محمود العدوي- الاخبار اللبنانية-
أثار قرار السلطات المصرية بتغطية تمثال إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، جدلاً واسعاً، خصوصاً عندما مرّ الموكب المشترك للرئيس المصري، عبد الفتّاح السيسي، والملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز، من أمامه. فابراهيم باشا قاهر الدولة السعودية الوهابية في بدايات القرن التاسع عشر، حين قضى عليها وعلى أحلامها.
ومراعاةً لمشاعر الضيف السعودي حسمت القاهرة قرارها بحجب التمثال عن عيون بن عبد العزيز. الأمر المثير للجدل، سبقه أمر آخر، كان أشد وأقوى. وقّعت مصر مع السعودية سبع عشرة اتفاقية تنازلت رسمياً، في إحداها، عن جزيرتي تيران وصنافير، لصالح المملكة. لم يكن التوقيع المصري ضرباً من جنون، بل جاء بكامل القوى العقلية للدولة المصرية.
يعدّ المصريون في تاريخ بلادهم تنازلات حكوماتهم. هي جرائم لا تغتفر. لم يغفروا لأي مصريٍّ أساء إليهم وإلى وطنهم. لم يغفروا للخديوي سعيد حينما أباح للفرنسيين دماءهم في حفر القناة. ولم يغفروا، أيضاً، للخديوي توفيق مساعدته للإنكليز في احتلال مصر. لم ينسوا دور الهلباوي في شنق الفلاحين في فاجعة دنشواي... يستذكرون، حتى الآن، دور عبد الحكيم عامر السلبي في فرط الوحدة بين مصر وسوريا، وإدارته السيئة للجيش في النكسة. لم يسامحوا السادات على «معاهدة السلام». ولم يعفوا عن مبارك مشاركته في الحرب على العراق. لم ينسَ المصريون قطيعة مرسي للثوار، وانحيازه لجماعته وعشيرته.
دائماً كانوا يضعون أحكامهم في نكات، ويصيغون أحاديثَ وحكاياتٍ لا تُنسى عمن خذلهم. كان هذا سابقاً. اليوم، ورغم أن الجيل الحالي عَصَف بـ«الديكتاتورية المباركية»، ومن خلفه بـ«أباطرة الرأسمال»، لكنه لم يستطيع أن يستوعب صدمة تنازل مصر عن الجزيرتين. ربما لما يسمع الكثير من المصريين عنهما، لكنهما كانا كحجر ثقيل، هبطَ فجأة على قلوبهم، فزاد ثقلاً على الثقل الجاثم فوق صدورهم.
قبل ليلةٍ من زيارة ملك الرمال، كانت أصوات الشباب المصري تعلو في مواجهة نظام، ظلّ على مدار سنةٍ كاملة، يقهر ثورةً أتت به، ويقمع شباباً لم يتوانوا عن فضح رعونته وضعفه. بعد «30 يونيو» اجتاح «هوس الإمبراطورية» خطاب السلطة، وافترس في مخيلتها بذرة الدولة الديموقراطية، والتي كانت أحد أهم أهداف «ثورة 25 يناير». زرع سيّد قصر الاتحادية في ذهن المواطن هوسه بأن يصبح «إمبراطوراً». بدءاً من اعتقال قائد «الأسطول السادس عشر الأميركي» في البحر المتوسط، وحفر قناة السويس الجديدة، واكتشاف علاج لمرض «الإيدز»، وفيروس «الكبد الوبائي» عن طريق جهاز الكفتة والمشاوي. مّهد المشير لامبراطورية تشبه السيرك، لكنه حكمها ببزّة رئيس الجمهورية.
