ولعلي اليوم أطلب من سعادة سفيرنا الموقر في بغداد الأخ، ثامر السبهان، أن يسمح بتمرير مقال يعاكس أمواج السائد الغالب. جوهر المقال وصلبه إن اختصرته في جملة واحدة فإنها ستقول: لماذا جعلت من الدبلوماسية السعودية منازلة خفيفة جداً بحجم الذبابة أو وزن الريشة، وهي الدبلوماسية التي اشتهرت بإرثها التاريخي الطويل من الثقل والصبر والتحمل والتعقل؟
وسأكتب، أخي سعادة السفير، مبدئياً وبقناعة تامة، أنك صادق في كل ما قلت عن تعرضك للتخويف ومحاولات الأذى والاغتيال والتهديد الأمني لك ولمبنى سفارتنا الغالي علينا، ولكن: نحن أرسلناك إلى بغداد وإلى قلب ثعابين منطقتها الخضراء الشهيرة، لا إلى تلال العاصمة السويسرية أو مروج براغ الساحرة، وبالتالي كنا نتوقع منكم، يا سعادة السفير، أن تعي وتدرك طبيعة المهمة شبه المستحيلة. أرسلتكم الرياض إلى بغداد وهي تعلم مسبقا أنها ليست بحاجة إلى سفير ليبرهن لها حجم الانقسام الشعبي في العراق أو شكل التحالفات أو طبائع التهديد الأمني لمصالحها، فهذه أمور مكشوفة حتى أمام مراسل صحفي يكتبها في تقرير من مجرد ألف كلمة. لقد بعثك وطنك وأهلك إلى هناك وأنتم شخصيا كفؤ وبامتياز لهذه المهمة، ولكنني أربأ بكم أن تكونوا مثل الرياضي الذي يخرج من الميدان بعد وقت قصير محتجا على كل شيء نعرفه سلفا: من أرضية الميدان حتى الحكم وإزعاج الصافرة. أرسلناك لكي "تجحفل" إيران في نهاية المباراة، فإذا بالأخيرة تصعقنا بهدف من أول دقيقة.
سعادة السفير: في ظرف ستة أشهر فقط جمعت لكم شكاوى محاولات الاغتيال أو رفض بغداد نقلكم إلى مطارها بطائرة هيليوكوبتر أو تهديد المبنى والعاملين به وكل ما تبقى من تصريحات الغضب الساخنة. هذه حوادث وأفعال تتعرض لها بعثات وسفارات كل عواصم القرار العالمي، ومنها هذه "الرياض" التي مرت سفاراتها من قبل على هذا الخط في بيروت إلى إسلام أباد وطهران وكابل، بل حتى في القاهرة وواشنطن. وفي كل حدث وقصة جنح سفراؤنا هناك إلى الصبر وسياسة النفس الطويل وإلى صمت الدبلوماسية التي ترفع ما تراه إلى حكومة البلد المضيف في ظرف سري مغلق. أشكر لكم يا سعادة السفير موقفكم من أولادنا السجناء بالعراق، لكنني أختلف معكم في الطريقة، لأنها لا ولن تخدم ملفهم الدامي الذي كان يمكن علاجه بالسياسة والدبلوماسية ولقاءات الغرف المقفلة لا بالتصريحات على الأقنية والصحف. وتذكروا، يا صاحب السعادة، أن لنا سجناء في بعض عواصم الدنيا وأكثرهم يعود إلينا بفضل الحنكة والحكمة والصبر والنفس الطويل: نحن أصحاب الرقم القياسي في استعادة أبنائنا من "جوانتانامو"، ولا نعلم عن فرحة العائد إلينا في طائرة خاصة إلا مع اتصال الأصيل، محمد بن نايف بن عبدالعزيز، بأهله قبل سويعات فقط من وصول الرحلة.
هذه هي أعراف وتقاليد الدبلوماسية السعودية، وهذا هو تاريخها الذي لا يشبه سوى صبر صحراء نجد الغالية على حرارة كل الظروف، وثقل جبال الحجاز في وجه العواصف. يؤسفني، يا سعادة السفير، أنني أراها اليوم خفيفة جدا ومثل "رواق" خيمة في يوم عاصف، وكل ما سبق لا يمنعني من شكر سعادة السفير ورفع القبعة له على كل دقيقة قضاها خدمة لوطنه في أصعب مهمة وأعقدها لأي سفير سعودي على وجه الأرض. كل ما أطلبه أن يقرأ وجهة نظري التي لن تأخذ من وقته أكثر من ثلاث دقائق.
علي سعد الموسى- الوطن السعودية-