علاقات » عربي

ورطة الاتفاقية

في 2016/04/30

جميل مطر- الشروق المرية-

وقعت مصر والمملكة العربية السعودية اتفاقية وضعتهما فى ورطة. الاتفاقية التى أعنيها هى تلك التى أعلن عن توقيعها بشكل مفاجئ، وجاء فيها اعتراف حكومة مصر بملكية المملكة السعودية لجزيرتى صنافير وتيران الواقعتين على مدخل مضيق العقبة.

أما الورطة فناتجة عن أن الدولتين وقعتا الاتفاقية بدون تجهيز وتحضير مناسب للرأى العام فى الدولتين، الأمر الذى خلف لدى الكثير من المعلقين انطباعين على الأقل، أولهما أن شرائح كثيفة من الرأى العام فى إحدى الدولتين، وهى مصر، غير مقتنعة على الإطلاق بحق حكومتها فى تقديم هذا الاعتراف أو بحق الطرف الآخر، أى المملكة السعودية فى ملكية الجزيرتين.

معنى هذا الشك الواسع الانتشار هو أن الاتفاقية بشكلها الحالى وقبل التصديق عليها لا يتوفر لها حتى الآن عنصر الرضاء، وهو العنصر الضرورى لتأمين الاتفاقية وتحقيق القبول العام، أى الشرعية الواجبة.

الانطباع الثانى الذى تولد عن الإعلان المفاجئ للتوقيع والتعتيم الذى أحاط بمفاوضاتها والأجواء العقيمة، التى سادت خلال إعدادها، هو الاعتقاد بأنها رغم أهميتها الفائقة، الإقليمية والوطنية، لم تحصل على الاهتمام الكافى والإعداد الجيد.

إذ لم يعلن عن أسماء معروفة من القانونيين، والأكاديميين، والدبلوماسيين المخضرمين تولت المفاوضات والدراسات والبحوث على عكس ما حدث مع المجموعة، التى تولت مفاوضات طابا، ففى تلك المفاوضات توفرت أقدر الكفاءات المصرية فى ميادين الجغرافيا والتاريخ والقانون الدولى العام والخاص وميادين العسكرية ودبلوماسيون مشهود لهم بالامتياز، وقادها الخبير الدولى والدبلوماسى المخضرم السفير نبيل العربى.

واللافت للانتباه أننا لم نسمع عن فريق سعودى مشكل من أساتذة قانون ودبلوماسيون ذوى خبرة وسمعة دولية مرموقة أدار التفاوض مع الفريق المصرى. حدث الأمر كما لو أن الاتفاقية صدرت عن مجموعة موظفين تخجل حكومتا الدولتين من إذاعة أسمائهم.

يصعب تصور أن تواصل الدولتان تجاهلهما الغريب لموقف الشرائح المصرية المتشككة فى سلامة هذه الاتفاقية، والمتسائلة عن أسباب إفتقارها إلى «وثائق» حقيقية ومؤكدة ومحل ثقة. إذ أنه فى ظل هذه المشكلة، إن استمرت بدون حل، يمكن أن يؤدى النقص فى الرضاء العام وعدم الإفصاح عن تشكيل فريق التفاوض المصرى ونوعية الكفاءات والقدرات، التى اشتركت فى المفاوضات، أو جرى الاستعانة بها، إلى أن تتحول الورطة الراهنة إلى أزمة «مستدامة» تهدد استقرار العلاقات بين الدولتين، وبالتالى تهدد أمن وسلامة المنطقة العربية.

أعرف أن الأمل لدى الدولتين، ودول أخرى، كبير فى أن يكون عدم الرضاء الشعبى فى مصر ناتجا عن انفعالات عاطفية وما هى إلا فترة زمنية قصيرة وتبرد الانفعالات، وتهدأ الأمور وتستقر الاتفاقية. أعرف فى الوقت نفسه، أن حرب 1967 مازالت تعيش كالمأساة التاريخية فى وعى الشعب المصرى وترفض أن تنزاح. لا تقع واقعة أو تسوء حالة أو تتعقد أزمة إلا ونلقى باللوم على هذه الحرب التى جلبت علينا، وربما على الأمة العربية بأسرها، الدمار والخراب. كسرت النفوس وحطمت الكبرياء، وأصابت بالخيبة هيبة الدولة المصرية، وعطلت عملية البناء الوطنى والقومى. 

حرب 1967 جرح عميق فى الشخصية المصرية وشرخ لم يندمل أصاب الدولة المصرية والبنية العربية، يذكرها الكبار ويدرسها الصغار وتلقى بعبرها فى خطاباتنا وكتاباتنا. نذكرها بكل سوء. نذكر أيضا أنها قامت بحجة إغلاق خليج العقبة فى وجه الملاحة الإسرائيلية. لم يعرف المصريون وقتها أو قبلها أو بعدها أن المضيق ملك للسعودية فضلاً عن أنها لم تكن طرفا فى الإعداد للحرب. كل ما عرفوه وقتها هو أن المملكة طرف فى حرب ضد مصر فى اليمن.

أخطأ طرفا الاتفاقية حين تفاوضا فى السر وفرضا الكتمان، ولكن كانت هناك أخطاء وظروف لم تكن بأقل شأنا أو أهمية، فقد أعلنت الاتفاقية فى أعقاب شهور عديدة من الحملات الإعلامية أساءت إلى الطرفين معا. كان غريبا، ولافتا إلى أن يشن إعلاميون سعوديون حملة مقالات ضد النظام فى مصر وضد مصر ذاتها خروجا على العادة السعودية بعدم استخدام الحملات الإعلامية كأداة فى السياسة الخارجية للمملكة. كانت الحملة عنيفة وغير معتادة ومثيرة لانتباه الرأى العام المصرى والعربى.

