحيفة «عكاظ» (العدد ١٠٢، ٢٣ أيار ١٩٦٢). هؤلاء، كما قال الشهيد غسان كنفاني، يحقدون على كل شيء ثوري، «من سبارتاكوس حتى تشي غيفارا». القرار مرتبط أساساً بدور حزب الله في فلسطين، ومن حاول، بالتالي، أن يأخذ موقفاً وسطياً بإعلانه تأييد حزب الله في فلسطين ونقده في سوريا كان جاهلاً بطبيعة القرار وأبعاده، إن كان حسن النية، أو كان متواطئاً سخيفاً في محاولة التذاكي على عقولنا، إن كان سيّئ النية. أما من كان موقفه الصمت والسكوت عن القرار من انتهازيين، فسيعرف قريباً أن القرار يطاله أكثر من حزب الله ذاته. حينها لا تلوموا إلا أنفسكم (ستفيدهم كثيراً قراءة كليلة ودمنة).
أبناء النكسة
النكسة، وليس النكبة، هي الحدث الأقسى والأخطر في التاريخ العربي المعاصر على الإطلاق. فحتى في نكبة عام ١٩٤٨، ورغم خطرها، لم يكن التهديد الذي واجه العرب حينها تهديداً وجودياً بحجم النكسة ــ وما نراه من تداعياتها اليوم في صيغة المنظومة العربية الرسمية التي يهيمن عليها آل سعود، هي فقط بعض تبعات الهزيمة واستجابة مثالية لشروطها. وإذا كانت النكبة قد شكّلت أساس تهديد وجودي للعرب وإمكانية استمرارهم كأُمة، أو لـ«كيان العرب»، كما كتب قسطنطين زريق في «معنى النكبة»، فإن فشل وقصور الرد العربي اللذين تجليا في هزيمة حزيران بعدها بتسعة عشر عاماً (النكسة)، ضاعفا من تبعات أخطارها أضعافاً. لهذا كانت النكسة النكبة مضاعفة باستيلادها لمنظومة عربية رسمية جديدة مثلت الاستجابة لشروط الهزيمة بدل الانقلاب عليها. لكن العجز العربي الذي تجلى في النكسة لم يقتصر على القصور السياسي والعسكري حينها فقط، بل كانت الحالة العربية بمجملها قاصرة. وفي الجانبين الفكري والثقافي تحديداً، يمكن ملاحظة مستوى تخلف الخيال العربي وانحطاط مستوى الحس السياسي والتاريخي. وليس أدل على ذلك من اختيار مصطلح «النكسة» ذاته للتعبير عن هذا التحدي الوجودي غير المسبوق.
لهذا، ربما كان الردّ الأمثل على النكسة هو ما كتبه العبقري يوسف إدريس. فوعي معنى الهزيمة وإدراك تبعات النكبة المضاعفة حينها احتاجا إلى خيال أديب وحِسِّه ليغطيا قصور الفكر السياسي العربي وتخلفه حينها: «والله حتى لو اضطررنا للمشي إلى قناة السويس وغزة والقدس بأيدينا الجرداء وهراواتنا، ولتحصدنا المدافع ما تشاء، خير ألف مرة من أن نظل هكذا واقفين في انتظار «جودو» أو يارينغ الذي لن يأتي أبداً... فلنتحرك بملاييننا الكثيرة المشتتة الجهود صوب القضية قبل أن تتحرك من تلقاء نفسها». كان هذا هو الرد الأمثل فعلاً على الهزيمة، لأن التشخيص الذي استند إليه هذا الرد كان ولا يزال أقسى وأخطر بكثير ممّا يمكن لمفهوم «النكسة» السطحي والساذج أن يمسك به أو يعبّر عنه. كان خيال الأديب إدريس أكثر إبداعاً وخصوبة، وحسّه السياسي والتاريخي أكثر تطوراً وعمقاً من الكثيرين الذين تعاطوا السياسة والعمل العام من أبناء جيله. هكذا رأى إدريس النكسة:
«لو كان ما حدث في ٥ يونيو قد حدث لشعب آخر، لترك كل شيء في حياته: الثقافة والسينما والحب وأي شيء، ونذر نفسه لعملية إثبات وجوده أولاً كإنسان يستحق الحياة على ظهر الأرض، أو لا يستحقها بالمرة... إن أيّ شعب في الدنيا ما كان باستطاعته الصبر على ما حدث في ٥ يونيو. أيّ شعب كان لا بد سيهب نفسه وكل ذرة وكل قدرة لديه وطاقة في سبيل محو هذه الصورة المشينة وإثبات أنه ليس شجاعاً فقط، وليس أقوى بكثير مما يظن أعداؤه، ولكنه قادر على النصر إذا شاء» (النص نشر في مقالين في جريدة الجمهورية المصرية في أعقاب الهزيمة. انظر غسان كنفاني. «فارس فارس». ص: ٦٢ـ٦٤). كانت فلسطين بالنسبة إلى العرب قضية إثبات وجود وستظل كذلك.
