علاقات » عربي

مصر والسعودية.. الأرز مقابل الفول!

في 2016/10/18

حين تم سؤالى عن الخلافات التى نشبت أخيرا بين مصر والسعودية فإن إجابتى كانت ياليتها كانت خلافات مؤسسية!

وحينما طُلب منى التوضيح فإنى قلت إن تاريخ الخلافات العربية العربية هو تاريخ من الخلافات الشخصية أو المشخصنة لا المؤسسية، فالأخيرة مطلوبة وصحية، لأنه من بديهيات العلاقات الدولية أن تختلف مصالح الدول وتتفق باختلاف الموضوع محل النظر، والبديهى أن يتم حل هذه الخلافات من خلال المؤسسات والمنافع والمصالح المتبادلة، إلا فى عالمنا العربى حيث يتم إدارة الخلافات من خلال السب والقذف والمعايرة والمزايدة وغيرها من الأساليب المتدنية حيث يستخدم كل نظام سياسى أدواته الإعلامية والنخبوية فى النيل من النظام الآخر ثم تعود الأمور إلى نصابها بمجرد مكالمة هاتفية من هذا الرئيس إلى ذاك الملك أو العكس وتنتهى الأزمة فجأة بالمجاملات والمبالغات المعتادة عن« التطابق التام فى وجهات النظر»!

لن أخوض مجددا فى تفاصيل الخلاف، فقد تم استنزاف الموضوع خلال الأسبوع الماضى، ولا أريد تكرار ما قاله آخرون، ولكنى أسجل هنا سبع ملاحظات على هامش الخلاف، وهى ملاحظات موجهة بالأساس إلى الشعوب قبل الحكام الذين عادة لا يحبذون الاستماع إلا إلى ما يروقهم!

الملاحظة الأولى: صحيح أن مصر صوتت على قرارين متناقضين فى مجلس الأمن بخصوص الوضع فى سوريا وبالتحديد فى حلب إلا أن هذا التصويت لا يعنى ضعف أو تواضع عقلية صانع القرار المصرى ــ الذى لا أعرفه بالمناسبة ــ ولكن كان له منطق مقبول على الأقل بالنسبة لى، هذا المنطق عبر عنه مندوب مصر فى الأمم المتحدة وسجلته وثائق مجلس الأمن بخصوص الجلسة سالفة الذكر، فوفقا لمحضر الجلسة الرسمى فإن السفير المصرى قد أقر فى كلمته بالتصويت على قرارين متناقضين فى التوجه السياسى ولكنهما متفقان فى عدة نقاط حددها المتحدث المصرى لعل أهمها التوقف عن استهداف المدنيين وإيقاف الأعمال العدائية من كل الأطراف والتصدى للجماعات المسلحة وتحميل مجلس الأمن المسئولية فى تنفيذ النقاط سالفة الذكر، ودعم التفاوض بين الأطراف المتصارعة فى سوريا وفقا لبيان جنيف، وكلها نقاط منطقية وأستطيع أن أتفهم المنطق من ورائها ومن حق مصر التصويت بهذا الشكل وإن غضبت المملكة فهذا حقها وشأنها لكن لا يجب فرض ذلك الموقف على الجانب المصرى ثم المزايدة على مصر بأنه موقف «سنى»!!

