ليس ثمة الكثير مما سمع من الدوائر الرسمية، المصرية أو السعودية، ولكن الواضح أن ثمة أزمة في العلاقات بين البلدين. أزمة سوء فهم؟ أزمة ثقة؟ أزمة ابتزاز؟ ربما، وربما هي كل هذا معا. المهم، أن كلا الطرفين، المصري والسعودي، يبدو حريصا على تجنب الحديث؛ والأرجح أن كليهما يتمنى بالفعل أن تمر الأزمة سريعا، وأن لا تترك أثرا ملموسا على العلاقات بينهما.
كلاهما، بكلمة أخرى، يتصرف وكأن هذه أزمة عابرة، لا تستدعي حتى التعليق الرسمي، ولا الاكتراث بالتكهنات والمراهنات التي أطلقتها. ولكن هذه أزمة فعلية، أزمة تكشف عن قصر نظر السياسة التي اتبعتها الرياض، منذ 2013، تجاه مصر، وتجاه تطورات المنطقة العربية ككل. وهي أزمة تكشف عن معنى دور مصر وموقعها في المجال العربي.
بدأت ملامح الأزمة في علاقات الدولتين بلقاء مفاجئ بين وزير الخارجية المصري ونظيره الإيراني على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك؛ وبروز تصريحات دبلوماسية مصرية تقول بأن تطبيع العلاقات مع إيران (أي علاقات مصر) سيساعد في حل مشكلات المنطقة. وتلت الخطوة الخجولة تلك تصويت مصر، العضو العربي غير الدائم في مجلس الأمن، لصالح مشروع قرار روسي، يشرع لاستمرار القصف الروسي الوحشي لمدينة حلب.
ولأن المفترض أن يمثل مقعد مصر في المجلس الكتلة العربية، فقد أثار التصويت المصري غضب المندوب السعودي في الأمم المتحدة، الذي اتهم مصر بأنها أقل عروبة من دول إفريقية وأمريكية لاتينية، صوتت ضد القرار. كلا الخطوتين كان محسوبا بلا شك، ويعبر عن موقف مصري مفكر فيه من الأزمة السورية.
وهذا ما دفع وزير الخارجية الإيراني، طبقا للغارديان البريطانية، في مراسلات مع نظيره الأمريكي جون كيري، إلى الإصرار على وجود مصر والعراق في لقاء لوزان السريع حول سوريا، الذي ضم عددا قليلا من الدول المهتمة بالأزمة السورية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا؛ وهو ما حدث بالفعل. في الأثناء، استقبلت القاهرة، وبدون سابق إنذار، اللواء علي مملوك، المسؤول الأمني الكبير في نظام الأسد، بحجة التباحث حول مكافحة الإرهاب.
هذا، بالطبع، ليس كل شيء. فقد كان أعلن منذ أسابيع قليلة عن أن أرامكو ستوقف إمدادات النفط السعودي لمصر في تشرين الأول/اكتوبر (ويبدو أن الإيقاف لفترة قصيرة)، التي كانت التزمت بها الرياض من قبل وتعتبر شريانا حيويا للدولة المصرية المثقلة بالأزمات والأعباء. ليس ثمة مؤشر على وجود علاقة بين وقف الإمدادات النفطية والمواقف المصرية من الأزمة السورية، على الأقل من وجهة النظر السعودية للأمر.
لكن رد الفعل المصري على القرار السعودي كان هائلا. تعرضت السعودية لهجمات إعلامية سافرة، تعهدتها وسائل إعلام مصرية تعرف بقربها من نظام الحكم والحديث باسمه. وكما وسائل الإعلام الإيرانية، والغربية المعادية للعرب والمسلمين، وصف الإعلام المصري السعودية بالدولة الوهابية المتخلفة، ولم يتردد إعلاميون مصريون في اتهام السعودية، بل وملكها، برعاية الإرهاب. وفي لحظة فقدان كامل للسيطرة، شارك الجنرال السيسي في الحملة، مستدعيا لغة «مصر لا تركع إلا لله» المبتذلة.
ولأن المسألة محل الخلاف بين السعودية ومصر ليست مسألة ثنائية بحتة، بل تتعلق بسوريا ومصيرها، فسرعان ما تردد صدى الخلاف في المجال العربي برمته. لم يفهم كثير من المراقبين العرب، بل وحتى الغربيين، كيف تطعن مصر السعودية في الظهر، وهي التي قدمت كل الدعم الممكن، وغير الممكن، من أجل بقاء نظام السيسي وسيطرته على الشأن المصري، وتتخذ موقفا مناهضا للسعودية في سوريا.