لكن قصور مفهوم النكسة يتجلى أكثر ما يتجلى في عدم كون «النكسة» في الحقيقة مجرد حدث عابر أو مجرد هزيمة عسكرية أخرى يبطلها مجرد «إزالة آثار العدوان»، كما يشي المفهوم، بل في كونها عملية تاريخية مستمرة تصاعدت وتتصاعد وستتصاعد مفاعيل تبعاتها يوماً بعد يوم ما عجز العرب عن إبطالها بالقوة وإثبات الوجود الذي لا ولن يتحقق إلا بسحق العدو الوجودي وكسر عموده الفقري مرة وإلى الأبد. ومفاعيل هذه الهزيمة القاسية هي التي قادت لتشكل المنظومة العربية التي قادها أولاد سعود في أعقاب الهزيمة، فأصبحت على شاكلتهم. «النكسة» هي التي استولدت منظومة آل سعود العربية واستولدت مكانة نظام آل سعود الإقليمية بضربها لمكانة مصر. ومنظومة آل سعود تصرفت منذ البداية بأمانة منقطعة النظير والتزام غير مسبوق بتطبيق شروط الهزيمة. ربما يكون المثل الصارخ هو في إقرار «الجامعة العربية» لـ«مبادرة آل سعود للسلام» التي وصفت الصراع العربي الصهيوني للمرة الاولى في الأدبيات العربية الرسمية بـ«النزاع العربي الإسرائيلي»، ووعدت العدو بالتطبيع مع كل العرب والمسلمين («إنشاء علاقات طبيعية») وتنازلت فعلياً عن حق اللاجئين في العودة («التوصل إلى حل عادل لقضية اللاجئين») في حال قبل العدو بالمبادرة. من فوجئ بتوصيف حزب الله بـ«الإرهابي» وصدمته حالة العفن التي أصابت هذه المنظومة الرسمية العربية، لا يبدو أنه قرأ نص مبادرة عبدالله بن عبدالعزيز. كانت هذه المبادرة هي النتيجة الحقيقية للهزيمة، وأحد أهم آثارها التي يجب على العرب من أجل إثبات الوجود اقتلاعها من جذورها. وكانت تلك المبادرة، كذلك، النتيجة الأكثر مرارة للاستسلام.
كنا نظن أن أقصى وأقسى مفاعيل الهزيمة هو في اعتراف العرب بالكيان الصهيوني وتنازلهم عن ثلاثة أرباع فلسطين. لكن أولاد سعود فاجأونا مرة أخرى بقدرتهم على جرّ الأمة إلى هاوية جديدة بلا قعر، حين أصبحت «الجامعة العربية» تشبههم ولا تشبه العرب. ومن فوجئ بتبنّي وزراء الداخلية والخارجية العرب للدعاية الصهيونية عن حزب الله (الإرهابي)، فلربما لم يكن يعلم أن هؤلاء الوزراء أنفسهم هم من جلسوا كالتلاميذ النجباء مع وزراء خارجية دول إسلامية (٢٩ وزيراً بالتمام والكمال) يستمعون إلى خطاب رئيس دولة الكيان شمعون بيريز في بداية كانون الأول ٢٠١٣ في قمة الخليج الأمنية التي عقدت في أبو ظبي، بحضور ابن عبدالله ذاته، كما سرّبت صحيفة «يديعوت أحرونوت».