على الساحل المقابل من البحر الأحمر يستقرُّ هوسٌ آخر. هناك إمبراطورية لها من العمر قرنان. همّها استعادة عالم احتكره الدين الجديد والخلافة الإسلامية التي أدمت المنطقة ببحور من الدماء. وكلما ضعفت الخلافة أو وهنت حاولت أن تعود مجدداً، إلى أن خبا «هوسها» في سياق التطور اللامتكافئ بينها وبين دول الثورة الصناعية. دخل الهوس في سبات عميق، لقرونٍ طويلة، لكنه استفاق وتأجج بفعل السولار والنفط والدولار، في العقود الأربعة الأخيرة. ترجم هوس الإمبراطورية لدى حكّام آل سعود جناحا الصراع داخل الأسرة الواحدة بطريقتين مختلفتين: إمّا المال أو الإرهاب. اختمرت التجربة في النهاية في دمج الوسيلتين. ففي عهد عبد الله، بات سلمان ولياً للعهد. وحينما تربّع على عرشه، اختبأ في عباءة الملك العجوز ابنه المغامر. تجاوز هوسهما كل السخافات والهراء الذي يدعيه الممسكون بمقاليد السلطة في مصر. تجاوزا الضغط والمحاسبة، ووصلا الى مرحلة الاستحواذ والسيطرة والاستيلاء على ما فُقد منذ الخلافة الأولى. ورغم تغطية تمثال إبراهيم باشا بملاءات الخضوع وستار الخنوع، فإنه لا يمثل سوى ستارٍ واهٍ، لن يكون بمقدور أحد أن يديمه عليه طويلاً. ليس ذلك تقديساً لإبراهيم باشا.
لم يحمل دماء المصريين، ولم يتحدّث العربية بسهولة. لم يفعل ما فعله حاكم مصري ظل يتحدث لسنة كاملة عن إمبراطورية تتجاوز حدود المجرة، وتغيظ الملائكة في الملكوت بعظمتها.
وبالعودة للعلاقات المصرية ــ السعودية، فقد اتسمت بالتناحر والتنافس طوال القرون التي تلت ظهور الإسلام. وكفرسي رهان في المنطقة، كان المصريون يعتبرون أنفسهم إمبراطورية بلا حدود ذات ثقافة عالمية، لا يتم اختزالها مهما تغيرت ملابس البعض من حكامهم، وتلوت ألسنتهم، وأطلقوا لحاهم. كان المصريون يصرّون دوماً، وفي أقصى حالات الانحدار والسقوط، على أنهم قلب المنطقة. وربما كما قالها، حين تنازل عن تيران وصنافر، «أدّ الدنيا».
تلك العلاقة المعقدة بين الجمهورية والمملكة لم يستسغ المصريون فيها الدونية، ولذلك كان رد فعل الشارع المصري أكبر مما تخيله من تواطؤ في التنازل عن الأرض المصرية، مقابل أن يكون لهم دورٌ في لعبة المال والسياسة، بمكانيزمات المملكة المهووسة بتوسيع رقعة سيطرتها على أرجاء المنطقة كافة.
ما لم يؤخذ بالحرب والإرهاب، يتم شراؤه بالمال. هكذا صاغت السعودية سياستها منذ السبعينيات. لم يتسن لأحد أن يدرك هذا الدور وهذه اللعبة إلا خلال السنوات القليلة، حينما أفاقت الذهنية العروبية المدافعة عن النموذج العروبي والقومي على وهم التكامل والتكافل، والارتباط الجيوسياسي بانطلاق المشروع السعودي المتجاوز لثقافات المنطقة، والمتمسك بـ«شعرة معاوية»، ما بين عقلانية السياسة وجنون التملك والاستحواذ.
