لم يكن مفاجئا أن يعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري وجود خلافات مع السعودية حيال سوريا، بل المفاجأة والغرابة تكمن في تأخر الإعلان عن هذه الخلافات بعدما باعدت ملفات المنطقة بين البلدين، ووضعت كلا منهما في محور إقليمي ودولي مناقض للمحور الآخر.
وتتضاعف الغرابة وتتزاحم الأسئلة حول الأسباب التي جعلت الطرفين يتمسكان بتحالفهما وإخفاء أي خلاف عن مسامع الإعلام، وإظهار مستوى عال من التحالف كما حدث مع زيارة الملك سلمان للقاهرة.
حكمت معادة الإخوان المسلمين العلاقة بين مصر والسعودية مع الملك عبد لله، بحيث يمكن القول إن العلاقة بين الجانبين اختزلت في هذه المسألة، وبقيت الملفات الإقليمية الأخرى في مستوى ثان.
وجدت السعودية آنذاك في عبد الفتاح السيسي المخلص القادر على إبعاد الإخوان من المشهد السياسي المصري بشكل قسري وحازم، مع ما يعنيه ذلك من القضاء على أية محاولة إخوانية لتصدر المشهد الإقليمي وتقديم مشروع ديني سياسي ينافس الهيمنة السعودية، فأمنت الأخيرة للسيسي الدعم السياسي والاقتصادي الكافي للمضي في مشروعه الانقلابي وتثبيت حكمه.
بالنسبة للسيسي، فقد وجد في السعودية بحكم موقعها الإقليمي الكبير ومشروعيتها الدينية المكان الذي سيحصل منه على غطاء سياسي واقتصادي لمشروعه الانقلابي، فالتقت أهداف البلدين في هذه القضية، وخيمت على باقي الملفات.
كان ثمة قناعة لدى صناع القرار في الرياض أن الدعم السياسي والاقتصادي الكبير للسيسي من شأنهم أن يساهم في تبديل مواقفه من ملفات الإقليم تدريجيا خصوصا في الملفين السوري واليمني، وكان ثمة قناعة مقابلة لدى السيسي أن وزن مصر الإقليمي يشكل فائدة للسعودية وضرورة هي بحاجة لها في هذا الوقت مع انهيار القطب العربي الثالث (سوريا) وهيمنة الإيرانيين على العراق وسوريا ولبنان وجزء من اليمن.
لكن أحداث المنطقة كشفت أن قضايا المنطقة المعقدة وطبيعة الاصطفافات الإقليمية الحاصلة أوسع بكثير من مجرد اختزال العلاقة بين الدولتين إلى مجرد معاداة الإخوان.
هكذا اكتشفت الرياض مع الملك سلمان أن تقوية المحور الذي تدعمه في مواجهة المد الإيراني بالمنطقة يتطلب إستراتيجية جديدة وتحالفات أوسع وأعمق، فبدأت عملية انفتاح أوسع على المحور القطري التركي ما لبثت أن تحولت إلى تحالف، ثم "انفتاح" على الإخوان المسلمين وإن كان نسبيا وحذرا، وقد استقبلت الرياض التجمع اليمني للإصلاح ورفعت القيود عنهم كخطوة ضرورية لموجهة الحوثيين وإيران.
وهكذا اكتشف السيسي أيضا أن الإبقاء على حكمه العسكري يتطلب تحالفا دوليا ضد الإخوان المسلمين في سوريا واليمن وليبيا يتجاوز العلاقات مع السعودية.
منشأ الخلاف
برزت حدة الخلافات بين العاصمتين في سوريا أولا، حيث سعت القاهرة إلى تعميم رؤية هي أقرب للموقف الإيراني منها للموقف الخليجي عامة والسعودي القطري خاصة، فقد طالبت القاهرة بحل سياسي خارج مخرجات إسقاط النظام على الطريقة الليبية أو حتى على الطريقة اليمنية، وتبنت رأيا يتماهى مع الموقف الإيراني الروسي، محوره إيجاد تسوية سياسية يكون الأسد شريكا فيها، في حين تتبنى الرياض ودول الخليج موقفا يعتبر النظام السوري والأسد جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل، وبالتالي فإن أي حل سياسي يجب أن يكون على أنقاض النظام.
