جاء فشلُ محاولاتِ الوساطة التي سعَت إليها بعض دوَل الخليج، من بينِها الإمارات، للإصلاحِ بين مصر والمملكة العربيّة السعوديّة، ليؤكِّدَ على انعدامِ الثقةِ الشديد بين البلدين، وذلك بعد عدّةِ أشهرَ فقط، بدا فيها كأن تحالُفًا استراتيجيًّا يجمعهما. فماذا حدَث؟
"هل تعرفون صراعًا إقليميًا واحدًا تبنَّت القاهرةُ والرياضُ رؤيةً موحّدةً تجاهَه"؟ يبدو هذا السؤالُ في "الأهرام" المصرية (الرسميّة جدّاً) غريبًا، تمامًا كما العداء المصوّب من دون حرجٍ تجاه المملَكة في وسائلِ الإعلام وفي أحاديثِ المسؤولين المصريّين.
إنهم يكادون ينسَون صورَ ملك السعودية الراحل عبدالله بن عبد العزيز التي كانت تغطَي جدران شوارع القاهرة غداةَ انقلاب 3 يوليو 2013 الذي قادَه المشير عبد الفتاح السيسي، لشكرِ الرياض على "مساعدتِها الأخويّة". ويكاد هؤلاء ينسون حتى صفحاتِ الصحف اليوميّة في البلدين التي كانت تمتدِحُ، في إبريل/ نيسان الماضي، الزيارةَ "التاريخيّة" لمصر، والتي قام بها الملك سلمان.
وفي سابقةٍ، هي الأولى من نوعِها، تحدَّث فيها الملك أمامَ البرلمان، قبلَ أن يلتقي شيخِ الأزهر وبابا الأقباط. بعدَها مباشرةً، وقَّع الطرفان 24 اتفاقيَّة تعاوُنٍ اقتصادي، تتضمَّنُ مشروعاتِ إنشاءِ تجمُّعاتٍ سكنيّة وزراعيّة، وتنميَةِ شبهِ جزيرة سيناء، ومشاريع أخرى، بتكلفةٍ إجماليَّةٍ تقدَّر بملياراتِ الدولارات.
لم تكَد تمرُّ بِضعةُ أشهر، حتى تصدَّع هذا الوفاق الرائع. والسببُ في تلك الأزمة القائمة منذ عدّة أشهر يتمثَّلُ في ملفَّين رئيسيّين: الأوَّلُ ثُنائيّ، خاصٌّ بترسيم الحدود البحريّة بين البلدين. والثاني، إقليمي، يتعلَّقُ بالمأساةِ السوريّة.
ردُّ "تيران" و"صنافير"
يخصُّ الملف الأول مصير جزيرتين متناهيتَي الصغر، هما تيران وصنافير، واللَّتان ما كان العالم ليعلمَ بوجودهما، لولا أنَّهما تُمثِّلان مدخلَ مَضيق تيران الذي كانَ إغلاقُه سببًا في الحربِ الإسرائيليّة العربيّة عامَ 1967.
في 17 يناير/ كانون الثاني عام 1950، تنازلَ العاهل السعودي في حينه، الملكُ عبد العزيز بن سعود، عن الجزيرتَين مؤقَّتًا لمصرَ التي كانت تحتَ حُكمِ الملك فاروق آنذاك؛ إذ كانَت إسرائيل قد استولت لتوِّها على صحراء النقب وأنشأت ميناءَ إيلات، وكان الوصولُ إليه يَعتمِد على التحكُّمِ في مضيقِ تيران. لم تكن العربيّة السعوديّة تمتلِك آنذاك الوسائلَ الكافيَة لحمايةِ الجزيرتَين، فعهدَت بهما إلى مصر.
كان استِردادُ السعوديّة تلك الأراضي مادّةَ مناقشاتٍ مستمرَّة، كما أوضحَ دبلوماسيٌّ مصريٌّ: "لطالَما اعترَفنا بالسيادةِ السعوديّة على هاتيْن الجزيرتَين، ونعمَل على ردِّهما منذ عامِ 1985. وقد توصَّلت المفاوضاتُ إلى اتّفاقٍ أُبرِم عام 2010، إلا أنَّ سقوطَ الرئيس حسني مبارك اضطرَّنا إلى تأجيلِ تنفيذِه".