الملاحظة الثانية: مصر لا يمكنها التضحية بعلاقتها مع السعودية هكذا ببساطة، ليس فقط بسبب عوامل التاريخ والجغرافيا، ولكن لأن النظام السعودى كان ولا يزال الداعم الأكبر للنظام المصرى الذى تشكل بعد ٢٠١٣ وهو دعم مادى وسياسى وفى الأروقة الدولية، وأيضا لأن السعودية لديها ما يقرب من مليونى عامل مصرى بحسب تصريح السيد هيثم سعد المتحدث باسم وزارة القوى العاملة لـ«اليوم السابع» فى مايو الماضى، وهو ما يعنى أنه قد يكون هناك قرابة العشرة ملايين نسمة يعتمدون فى معاشهم على استقرار وعمل ذويهم فى المملكة. وفى المقابل وبالإضافة لدور لا ينكره السعوديون أنفسهم لهذه العمالة فى تطوير المملكة تعليما وصحة وبنية، فإن السعودية لا تحتمل أن تخسر حليفا إقليميا مهما مثل مصر، وخصوصا أن السعودية خسرت بعض الثقل الدولى والإقليمى خلال السنوات القليلة الماضية ولن تحتمل عزلة إقليمية قد تضاف إلى إرهاصات ما يبدو أنه عزلة دولية تفرض تدريجيا عليها! الموضوع إذن ليس مجرد «أرز» كما تحدث بعض المعلقين السعوديين باستخفاف مثير للأسى، ولكنها مصالح مشتركة للطرفين تفرض عليهم استمرار التنسيق والتحالف!

الملاحظة الثالثة: أن صانع القرار فى المملكة عليه التوقف عن الابتزاز باستخدام «ملف السنة» والتلويح به فور كل مشكلة تتعرض لها المملكة، وبالتالى فتلك المقالة المعنونة «دافع عن السنة ولا تبال» والمنشورة فى جريدة الحياة لأحد الكتاب المحسوبين على العائلة المالكة فى السعودية لا تعبر فقط عن فقر شديد فى تصور سبب صراعات المنطقة، ولكنها تعبر أيضا عن فشل ذريع فى إدراك حقيقة الأزمة السعودية فى المنطقة وفى العالم حينما تختزل دورها فى الدفاع عن «سنة» العالم ضد المؤامرات الغربية. الحقيقة أن اللحظة التى يقرر فيها صانع القرار السعودى التوقف عن اللعب بورقة زعامة السنة قد تكون هى نفسها لحظة حلحلة الأزمة السعودية والإقليمية.

الملاحظة الرابعة: قبل قيام مؤيدى النظام السياسى المصرى بتوجيه الاتهامات أو اللوم إلى المملكة، عليهم أولا توجيه اللوم والسعى لمحاسبة النظام المصرى على تصرفاته غير المسئولة سواء بقبول الدخول فى حلف عسكرى سنى وهمى تحت قيادة المملكة أو بالطريقة المنفردة غير المسئولة التى أدار بها أزمة الجزيرتين المصريتين«تيران وصنافير» المتنازع عليهما مع المملكة! فسياسات النظام المصرى قد أساءت إلى مصر قبل أن يسىء لها بعض السعوديين هنا أو هناك.

الملاحظة الخامسة: قيام بعض المصريين المحسوبين على التيار الليبرالى بتأييد قانون «جاستا» الأمريكى الساعى لمحاسبة المملكة على أحداث الحادى عشر من سبتمبر، فضلا عن أنه نوع من أنواع النكاية الرخيصة، فإنه يعد أيضا انحيازا شديدا لقانون هو بطبيعته غير عادل لأنه يسعى لمحاسبة دولة قومية على ما اقترفه مجموعة من شبابها من أعمال إرهابية لم يثبت أبدا أنها قد تورطت فيها أو حتى بتأييدها بشكل مباشر أو غير مباشر! بل أن هذا القانون يعبر عن عدم توازن علاقات القوة بين الدول لأنه وفى مقابل ذلك لا يحمل أى مسئولية مشابهة للإدارة الأمريكية عن الفشل فى العراق الذى تسبب ولا يزال ليس فقط فى حصد أرواح المدنيين ولكن أيضا فى تدمير وتقسيم وتشتيت العراق، ثم ماذا لو قرر قانون مشابه محاسبة مصر بدعوى مشاركة محمد عطا أو غيره فى أعمال إرهابية؟!