وفي وقت دعمت الرياض مع الدوحة فصائل عسكرية تقاتل النظام السوري، اتجهت القاهرة نحو دعم الجيش السوري عسكريا على غرار طهران وبغداد تحت عنوان مكافحة الإرهاب.
وبلغت الهوة بين الجانبين حدا كبيرا مع محاولة مصر صناعة قطب سياسي معارض يواجه الائتلاف الوطني ويقدم رؤية سياسية تدعو للتعايش بين المعارضة والنظام، وكانت الحملة التي شنتها القاهرة على الائتلاف الوطني ضربة للمحور السعودي القطري التركي، وهي المحاولة التي أزعجت الرياض ودفعتها نحو الإعداد لعقد مؤتمر للمعارضة السورية العام الماضي لدعم الائتلاف ورؤيته السياسية في مواجهة المؤتمرات التي عقدت في موسكو والقاهرة وتفسيراتها لـ"جنيف 1".
وجاء الإعلان عن عقد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية على لسان وزير الخارجية القطري العام الماضي مؤشرا على التقارب السعودي القطري التركي، وعكس رؤية الرياض مع الملك سلمان التي يستحيل فيها معادة المحور الإيراني مع معادة الإخوان، ومن هنا بدأت مسألة الإخوان المسلمين تتراجع إلى الصف الثاني في التفكير السياسي السعودي لصالح أولوية مواجهة المد الإيراني الطاغي في اليمن وسوريا.
وعلى الرغم من محافظة الطرفين على علاقاتهما والتأكيد دائما على أهميتها، فإن الوضع بدأ يشهد انزياحا منذ تولي الملك سلمان الحكم، فالمساعدات الاقتصادية تراجعت بشكل ملحوظ، وبدأ الخلاف يأخذ منحى ظاهريا مع انعقاد القمة العربية، حيث كانت كلمة الملك سلمان بعيدة كل البعد عن كلمة السيسي، وهو ما فسر مغادرة الملك سلمان القاهرة بعيد إلقائه كلمته مباشرة.
ولم تكن قضية تيران وصنافير إلا محاولة مصرية للإبقاء على هذه العلاقة والحيلولة دون خسارة حليف إقليمي بمكانة السعودية، غير أن السيسي المحكوم في سياسته الإقليمية بمعاداة الإخوان وجد نفسه في موضع مغاير تماما عن الموضع السعودي، فأيد التدخل العسكري الروسي في سوريا وأيد القصف الروسي للفصائل الإسلامية، وأيد المقاربة الروسية للحل السياسي في سوريا، وأيد بخجل تدخل التحالف العربي في اليمن في وقت فتحت القاهرة أبوابها لوفد من الحوثيين ثم لوفد يمثل حزب المؤتمر الذي يتزعمه علي عبد الله صالح، وهذا تجاوز واضح للخطوط السعودية.
ومع تراجع الدعم الاقتصادي السعودي لمصر بشكل واضح لأسباب سياسية وأخرى اقتصادية، بدأ السيسي يعزز من مكانته ضمن المحور الروسي الإيراني ويساهم بمنح الروس والإيرانيين غطاء سياسيا داخل المنظومة العربية.
وإلى جانب الملف السوري واليمني والإيراني، كان للملف الليبي نصيبه في الخلاف بين الدولتين وإن كان بمستوى أقل، فقد أيد السيسي سياسيا وعسريا الجنرال خليفة حفتر واعتبره رأس الحربة في إبعاد الإخوان من المشهد العسكري الليبي ومن ثم المشهد السياسي، في حين ترفض الرياض اختزال المشهد الليبي بشخص حفتر.