في أثناء زيارتِه القاهرة في إبريل/ نيسان 2016، طلبَ الملك سلمان، ومعه وليُّ العهد، أن تتمَّ تسويةُ هذا الملفِّ بشكلٍ نهائي. بالنسبة للسعودية، كان الهدفُ تسويَة آخرِ نزاعٍ حدوديّ معلَّقٍ مع جيرانِها، بعد الاتفاقيّات التي وقَّعَتها على مدارِ السنوات السابِقة مع اليمن وبعض دول الخليج. كما أنَّه يُعدُّ إشارةً إلى حصولِها على مقابلٍ للتمويلات الضخمة التي تَضخُّها للقاهرة منذ عام 2013. عقبَ الإعلان عن استِرجاع ِ الجزيرتَين، أخذَ الإعلامُ السعوديُّ يردِّد على نطاقٍ واسعٍ "فخرَ السعوديين" بالقرار.
اصطدمَت الحكومَة المصريَّةُ التي حاولَت تمريرَ القرارِ خِلسةً، بموجةِ احتِجاجاتٍ عارمةٍ، لم تكن متوَقَّعة. حيث أثارَ قرارُها أكبرَ مظاهراتٍ معاديَةٍ للسلطةِ منذ سقوطِ الرئيس محمد مرسي، كما عارضَ كثيرون من مؤيِّدي الرئيس عبد الفتاح السيسي الإقرارَ بسعوديَّة الجزيرتَيْن، ولم يفهَموا ذلك القرارَ الذي يتعارَضُ مع خطابِ النظامِ القوميِّ، لا بَلْ الشوفيني.
أنّى له أن يبيعَ جزءًا من أرضِ الوطن بثمنٍ بخس؟
إثر ذلك، رفعت مجموعةٌ من محامي المعارَضة قضيّةً أمامَ المحاكم المصرية، واستَطاعوا الحصول على حكمٍ بوقفِ تنفيذِ الاتفاقيّة، إلى حينِ اجتِماعِ مجلسِ الدولة في 19 ديسمبر/ كانون الأول. أمّا في السعوديّة، فيُنظَر إلى زوبعة الإعلامِ المصريِّ، كما إلى قَراراتِ القُضاة، بوصفِها أفعالاً موَجَّهةً من الحكومة. يقولُ دبلوماسي سعوديّ مُتهكِّمًا: "من يمكنُه أن يصدِّقَ لحظةً أنّ الإعلامَ والقضاءَ مستقلّان في مصر؟ لَسْنا في المملَكة المتّحدة".
ويخفي هذا النزاع جانباً مهماً من الاتفاقيّة، هو أنَّها حظيَت بالدعمِ الإسرائيليّ. والمعلوم أن جزيرتي تيران وصنافير مشمولتان في مُعاهدةِ السلامِ المصريّة - الإسرائيليّة المُبرَمة عام 1979. ولضَمانِ التزامِ الطرفَين بتنفيذِ المعاهدة، تَنتشِر في شبهِ جَزيرةِ سيناء قوّاتٌ مُتعدِّدةُ الجنسيّات من ألفَي عُنصر، مِنهم عَشراتُ الأميركيين المُتمركزين في موقع رصد في جزيرة تيران، لمراقبةِ حركة المِلاحة.
ستضطرُّ السعوديّة إذًا إلى التعاوُنِ مع الـ "العدوِّ الإسرائيليِّ"، وهو ما يخفيه المسؤولونَ السعوديّونَ بعنايَةٍ عن الرأيِ العامِّ السعودي، خشيَةَ استِغلال مُعارضيهم العرب، أو الإيرانيّين، هذا الأمر الذي من شأنِه تأكيدُ شائعات عن "تقارُبٍ سرّيِّ" بينَ الرياض وتل أبيب.