وفجأة، وبدون سابق تمهيد، يصدر الإعلان عن توقيع اتفاقية تقضى بتنازل الحكومة المصرية عن جزيرتى صنافير وتيران. بكلمات أخرى أعلنوا عن الاتفاقية والتنازل فى ظل تأثيرات هذه الحملة الإعلامية، وفى ظل شعور بالمهانة نتيجة إذاعة تسريبات ويكيليكس عن علاقات تمويل أجنبى تمارسها السفارة السعودية بالقاهرة مع شخصيات سياسية وإعلامية مصرية مرموقة.

من ناحية أخرى، تحملت الحكومة المصرية وحدها مسئولية إقناع الرأى العام المستاء أصلاً من الحملة الإعلامية السعودية ومن المفاجأة بجدوى الاتفاقية وسلامة الموقف المصرى والدفع بصدقية الوثائق المصرية، التى تثبت أحقية المملكة فى ملكية الجزيرتين، حدث هذا فى وقت بلغ التوتر السياسى الداخلى فى مصر حدا كبيرا، وكادت مؤشرات الحالة الاقتصادية تلامس حدود الأزمة.

حدث هذا فى غياب دعاية سعودية للموقف السعودى، كما لو كان الاتفاق خاص بمصر ولا يخص المملكة. كان الغريب فى نظر الرأى العام المسيس والمثير لسخريته وغضبه، أن تتولى حكومة مصر الترويج للموقف السعودى، وأن تكون «الوثائق» التى دعمت حق المملكة «وثائق مصرية».

نتحدث هنا عن قطاعات فى الرأى العام، ربما غير متخصصة، ولا تنتمى لطبقة النخبة المثقفة، فالحديث عن مواقف المتخصصين يطول بحكم أن أكثرهم تخصصا رفض اعتبار الشهادات والرسائل الدبلوماسية التى شهدت بأن المملكة تستحق ملكية الجزر فى مراحل وأخرى، لا ترقى بأى درجة قانونية إلى مرتبة الوثائق. الوثيقة القانونية الوحيدة التى لا يمكن إنكار شرعيتها كوثيقة قانونية، هى هذا الاتفاق الذى وقعه كل من المملكة والحكومة المصرية، تفاوضتا عليه فى الكتمان وأعلنته بشكل مفاجئ، وبتصرفات تثير الشكوك والظنون.

يبقى أن الطرفين تعمدا إخفاء حقيقة أن إسرائيل كانت فى مرحلة أو أخرى طرفا ثالثا فى المفاوضات التى توصلت إلى هذه الاتفاقية. لم يكونا فى حاجة للاعتراف بأن اتفاقية على هذه الأهمية الاستراتيجية للأمن فى الشرق الأوسط سوف تعقد بدون علم الولايات المتحدة الأمريكية وبدون علم حكومة الأردن، الطرف الرابع المطل على مياه الخليج.

قد لا يكون غياب الأردن واحدا من العوامل التى يمكن أن تثير مشكلة أو أخرى فى المستقبل بالنسبة للمشاركة فى أمن خليج العقبة، ولكن المؤكد أن إسرائيل ما كان يمكن أن تسمح باتفاقية تعقد بين طرفين فى خليج العقبة فى غيابها. لذلك جاء الإعلان، المثير أيضا لجدل عميق ومتشعب، عن أن الطرف السعودى وافق على الالتزام بشروط اتفاقية كامب ديفيد المتعلقة بمنع وجود عناصر وتجهيزات مسلحة من جانب الطرف السيد على الجزيرتين.

شخصية لها قيمتها الإقليمية، عبرت أمامى عن عدم رضاها عن الأسلوب الذى سلكته مختلف الأطراف بما فيها الطرف الإسرائيلى، وعن الجوهر الذى عبرت عنه الاتفاقية.

قال: غريب أمر السياسة فى الشرق الأوسط. يكلفون مصر بالدفاع عن الجزيرتين، فتدخل مصر حربا ملعونة دفاعا عنها، وحين تسعى لحل سياسى يعيد إليها بعض ما فقدت بسبب هاتين الجزيرتين تقرر الأطراف العربية عزل مصر وطردها من جامعة الدول العربية. وعندما احتاجت السعودية وإسرائيل إلى بعضهما البعض ضد عدو إقليمى ثالث دفعتا حكومة مصر للبحث عن وثائق تثبت بها أحقية المملكة فى الجزيرتين، كشهادة من مصر، توثق بها انتهاء دورها فى الصراع العربى الإسرائيلى.

البرلمان المصرى يستطيع أن يخلص الاتفاقية من ورطتها. يستطيع ذلك إذا امتنع عن التصديق عليها قبل أن يحصل لها على الرضاء الشعبى اللازم.

هذا الرضاء يمكن أن يتحقق إذا عرضت أمام البرلمان وفى جلسات مفتوحة جميع الحقائق المتعلقة بالمفاوضات ودور إسرائيل وأمريكا فيها. ويفضل أن يقوم البرلمان بالاستماع إلى آراء فريق من خبراء القانون الدولى.

وعندما يستشف البرلمان توفر الرضاء الشعبى يجرى التصويت لتحصل الاتفاقية على التصديق، وعندها فقط وليس قبلها، تكون لدينا ولديهم جميعهم «الوثيقة» الوحيدة، التى تثبت ابتداء حق المملكة السعودية فى تملك الجزيرتين.