ثم جاءنا نصرالله
قبل سبع سنوات، كتبت هنا في «الأخبار» ما يأتي: «انتصار حزب الله في أيار أبطل مفاعيل هزيمة ١٩٦٧». فانتصار المقاومة في أيار أعاد القضية العربية المركزية إلى المربع الأول، إلى عام ١٩٤٨. وليس ذلك فقط لأن المقاومة هزمت الكيان الصهيوني في الميدان وأذلّت قوات النخبة عنده. وليس ذلك أيضاً لأن المقاومة أجبرت العدو على الانسحاب تحت زخات الرصاص وبلا اتفاق، مجترحة نموذجاً عبقرياً جديداً في المقاومة والتحرير تجاوز النموذجين الجزائري والفيتنامي (ووضعته في تصرف المقاومة الفلسطينية كما جاء في خطاب السيد حينها)، بل لأن المقاومة فوق كل ذلك أعادت ترتيب الأولويات العربية ووضعت فلسطين أولاً وفتحت أفقاً عربياً جديداً على المستقبل وعلى إمكانية الانتصار كان مسدوداً منذ النكبة. فحتى انتصار أيار ٢٠٠٠، لم يكن بمستطاع أي عربي حتى مجرد تخيّل الكيان الصهيوني مهزوماً، حتى لا نقول تخيّل فلسطين كلها حرة (هل هناك تفسير آخر لانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الثانية المغدورة مباشرة في أعقاب الانتصار في لبنان في أيار؟).
وانتصار حزب الله أبطل مفاعيل الهزيمة المُرّة أيضاً لأن المقاومة، بانتصارها في أيار ٢٠٠٠ وإعادة انتصارها مرة أخرى في تموز ٢٠٠٦، أعادت تشكيل الوعي العربي بإعادة تعريفها للعدو (أوهن من بيت العنكبوت) وبالتالي، وبالضرورة، إعادة تعريفها للذات العربية. لم يتسنّ للراحل يوسف إدريس أن يشهد انتصار المقاومة في أيار ولا سماع خطاب السيد نصرالله يومها، لكنه كان حتماً سيرى فيهما ما كان يحلم به من إثبات لوجودنا كأمة وإعادة اعتبار لكرامتنا وتحقيقاً لوعد جدارة أمتنا وحقها في الحياة.
لكن بعض العرب أساؤوا فهم انتصاري أيار وتموز بالضبط لأنهم أساؤوا فهم هزيمة حزيران. خانتنا حينها أدواتنا اللغوية وتراثنا النظري والخيال المعادي للكولونيالية لمن سبقنا من عرب. خانتنا كلمة «النكسة» كما خانتنا من قبلها كلمة النكبة بقصورهما وعجزهما عن الإمساك بطبيعة ومعنى وماهية أهم حدثين في التاريخ العربي المعاصر على الإطلاق. خانتنا النكبة وخانتنا النكسة بوقوفهما فقط عند حدود توصيف ساذج وسطحي لأهم حدثين في تاريخنا المعاصر. وليس ذلك صحيحاً فقط لأنهما لم تفتحا أمامنا أفقاً ولم تضعا أسس مسار للمستقبل، بل لأن خلفية المفهومين كانت حداثية ــ غربية ــ استعمارية بامتياز. كان توصيف العرب لحدثين استعماريين بأدوات نظرية استعمارية كفيل وحده بسدّ كل الأفق وإغلاق كل المسارات أمامنا. هكذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه. كانت الهزيمة مزدوجة: استعمار الأرض واستعمار العقل، وهو ما عجز عن التعبير عنه أيضاً مفهوم النكسة. هكذا ولهذا هيمن آل سعود.