وهكذا أصبحت السعودية طرفا رئيسيا في محور إقليمي دولي عماده هي وقطر وتركيا والولايات المتحدة ودول أوروبية، مقابل محور روسي إيراني عراقي مصري.
حدود الخلاف
ثمة مؤشرات حدثت خلال الفترة الأخيرة تؤشر إلى أن الهوة بين البلدين تتسع وتتعمق وأن الدولتين مقبلتان على خريف سياسي.
ـ مشاركة أربعة من أهم المرجعيات الإسلامية المصرية (شيخ الأزهر، مفتي مصر، ومستشار الرئيس للشؤون الإسلامية، المفتي السابق) في مؤتمر غروزني الذي انعقد في العاصمة الشيشانية تحت عنوان "من هم أهل السنة والجماعة"، واعتبر "الوهابية" خارج هذا التعريف.
المشاركة المصرية هذه تعتبر خروجا على المألوف في القاموس السعودي، ورسالة واضحة من السيسي لصناع القرار في الرياض تؤكد قدرته على مناكفتها ليس فقط في الشؤون السياسية، وإنما أيضا في الشؤون الدينية.
والحقيقة أن السعودية يمكن أن تتسامح في كثير من القضايا، لكن الأمر في مسألة المرجعية الدينية مختلف، والمفارقة الغريبة أن الطعنة التي حاولت الرياض تفاديها من الإخوان المسلمين في مصر جاءت من السيسي نفسه.
ـ لقاء سامح شكري بنظيره الإيراني على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعدم حدوث أي لقاء مصري سعودي في ظل وجود وفدين رفيعين للبلدين في نيويورك (الأمير محمد بن نايف ولي العهد وعادل الجبير وزير الخارجية، والسيسي وسامح شكري).
ـ رد الفعل المصري الحذر على قرار الكونغرس الأميركي برفض حق الاعتراض الذي مارسه الرئيس باراك أوباما على مشروع قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب"، فقد جاء في بيان الخارجية المصرية أن مصر تتابع باهتمام القرار الصادر عن الكونغرس وتأثيراته المحتملة على مسار العلاقات الدولية خلال الفترة المقبلة، وهذا الموقف بطبيعة الحال يشير إلى المستوى الذي وصلت إليه العلاقات بين الجانبين.
ومع كل هذه التباينات يبقى من المبكر الحديث عن أزمة بين الدولتين، أو الحديث عن افتراق سياسي، فالرياض طالما امتازت بسياسة هادئة غير متشنجة خصوصا مع الدول العربية.
كما أن السعودية ليست في وارد إحداث أزمة سياسية مع مصر لن تؤدي إلى تغيير في مواقف السيسي، ولذلك على ما يبدو اعتمدت السعودية سياسة الابتعاد التدريجي عن السيسي، مع ما يعنيه ذلك من وقف الدعم له، دون أن يصل إلى الأمر إلى حد القطيعة كما هو الحال بين قطر ومصر.
وبالمقابل سيحاول السيسي التعويض عن الستاتيكو السياسي الحاصل بين البلدين بسبب ملفات المنطقة، بالتركيز على ملفات أخرى (الحفاظ على حد أدنى من العمل العربي المشترك، الملف الاقتصادي بين البلدين).
لكن الثابت بشكل أكيد أن الهوة بين الدولتين تتسع وتتعمق شيئا فشيئا مع التسارع والتوتر الحاصل في عموم المنطقة، ومع رؤيتين متناقضتين لا تلتقيان: الأولى ترى في التمدد الإيراني الخطر الأكبر الذي يواجه الأمة العربية في هذا المفصل التاريخي، ورؤية لا تعتبر ذلك، وتضع الإخوان في مرتبة العدو الأكبر للأمة العربية.
تلاق مرحلي- الجزيرة نت -