الحالة المصرية ــ السعودية المتمثلة في تنازل مصر عن جزيرتين لا تتعدَ مساحتهما 120 كيلومتراً، تمثل في هذه اللحظة ما يزيد عن ألف وخمسمائة عام على التنافس بين إمبراطوريتين. إحداهما تحمل بداوة الصحراء وهوس القتل والتدمير، والأخرى تحمل في جوفها حضارة لم تستطع السعودية، ولن تستطيع أن تشتري بكل نفطها، ما يوازي معبداً من معابد الحضارة البائدة. في اليوم التالي للبيان، والذي قدّمت فيه الحكومة المصرية الجزيرتين وأعلنت أنهما تقعان داخل الحدود الإقليمية البحرية للسعودية، انطلقت على شبكة «الإنترنت» حملة ترفض قرار الحكومة المصرية، واستطاعت أن تجمع بأقل من أربع ساعات حوالى أربعة آلاف متضامن (بمعدل ألف شخص كل ساعة). ورغم عدم انتشار الحملة، إلا أنه من المتوقع أن تصل إلى رقم يفوق التوقعات العادية، لمّا كان النظام المصري قد خلق من الخصوم ما يفوق طاقته، واستطاع في أقل من عام أن يخسر الظهير الشعبي والرأي العام للشارع، ولم يتبق حوله سوى رموز وتابعي النظام السابق. في وضع يشبه إلى حد كبير وضع نظام مبارك في آخر عام أو عامين من حكمه. هكذا تسقط أوهام الإمبراطوريات حينما تكون دعائمها تكرار أخطاء من سبق وباحترافية أيضاً.
لا تخرج إشكالية التنازل عن الجزيرتين عن الدوران في فلك إعادة تقسيم المنطقة إلى قطبيين أساسيين: السعودية وإيران. ومن خلفهما تقوم الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بلعب دور المصنع، وعلى السعودية وإيران لعب دور الوكلاء في المنطقة. واعتقد أن الصراع من دون تسطيح وَصفِه لا يخرج عن صراع وكلاء «تويوتا» مع وكلاء «هيونداي». فالوكلاء في النهاية يبيعون السلعة لصالح المصنع، بينما المشترون هم من يقودون سياراتهم إلى الهاوية.
لم يمر الموكب من أمام التمثال المغطّى فقط ليقهر من لم يُقهر في صحراء الجزيرة العربية، لكنه أيضاً ليعلن له عن اغتياله بكل فخر في قلب عاصمته. أقل من كيلومتر واحد هي المسافة بين البرلمان المصري، حيث جلس تحت قبته الملك السعودي، وبين إبراهيم باشا المخنوق وسط ميدان تراصت فيه طاولات الباعة الجائلين وسيارات «السرفيس». كان الملك السعودي في أبهته يضع لمساته الأخيرة على استعادة امبراطوريته المفقودة بأيدي نفس الدولة التي انتزعتها منه ومن أجداده.
لهوس الإمبراطورية صفحات أكثر من ذلك، ولكنها أكثر الصفحات ألماً ووجعاً. فلم تتنازل أي دولة أبداً مهما كانت عن أرضها بنفس السهولة التي تنازلت بها تلك الدولة وذلك النظام. كانت الحكومات ترفض وهي تتنازل وتصرخ وتقول إن التاريخ سيكتب عنها أنها رفضت، لكنّ القوة والسلاح أرغماها على التنازل.
أما هذه الدولة التي لا تتجاوز مساحة ما تحكمه بالفعل سوى صور الأقمار الصناعية وأرقام على الورق، تحدد جغرافيا دولة لا تعني لهم أكثر من مجرد صفقة، لا تزيد ولا تقل عن بيع مصنع أو شركة. لطالما كان النظام المصري يدلل عليها ويعرضها للبيع للمستثمرين العرب، لكن هذه المرة كانت الشركة أكبر والصفقة أخطر. لقد كانت صكاً بالتبعية وصفقة لن يكسب منها المصريون سوى صفحة سوداء أخرى في حياتهم كتبها حاكم ووافقت عليها بطانته.
تصعد الإمبراطوريات وتسقط. يسطع نجم الأباطرة ويأفل. تهيج الجماهير مع انتصارات الإمبراطورية وتصمت مع هزائمها. لكن شيئاً واحداً لا نقيض له: التاريخ. لا يوجد ما يعادله من نقيض. كتب التاريخ عن الإمبراطوريات والاباطرة، عن مواكب النصر وطوابير الأسرى، عن الشرف والخيانة، عن كل النقائض كتب. ستظل تلك السقطة في التاريخ المعاصر لا تساويها أي سقطة أخرى.