تتعلَّق نقطةُ الخلافِ الثانية بين البلدين بالملفِّ السوريّ، وهي خلافاتٌ ليست جديدة، فمنذ نهاية عام 2011 ،عارَضت السعوديّة نظامَ دمشق جهراً، بينَما أحجَمت القاهرةُ عن إعلانِ موقفِها. إلا أنَّ الموقفَ المصريَّ صارَ أكثرَ حسمًا في الشهور الأخيرة، بعدَ خطابِ الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتَّحدة في سبتمبر/ أيلول 2016، والذي أوضَح أنه "لا ينبغي هدمُ مؤسَّسات الدولة (السورية)".
بعدَها بيوميْن، كشفَت تصريحاتُ وَزير الخارجيّة المصري، سامح شكري، للصحفيّين المصريين، لأوَّل مرة، عن وجودِ تبايُنٍ في الرؤى مع السعوديّة: "... لا نعتقد ذلك، ولا يوجَد مكانٌ للمنظَّمات الإرهابيّة في سورية... اللجوء إلى حلٍّ سياسيٍّ لا يتطلّبُ وقفَ إطلاق النار".
وصوتت مصر، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول، في الأمم المتَّحدة على قرارٍ روسيّ بشأنِ سورية، لم يَحصل في النهايَة سوى على أربعة أصوات. ولتبريرِ هذا الموقف، أوضح دبلوماسيٌ مصريّ أن بلدَه صوَّت كذلك على القرارِ الفرنسي الذي رُفض إثر الفيتو الروسي. وفقًا له، يَحتوي القراران (وهما شديدا التعارُض) على "نقاطٍ إيجابيّة"، خصوصاً إعادةَ إحياءِ التفاوض السياسي، والدعوةَ إلى إنهاءِ الصراع في حلب، إلا أنَّ التصويت المصريّ قوبل بردٍّ لاذعٍ من المندوب السعوديّ الذي علَّقَ: "من المؤسِف أن يكونَ موقفُ ماليزيا والسنغال أقربَ إلينا من مَوقِف مصر".
قبلَ التصويت بأيّام، ودليلاً على أنَّ الأزمةَ كانت موجودةً قبلَ الواقِعة، أخبرَت شركةُ آرامكو السعوديةُ مصرَ شفهيًا بوقفِ عقدٍ أبرمَته معها في إبريل/ نيسان الماضي، خلالَ زيارةِ الملك سلمان مصر، والذي يَقضي بإمدادِها بالموادِّ البتروليّة (700 ألف طن شهريًا). ووافَقت الكويت على أن تحلَّ محلَّ السعودية. وزاد الطينَ بلّة، إعلانُ دمشق، في 17 أكتوبر/ تشرين الأول، زيارة علي مملوك، رئيسُ مكتب الأمن الوطنيِّ السوريِّ والمقرَّب من بشار الأسد، القاهرة.
كما أنَّ ما نشرته صحيفة السفير في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني عن إرسالِ مصر 18 طيارًا من المروحيّين إلى سورية لمساعدَة الجيشِ الوطنيّ، قد أعطى مغزىً خاصًّا لتصريحاتٍ أدلى بها السيسي لصحيفةٍ برتغاليّة يوم 22 نوفمبر، ونقلَتها وكالةُ أنباء الشرق الأوسط، مؤكِّدًا على أنّه من الأوْلى دعم "الجيوش الوطنيّة"، في ليبيا وسورية، لمحاربة الإرهاب، بدلاً من الاستِعانة بقواتٍ من الأمم المتحدة. ويَرى معلِّقٌ سعوديّ في هذه التصريحات دِفاعًا عن الأنظِمة العسكرية التي يعدُّ النظام المصريّ أبرز نموذجٍ لها.
عقبَ وقف إمداداتِ الموادِّ البتروليّة، صارت النبرة في القاهرة أكثرَ عنفًا؛ حيث ندَّد كتّاب أعمِدة بـ "الطعنةِ السعوديّة في ظهر مصر"، ونادوا برفضِ "الضغط السعوديّ"، حتى أنّ بعضَهم اقترَحَ التحالفَ مع إيران. أمّا في السعودية، فيَتعامل الإعلامُ الرسميُّ مع الموقفِ بتحفُّظ شديد، بعد تلقّيه تعليماتٍ بذلك، حتى أنَّ أمين عام منظمة التعاون الإسلامي، إياد مدني، أجبِر بحزمٍ على تقديم استقالتِه، بعد سخريته من الرئيس السيسي.
