أثار التصويت المصري في الأمم المتحدة حول القضية السورية حفيظة المملكة العربية السعودية، التي عبرت عن نفسها في تصريحات رسمية وهجوم من الإعلام السعودي على مصر وامتدت لمواقع التواصل الاجتماعي. قد يعتبر البعض أن هذا الخلاف هو نتاج غياب التنسيق أو اختلاف تكتيكات، بينما هو في الواقع تعبير عن رؤى مختلفة للمنطقة، ليس رؤية لمصر وأخرى للسعودية، إنما رؤية في مصر ورؤية في السعودية، لكل منهما امتداداتها لدى الطرف الآخر. النظام السعودي بالتأكيد لديه رؤية قديمة بخصوص المنطقة. هذه الرؤية ليست وليدة اليوم أو الأمس أو نتاجاً لـ «الربيع العربي»، إذ لم يكن «الربيع العربي» إلا حلقة في الصراع ما بين مشروع حداثي يحمل لواء العروبة في المنطقة ومشروع رجعي يختفي تحت ستار الدين، تتحول مصر فيه من قيادة عربية إلى «تابع سني» في المنطقة. فبعد تجربة التدخل في ليبيا ورفض تكرار التجربة في الحالة السورية، وسياسات الانكفاء النسبي للولايات المتحدة تحت رئاسة أوباما، رأت قوى المشروع الثاني الفرصة سانحة لاختطاف الثورات لمصلحتها ولو على حساب دماء الشعوب وحطام الدول.
هذا الصراع ممتد من القرن الثامن العشر عندما شرع محمد علي في تأسيس الدولة الحديثة في مصر وما اكتشفه من أهمية التكامل في المنطقة العربية. وهو ما يدحض الأكاذيب التي يقوم بترويجها مجموعة من العرب المستشرقين حول أن العروبة قائمة على العرق والانتماء، وهي أكذوبة تنفيها نشأة هذا التيار في منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت مساعي إيقاظ الروح القومية لدى العرب، وبدأت تلك المحاولات من الشام، حين أسس رائدا النهضة العربية ناصيف اليازجي وبطرس البستاني «جمعية الآداب والعلوم العربية» العام 1847. وفي القرن العشرين وأمام المتغيرات التي شهدتها الخلافة العثمانية في بدايات القرن العشرين، وتغير الموقف الدولي منها، خاصة في السنوات القليلة التي أعقبت خلع السلطان عبد الحميد الثاني (1909ـ1914)، وتعالي النزعات القومية التركية الداعية إلى تتريك الولايات الخاضعة لسلطة الإمبراطورية بقيادة «الحركة القومية التركية» (الطورانية)، تبنت تلك الحركات خطاباً علمانياً صريحاً في رؤيتها للمستقبل العربي، نموذجه قول عبد الرحمن الكواكبي: «دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط، دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي: فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء.» (عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار الشروق، الطبعة الثانية، 2009، القاهرة، ص114، 115).
جاءت الحلقة الثانية بعد تأسيس الدولة السعودية ثم ظهور النفط، وكانت أقصى مراحل الصدام هي فترة حكم عبد الناصر لمصر. إلا أنه بعد رحيل عبد الناصر ومع العوائد الهائلة للنفط في السبعينيات ومع الهجرة للخليج، بدأت مرحلة جديدة تقوم على كسر المشروع العربي لمصلحة المشروع الديني. وقد ساعدت عزلة مصر بعد «كامب ديفيد» ثم ضعفها في عهد مبارك إلى الوصول إلى ألفية ثالثة تسيطر فيها الوهابية على الفكر العربي وتتمظهر في العديد من الأشكال الثقافية والاجتماعية. أدت «حرب أكتوبر» 1973 واستخدام العرب للنفط كسلاح إلى اكتشاف حجم ونوع الدور الذي يمكنها لعبه سواء إقليمياً أو دولياً عن طريق استغلال تلك الموارد المالية الضخمة، وهو ما عرف بعدها بـ «سياسات البترودولار». أما على الصعيد الثقافي، فليس بخفي افتقار دول النفط لأي تراث ثقافي تستطيع به مواجهة التراث العربي. لذلك فقد عملت خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي على خلق تراث موازٍ من جانب، والسيطرة على القديم من خلال شرائه من جانب آخر، وقد استخدمت في ذلك للأسف فنانين ومثقفين مصريين وعربا.
أكثر ما أربك هذا المشروع خلال هذه المرحلة كان قيام الثورة الإيرانية وتبنيها مفهوماً ثورياً للدين، يختلف تماماً مع طرح الوهابية السعودية. فكان على السعودية تطوير استراتيجيتها لتبني مشروع جديد بمباركة دولية، يحقق للأخيرين ما يطمحون إليه سواء لناحية مواجهة المشروع العربي أو الثورة الإيرانية، وهو المشروع الطائفي السني، الذي أخذ يتمظهر قبل «الربيع العربي» في لبنان والعراق. وبعد انطلاقة أحداث «الربيع العربي» وما مثله ذلك من تهديد سني بالأساس لعروش الخليج، كان على الدولة السعودية إحكام سيطرتها بالعمل على تحويل هذا «الربيع» إلى صراع مذهبي يؤسس لنظام إقليمي سني بديلاً عن النظام الإقليمي العربي. ومن الطبيعي في هذه الوضعية أن يُستبدل فيه العدو الإسرائيلي بالعدو الإيراني. وهو ما يفسر كثيراً من المحاولات خلال العامين السابقين لكسر المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، والتي ظهر فيها، في الفترة الأخيرة، بوضوح الدور السعودي إثر لقاءات سرية وعلنية، وتحالفات جديدة محتملة، وتهدئات وتسويات على غرار ما يحدث بخصوص جزيرتي تيران وصنافير المصريتين. وهنا تلعب التوازنات الإقليمية الحالية دوراً في تطويع جامعة الدول العربية في خدمة هذا المشروع، خاصة في ظل قيادتها الجديدة.
الأزمة الحقيقية لهذا المشروع الطائفي يمكن أن نراها بوضوح في سوريا. إلا أن من يظن أن الآثار السلبية لهذا المشروع ستقف عند حدود الدول ذات التركيبة الطائفية المتعددة، هو واهم. فالآثار ستمتد للمنطقة في شكل مزيد من القمع للفئات المهمشة، من أقليات دينية ونساء وكذلك الفئات الفقيرة التي يعاديها هذا المشروع بطبيعته الاقتصادية الريعية الرأسمالية.
هنا يجب أن نؤكد أن هذا المشروع لم يكن له أن يحقق تقدمه إلا نتيجة ثغرات وعيوب في النظام الإقليمي العربي، يمكن أن نفرد لها مساحات لاحقاً، لكن أبرزها ملف الأقليات وفاعلية المنظمة الإقليمية واستخدامه كمصدر للشرعية بديلاً عن الإنجاز على أرض الواقع، وانفصاله عن الديموقراطية ومفهوم المواطنة الكاملة والعدالة الاجتماعية في معظم تجاربه. يُخشى أن يتمكن المشروع الطائفي بما لديه من موارد مادية من التمدد. وهذا، في حال حصوله، سيكون وبالاً ليس على منطقتنا فقط، بل على بقاع أخرى من العالم بدأت تصلها أطراف الحريق كما رأينا مؤخراً.
محمد العجاتي- السفير اللبنانية-