الملاحظة السادسة: مازالت تعليقات البعض بخصوص تحميل المملكة السعودية وحدها مسئولية انتشار العنف والإرهاب فى المنطقة بل وتمنى زوالها أو انهيار نظام «آل سعود» تعبيرا عن العجز عن فهم الأزمة الحقيقة فى المنطقة، فمن ناحية فبقدر مسئولية المملكة عن عدم استقرار الأوضاع فى المنطقة وانتشار العنف السياسى، فإنه وبالقدر نفسه تكون مسئولية كل الأنظمة القمعية لا فرق فى ذلك بين نظام ملكى أو جمهورى، دينى أو علمانى، عسكرى أو مدنى، عربى أو غير عربى، فكل الدول غير الديموقراطية فى المنطقة ــ بما فيها إيران لمن يتظاهر بعدم الفهم ــ هى سبب من أسباب استمرار أزمات المنطقة العربية والشرق أوسطية، ولا سبيل إلا فى تبنى إصلاحيات سياسية حقيقية لا شكلية من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه فى تلك المنطقة البائسة! أما تمنى زوال نظام آل سعود، فالحقيقة وبغض النظر عن خلافاتى الشخصية (فكريا وسياسيا) مع النظام السعودى وتوجهاته، إلا أن أبسط حقائق المنطقة تقول إن انهيار هذا النظام بما له من ثقل إقليمى واقتصادى ودينى سيكون وبالا على المنطقة بأسرها وسيؤدى إلى كوارث طائفية أفظع بكثير مما نعيشه الآن، فقليل من التفكير والتدبر قبل الاندفاع لا يضر!

الملاحظة السابعة: أن تصورات بعض المصريين عن السعوديين بشكل خاص والخليجيين العرب بشكل عام يشوبها قصور شديد، فمازال البعض (نخبة وشعبة، حكاما ومحكوميين) يعيشون أسرى للصور الذهنية للماضى، والحقيقة أن هناك تطورات حقيقية لدى المملكة على الأقل فى مجال التنمية البشرية، فهناك ما يقرب من ١٢٠ ألف طالب سعودى يدرس فى الولايات المتحدة وحدها كمبتعث رسمى، صحيح أن بعض هؤلاء الطلاب غير جادين ولكن الغالبية العظمى يتطورون سريعا، يتحدثون أكثر من لغة وينافسون أقرانهم فى البحث العلمى، وهذا فى تقديرى سينعكس يوما ما على طبيعة البشر والعلاقات بين المجتمع والسلطة فى المملكة، فجيل الأجداد والآباء يتوارى ويظهر بوضوح كما أرى هنا فى طلابى السعوديين والخليجيين جيل جديد ومختلف، صحيح أتخوف أن يتحولوا بدورهم إلى فرصة ضائعة على المملكة كما أضاعت دول عربية أخرى فرص مشابهة فى الماضى القريب والبعيد، ولكنهم مازالوا فرصة متاحة ستغير المستقبل السعودى بشدة بشرط أن يدرك الأخير ضرورات التغيير الحتمى الجاد لا الشكلى! ولعل بعض التغيرات المتعلقة بتحدى سلطة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو أتباع السنة الميلادية فى التقويم تكون مقدمة لذلك!

حينما قال أحد المعلقين السعوديين باستهزاء واضح فى إحدى القنوات السعودية تعليقا على تصويت مصر فى مجلس الأمن «ما تعطيه أرزا تأخذه فولا» فإنه ومن حيث لا يدرى كان يقر بمبدأ هام فى العلاقات الدولية ليتنا ندركه فى المنطقة العربية، ألا وهو مبدأ تبادل المصالح، فكل دول العالم تتبادل الأزر مقابل الفول بأشكال وظروف مختلفة!

وأقول لصاحبنا لا يجب أن يخجل المصريون من الحصول على الأرز ماداموا قادرين على تقديم الفول فى المقابل!

وسوف تنصلح أحوال المنطقة بأسرها حينما يتمكن الجميع من تبادل الأرز بالفول، المهم أن تتوافر أنظمة ديموقراطية عربية قادرة على توفير الأرز والفول، بدلا من أن ينضبا معا ولا تجد شعوب الدول العربية ما تتبادله سوى السباب والإهانة والمعايرة على أمعاء خاوية!

د.أحمد عبد ربه- الشروق المصرية-