إلا أنَّ الغضبَ السعودي انعكَس بصورة كبيرة على شبكاتِ التواصلِ الاجتِماعي. فعلى سبيلِ المثال، انتقد رئيسُ الديوان الملكي السابق، خالد التويجري، على "تويتر" (800 ألف متابع) موقف السيسي، بعد أن كان من أشد مؤيِّدي الأخير، وتساءل "أنسيتم مواقفَنا معكم كأشقّاء"؟!
وأعرَب الكاتبُ السعوديُّ المعروفُ، محمد الرطيان، في تغريدةٍ له على "تويتر" (2 مليون متابع)، عن غضبِه الشديدِ قائلاً: "منذ عهد الفراعنة... لم يَحكم مصر أحدٌ مجنون كهذا الرجل".
وكما الحالُ في القاهرة، لم تكن التفسيرات التي قدّمها المسؤولون في الرياض، بشكلٍ غير رسميّ، للتصعيد المصريّ المفاجئ، أقلَّ ضراوةً. يقول أحدُهم: "ما يمارسُه المصريّون ببساطةٍ ابتزازٌ صريح، أملاً في الحصولِ على مزيدٍ من المساعدات".
ويقولُ آخر: "لسنا مجرَّدَ مانحي شيكات بالمليارات. لدينا انطباعٌ بأننا نُلقي أموالنا في حفرةٍ بلا قاع، وبأنَّ الأموال تذهبُ إلى خزائن القادة العسكريّين، وليسَ إلى الشعب". كما يتساءلُ باحثٌ آخر بسخريَةٍ عن "أهمية مصر": "دور مصر الإقليمي ينحصرُ في امتلاكِها مفاتيحَ معبرِ رفح في غزة"، وفي السماح بمرور الفلسطينيّين من عدمِه، وبالتالي، في الاحتفاظ بحقِّها في الإدلاء برأيِها في ذلك الملف.
لقد أثار عزوفُ مصر عن المشاركة بشكلٍ كامل في حربِهم على اليمن إحباطَ السعوديّين، إذ كانوا يأمَلون في أن ترسلَ مصرُ قوّات بريةّ. وقد فسّروا هذا الموقفَ تقليلاً من شأن "الخطرِ الإيراني".
"تكتيك" الملك سلمان
في هذا السياق، قد تُفسَّر أيُّ جملةٍ غيرِ مباشرة أو غامضة بشكلٍ خاطئ. حيث أثارَ تبنّي الكونغرس الأميركي، في 28 سبتمبر/أيلول، قانون العدالة ضدَّ رُعاة الإرهاب (جاستا)، والذي يتيحُ للمواطنين الأميركيين ملاحقةَ الدول المتوَرِّطة في أعمالٍ إرهابيّة، على الرغم من تصويتِ الرئيس باراك أوباما ضدَّه في بادئ الأمر، ارتباكًا حقيقيًّا في الرياض، وهي أوَّل عاصمةٍ يستهدفُها القانون الذي يشيرُ إلى أحداث 11 سبتمبر، المتورِّط فيها 15 سعوديًا.
وقد أمضى وزيرُ الخارجيّة السعودي، عادل جبير، شهريّ أكتوبر ونوفمبر في الولاياتِ المتّحدة، في محاولةٍ للضغط على أعضاءِ الكونغرس لثنيهم عن إصدارِ هذا القانون. وإذا كانَ ردُّ فعل السعودية وغيرِها من الدوَل القلقة من هذا "الملحق" من القانونِ الأميركيِّ حازمًا، فقد تفرَّد ردُّ فعلِ وزيرِ الخارجيّة المصريِّ بـ "اعتدالِه"، إذ أكَّد ببساطةٍ أن القاهرة تتابعُ القرار "باهتمام".
ويَعزو الجانبُ المصريُّ المشكلات القائمةَ بين البلدَين إلى تولّي الملك سلمان زمامَ الحكم. "كان الملك عبدالله يدافعُ عن مواقفَ قائمةٍ على المبادئ، وكان القضاءُ على الإخوان المسلمين على رأسِ أولويّاته وأولويّاتنا. أمّا الملك سلمان، فإنَّ تفكيرَه يقوم بشكلٍ أساسيّ على التكتيك. ومن هنا، كان تحالفُه مع الإخوانِ المسلمين في سورية، وخصوصاً في اليمن. إنّه لا يأخذُ مصالحَنا في الاعتِبار"، بحسبِ دبلوماسيٍّ مصري.
