الأزمة غير المعلنة رسمياً، بين السعودية ومصر، بعد تصويت الأخيرة في مجلس الأمن لصالح قرار روسي، ما أزعج السعوديين، ليست إلا امتداداً للمنطقة الرمادية في العلاقات بينهما، منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013 في مصر، والذي أتى بنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي لاحقاً، بعدما تم القضاء، عملياً، على سياق ثورة 25 يناير هناك.
بدا التباين واضحاً في موقف الدولتين مما يحدث في سورية، منذ البداية، إذ أرسل المصريون رسائل واضحة، بعدم تبنيهم المقاربة السعودية، وتفضيلهم التعامل مع نظام الأسد، على المعارضة السورية، خصوصاً المسلحة التي يغلب عليها الطابع الإسلامي، فيما حاولت السعودية فصل علاقتها بالسيسي، ودعمه عن موقف الدولتين من الملفات الإقليمية.
اتسعت رقعة المنطقة الرمادية في العلاقة بينهما، وبصورة عامة في مواقف النظام الرسمي العربي (المعسكر المحافظ) الذي تبنى الثورة المضادّة ضد الإسلاميين والربيع العربي، مع وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز، وقدوم الملك سلمان، والاستدارة السعودية في التعامل مع الملفات الإقليمية، والتقارب السعودي- التركي، تجاه ما يحدث في المنطقة، وتحديداً في سورية التي أصبحت "بؤرة الصراع" والاستقطابات الإقليمية والدولية.
حاول موقف السعودية إيجاد معادلة توازن بين علاقاتها مع تركيا وتماسك "تحالفها" مع المعسكر العربي المحافظ، ما ولّد ارتباكاً شديداً في علاقات هذه الدول ببعضها، وأحدث تناقضاً جوهرياً بين رؤية سعودية - تركية، ترى التهديد الأكبر في المحور الإيراني، ثم التحالف الإيراني - الروسي ورؤية المعسكر المحافظ، الذي تأسّس، أصلاً، على قضيةٍ مركزيةٍ تتمثل بأنّ الخطر الأكبر هو الربيع العربي = الإسلام السياسي، ومن خلفه المقاربة التركية - القطرية.
بالنتيجة، وضعت السعودية قدماً هنا وقدماً هناك، بينما كان المعسكر المحافظ تائهاً بين محاولة تغطية الخلافات الجديدة المسكوت عنها مع السعودية وإصراره على القضية المركزية، وهي الصدام مع الأتراك والإسلام السياسي، ما أوجد منطقةً رماديةً غير واضحةٍ في علاقة المعسكر المحافظ (مصر، الإمارات، الأردن) بالسعودية.
من هذه المنطقة الرمادية، انبثقت أغلب الخلافات والتباينات والتناقضات في رؤية الطرفين، السعودية ومصر خصوصاً، فالإسلام السياسي في سورية واليمن، والقضية السّنّية عموماً، أصبحت مدار السياسة الخارجية السعودية، في مواجهة "المحور الإقليمي" الذي يكسب المعارك العسكرية (إيران وروسيا ومن خلفهما العراق وسورية)، بينما أصبح موقف الحلفاء العرب جامداً، وحتى في اليمن تمّ التعتيم على خلافاتٍ كبيرة بين الطرفين، في مقاربة "عاصفة الحزم" وخلالها.
اليوم مع اقتراب معارك الموصل وحلب من لحظات حاسمة، ومع انكشاف النظام الإقليمي العربي، والوضع المحرج للسعودية التي تمثل الخصم الإقليمي للمحور الإيراني - الروسي، وفي الوقت نفسه، تخوض معركة الشرعية الرمزية في تمثيل السنة والسلفية، وهي معركة ذات أبعاد داخلية مع تنظيمي داعش والقاعدة، تجد أنّ المصريين خارج المعادلة تماماً، وغير معنيين في الوقوف معها في هذه المعركة المصيرية الحاسمة.
على الجهة المقابلة، يخوض نظام السيسي معركة مصيرية، في الداخل، مع الإسلام السياسي، "الإخوان" وقوى سلفية ثورية (باستثناء حزب النور)، ويستند، في شرعيته، على هذه المواجهة، بينما، إقليمياً، تمثل القوى الإسلامية الطرف الآخر في مواجهة النظام السوري، فلم يستطع نظام السيسي، ولا آلته الإعلامية الفصل بين هذه الملفات، ولا القفز إلى الطرف الآخر، فذلك يُحدث تناقضاً في الخطاب وفي المواقف في أروقة النظام ودعايته السياسية والإعلامية.
ثمّة متغيران آخران، لا يقلان أهميةً في تعزيز المنطقة الرمادية بين الطرفين، السعودي والمصري. الأول، التنافس التاريخي على قيادة النظام العربي، فالنخب المصرية المرتبطة بالسيسي ما تزال تعاند بدوره الإقليمي الريادي، بما لا يتناسب باعتماده اقتصادياً على المساعدات الخليجية. والثاني، الموقف الأميركي المتذبذب المحدود في أزمة الشرق الأوسط، ما غيّب الناظم لعلاقات التحالف العربي دولياً وإقليمياً.
على الرغم من المرارة المتبادلة والحرب السرية، لا يريد كلا الطرفين الاعتراف بنهاية المبرّرات العملية الاستراتيجية التي أسّست التحالف الذي قاد الثورة المضادة، فالسعودية ما تزال غير حاسمة في مواقفها الإقليمية، وتحاول المناورة أولاً، ولا تريد أن تخسر مصر في هذه اللحظة الحرجة، ونظام السيسي لا يريد أن يخسر السعودية، سياسياً واقتصادياً، بينما الأطراف العربية الأخرى تحاول الوقوف في المنتصف بينهما.
د. محمد سليمان أبورمان- العربي الجديد-