وإن لم يكن القصور النظري واللغوي سبب الهزيمة، وإن كانا فعلاً نتيجة لحالة الوطن العربي ولماهية المنظومة العربية الرسمية التي ترى تحدياً وجودياً مع كل أفق مفتوح، فإنهما، رغم كل ذلك، من أهم المتغيرات التي ترسم المسارات المستقبلية وتشكل الافق السياسي. لكن، وفي الحالتين، وبسبب القصور الفكري واللغوي، كان المسار يقود إلى التسوية فيما بقي افق الانتصار مسدود.
ثم جاءنا السيد نصرالله. كان يحفر المفاهيم الثورية والمقاوِمة من فولاذ البنادق ودماء الشهداء، فكانت «أوهن من بيت العنكبوت». جاءنا نصرالله فأعاد بالدم والشهادة الاعتبار إلى الأمة وإلى فكرة المقاومة في الفكر الثوري الأصيل، فكانت «مصيرك بيدك». «مصيرك بيدك» هي الصياغة الأكثر عبقرية للحكمة العربية التي جاءت على لسان أبو القاسم الشابي عن «إرادة الحياة» والحكمة الغرامشية عن «تفاؤل الارادة» وأولوية الفعل الجمعي الانساني في التاريخ. «مصيرك بيدك» هو الإعلان الأكثر وضوحاً لانتصار فلسفة مركزية الانسان وإرادته في التاريخ على فلسفة بنيوية ورؤى تيليولوجية تنتج بالضرورة تشاؤم العقل وتغييب الارادة، كما نرى في نموذج منظومة آل سعود الذي استولدته النكسة. جاءنا نصرالله فعادت فلسطين أولاً ودائماً وأبداً، كما ينبغي أن تكون («وبالنسبة إلى طلب الانسحاب من الصراع العربي ــ الإسرائيلي» يقول السيد في حوار مع جريدة «الرأي» الكويتية «قلت للوسطاء إنه إلغاء لحزب الله، لعقله وقلبه، وإلغاء لدماء الشهداء وخيانة لدموع عوائلهم ولأهلنا وتضحياتهم، وهو تخلّ عن واجبنا الشرعي والديني في نصرة فلسطين» (الرأي الكويتية، 16 تشرين الثاني 2001). جاءنا نصرالله، فكان حزب الله الردّ العربي الأمثل للمقاومة. كان النموذج العربي المحلي الأصيل الأول للمقاومة في بلادنا. لغته عربية، مفاهيمه عربية، تجربته عربية، رؤيته عربية، مساراته عربية، آفاقه عربية، التزاماته عربية، أحلامه عربية، وطموحاته عربية، وبوصلته فلسطين. لم يرق ذلك الكيان الصهيوني ولا آل سعود ولا جامعة القرود.
جامعة القرود
«توقف الإنسان عن أن يكون قرداً وتغلب على تلك الحالة في اليوم الذي نَشَرَ فيه الكتاب الأول»، كتب يوجين زامياتين صاحب الكتاب العبقري «نحن». لكن القرود، يقول زامياتين، لم تنسَ هذه الإهانة على الإطلاق: «جَرِّبْ فقط أن تعطي قرداً كتاباً وسترى كيف سيفسده على الفور، وكيف سيمزّقه إرباً». يصعب، طبعاً، تخيّل أن زامياتين كان يقصد القرود فعلاً. فلا يمكن أن يكون القرود القرود، كآل سعود، يكرهون الكتب، والشعراء، والكتاب، والثقافة، والفكر، ويصعب تخيّل أن القرود، كآل سعود أيضاً، يخشون العقل ويرون فيه تحدياً وجودياً. استدخال القرود هنا هو في الحقيقة ليس أكثر من حيلة، أو تقنية قديمة في الكتابة لا تزال صالحة حتى الآن لتجنّب بطش أنظمة القهر. ومن يعرف شيئاً عن هذا التقليد يعرف أنه من أجل المبالغة في توصيف الغباء أو للمبالغة في الاحتقار، يعمد الكاتب عادة إلى استخدام وصف القرود، لا الحمير كما هو شائع بين الناس (كان السيد نصرالله مؤدّباً فوق العادة حين استخدم مصطلح التنابل). مَنْ مِنَ العرب لا يذكر توصيف مظفر النواب في قصيدته «تل الزعتر»: «الحكام القردة/ سلطات القردة/ أحزاب القردة/ أجهزة القردة». لكن نسي شاعرنا الفذ أن يضيف فوق كل ذلك: «الوزراء القردة/ جامعة القردة».