أما العرب الأبرياء فقد استغربوا وقوف النظام المصري إلى جانب طاغية دمشق وإيران، واستهتار القاهرة بمشاعر الأغلبية العربية، التي أثقلت تداعيات الأزمة السورية قلوب أبنائها.
ثمة من يرى أن المقاربة المصرية للمسألة المصرية لا يجب أن تدعو للاستغراب؛ فالنظام المصري يريد نهاية قاطعة لرياح التغيير التي اجتاحت المجال العربي منذ 2011. وفي سوريا، كما في ليبيا، يجد نظام السيسي مصلحته في الحفاظ على نظام الأسد، وفي هزيمة قوى الثورة والتغيير السورية، مهما كانت التكاليف باهظة. من وجهة نظر السيسي، على الشعب السوري، كما المصري والليبي واليمني، أن يدرك أن ليس ثمة مجال لحلم الحرية والديمقراطية، وأن الثورات لن تؤدي إلا إلى الموت والدمار والتهجير.
لكن هناك من يشير إلى جانب آخر في السياسة المصرية تجاه سورية. نظام السيسي، يقول هؤلاء، يمر بأزمة وجودية، بعد أن أخفقت عشرات المليارات من المساعدات الخليجية في إخراج مصر من هاوية الانهيار المالي ـ الاقتصادي. وبخلاف من يظن بأن هناك استراتيجية ما خلف انحناءات الموقف المصري من الأزمة السورية، يعتقد هؤلاء أن نظام السيسي لا يكترث، لا بمصير السوريين ولا مصير الأسد.
كل ما يجري ليس سوى استخدام سوريا في محاولة ابتزاز أخرى لدول الخليج. وإن لم تنجح المحاولة في استدراج المزيد من الدعم المالي الخليجي، فربما تنجح إشارات القاهرة الإيجابية للأسد في استجداء بعض الدعم الإيراني أو العراقي.
مهما كان الأمر، فليست مصر السيسي ما يجب أن تلام. نظام ولد من الانقلاب على إرادة الشعب وأمنياته، من خيانة الرئيس المنتخب، ومن رفات الآلاف من ضحايا القتل والاختطاف والتعذيب، لا يجب أن يلام على الوقوف إلى جانب نظام دموي آخر في الجوار العربي، أو على طعن حلفائه العرب في الظهر.
من يجب أن يلام هو السعودية، التي قدمت أكبر دعم مالي قدم لأي نظام عربي في التاريخ الحديث، ووفرت المساندة المعنوية والسياسية، ولم تزل، من أجل إحكام سيطرة الانقلابيين على مقدرات مصر وقرارها. يقول السعوديون، في تبرير سياستهم، أنهم يقفون مع استقرار مصر واستعادة دورها في الإقليم، وليس مع أشخاص بعينهم، وأنهم يخوضون صراعا واسع النطاق من أجل الحفاظ على استقلال دول المشرق ووجودها.
لكن الواضح، منذ أكثر من عامين، أن نظام السيسي لم يصنع استقرارا في مصر، ولا هو يعمل على استعادة دور مصر الإقليمي وتحمل مسؤولياتها العربية. فكيف يمكن أن تنجح سياسة غض النظر عن مواقف النظام المصري في تعزيز ميزان القوى العربية في هذا الصراع المحتدم على مستقبل المشرق وهويته؟
بيد أن المسألة المصرية لا تخص السعودية وحسب. إن استمر نظام السيسي في الحكم، بصورة أو أخرى، فعلى العرب التوقف عن بكائيات دور مصر ومسؤولياتها وثقلها وقيادتها. من ذكروا السيسي ببيان «مسافة السكة» الشهير، لم يلحظوا، ربما، السوقية الصارخة في لغة الجنرال. لم يتحدث السيسي عن المخاطر الاستراتيجية التي يواجهها الخليج، ولا عن قراءة نظامه لخارطة القوة في الإقليم، ولا عن مصادر التهديد التي يواجهها العرب، ولا ما يمكن لمصر أن تقدمه من أجل الأمن العربي القومي.
«مسافة السكة» ليست لغة دول مسؤولة، ولا حكام يعون دورهم ودور بلادهم. مصر الراهنة، سواء بنوعية طبقتها الحاكمة، أو بعمق الهاوية المالية ـ الاقتصادية، والسياسية ـ الاجتماعية، التي دفعت إليها، لم تعد تمثل ثقلا ملموسا في موازين قوى الإقليم. وسواء اختار نظام السيسي الوقوف مع هذه القضية أو تلك، فلن يكون لخياراته من أثر كبير. ولذا، وإلى أن يستطيع المصريون تحرير أنفسهم من هذا الكابوس، على العرب أن يتدبروا شأنهم بمعزل عن النظام الحاكم في مصر.
د. بشير موسى نافع- القدس العربي-