ومثل قرد زامياتين الذي لم يستطع نسيان الإهانة التي مثّلها له نشر الكتاب الأول، فإن آل سعود، ومعهم جامعة القرود، لم يستطيعوا أن ينسوا الإهانة التي وجّهها لهم حزب الله بتحرير الأراضي العربية المغتصبة في لبنان والإصرار على الاستمرار في المقاومة ورفع شعار «الطريق نحو القدس». لم يستطيعوا أن يتجاوزوا الفضيحة الكبرى التي يمثلها إنجاز المقاومة للمنظومة العربية المتعفنة التي كانت تخطب ودّ العدو في كل لقاء قمة. لم يستطيعوا أن يحتملوا لسع اللطمة الشديدة على وجوههم وهم يشاهدون من راهنوا عليهم من قوات النخبة الصهيونية يهربون من الميدان. هالهم ما حصل: كيف تستطيع مجموعة صغيرة من الأبطال، في إحدى أصغر الدول العربية، المتواضعي التسليح، سحق الجيش الذي عملوا على تذكيرنا كل يوم، من أجل تبرير تفريطهم بحقوق الأمة، بأنه «لا يقهر»؟ كيف يجرؤ هؤلاء المقاومون على إحراج قردة المنظومة الرسمية وسادتهم من آل سعود الذين أصرّوا على أن استعادة (وليس تحرير) حتى قسم صغير من فلسطين لن يأتي إلا من بوابة مصافحة العدو والوقوف على بابه والتذلل أمامه؟ كيف يجرؤ قائد تلك المقاومة على أن يستبدل شعار «الجيش الذي لا يقهر» بـ«أوهن من بيت العنكبوت»؟ كيف يجرؤ على أن يقول لشعوب أمتنا «لستم نعاجاً: مصيركم بيدكم»؟ لكن قرود الجامعة الذين لا يقرؤون ولا يتعلمون لا يعلمون أن المقاومة حتماً ستنتصر وأن قرارهم في النهاية سيرتدّ عليهم. ولو لم يكره آل سعود وقردة الجامعة الكتب، مثل قرد زامياتين، لعرفوا أنه ما كان عليهم أن يتكلّفوا من القول والفعل ما ليس من شأنهم وما فشل به صاحب الشأن. ولأنهم جرّبوا ما فشل فيه العدو، مثلهم الأعلى، فسيكونون سعيدي الحظ إن كان مصيرهم في أحسن الأحوال كمصير القرد في قصة «القرد والنجار». جاء في كليلة ودمنة:
قال كليلة: «زعموا أن قرداً رأى نجاراً يشق خشبة بوتدين له راكباً عليها كالأسوار على الفرس، وأنه كلما أوتد وتداً نزع وتداً فقدمه. ثم إن النجار قام لبعض أموره، فانطلق القرد يتكلف ما ليس من صنعته ولا من شأنه، فركب الخشبة وجعل ظهره قبل الوتد، فتدلى ذيله في ذلك الشق وعالج الوتد لينزعه. فلما انتزعه انضمت الخشبة على ذنبه فخرّ مغشياً عليه. فلم يزل على تلك الحالة حتى جاء النجار، فكان ما لقي القرد من صاحبه من الضرب أشد من ذلك».