وفي الواقع، يسعى الملك سلمان، والذي تؤكِّد مصادر عديدة ممانعتَه انقلاب 3 يوليو في مصر، في حينِه، إلى تكوينِ حلفٍ سنيٍّ كبير، يضمُّ أعضاءَ منظَّمة التعاونِ الإسلاميِّ بشكلٍ أساسيّ. وهو لم يتردَّد في تعزيزِ محوَر الرياض- أنقرة، على الرغم من إدانةِ الرئيسِ التركيِّ هذا الانقلاب، والقمعِ في مصر كلَّما أتيحَت له الفرصة.
بالإضافة إلى أنّه يقبلُ إمكانيّة إفساحِ مكانٍ، ولو كان صغيرا، للإخوان المسلمين في تلكَ الجبهة، وهو ما لا يحتملُه النظام المصري الذي يشعرُ بالقلق من تَنامي قوّة الإسلام السياسي. وقد أكَّد فَوزُ "الإخوان" في الانتِخابات التشريعيّة الكويتية مخاوِفَ السيسي، وهو الذي لا يفرِّق بين الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
مسلمون "حقيقيون" وآخرون "مزيًّفون"
وتمثِّل الوهابية التي ترفعُ المملكة رايتها مصدرًا آخرَ للخلاف والقلق في القاهرة. وقد تبنّى المؤتمر الإسلاميُّ المنعقِد في غروزني من 25 إلى 27 أغسطس/ آب، تحتَ رعايَة الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، بيانًا ختاميًّا بعنوان "من هم أهلُ السنّة؟"، استثنى فيه السلفيّين من توصيفِ "أهل السنّة والجماعة"، الأمر الذي عُدَّ إدانةً صريحةً للوهابية.
في هجومٍ آخر، ذَكر النصُّ كبرى الجامعات الإسلاميّة التي تُعَدُّ مرجعيّة، من دون ذِكر أيَّةِ جامِعة سعوديّة. وقد استغلَّ شيوخُ السعودية المؤتمر لإدانةِ مشارَكة شيخ الأزهر أحمد الطيِّب فيه. وإذا كان الأخيرُ قد اشتهر في مصر بعدائه للوهابيّين، وهو أيضًا موقفُ بعض الصحف الرسمية، خصوصاً "الأهرام"، إلا أنّه ظلَّ ممتنِعًا، حتّى تلك اللحظة، عن اتِّخاذ مواقفَ رسميّة.
أدانت المؤتمرَ هيئةُ كبار العلماء، وهي أعلى هيئةٍ دينيّة في السعودية. وشنَّ آخرون هجومًا عنيفًا على مصر على "تويتر"، منهم محمد آل الشيخ، الكاتبُ في صحيفة "الجزيرة" اليوميّة السعوديّة، والذي غرَّد يوم 30 أغسطس/ آب على صفحتِه (160 ألف متابع) قائلاً: "علينا تغييرُ تعاملِنا مع مصر، فوطنُنا أهمّ، ولتذهب مصرُ السيسي إلى الخراب".
وأخيرًا، أصدرَ الأزهرُ بيانًا مرتبِكًا أوضحَ فيه أنّه لا علاقةَ له بتنظيمِ المؤتمرِ، ولا بالرئيس قديروف الذي استقبلَه الملك سلمان، يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، ما وضعَ نهايةً لتلك المعاركِ العقائديّة.
طلاقٌ غيرُ جائز
هناك عاملٌ آخر يؤثِّر على السياسات الإقليمية للرياض والقاهرة، وبالتالي على علاقاتِهما، إلا أنّه نادرًا ما يُذكر في سياق التوتُّرات المشتعِلة بينهما؛ وهو انسِحابُ الولايات المتَّحدة من المِنطقة. على إثرِه، صارَ المصريّون والسعوديّون في حال حرجة، بعد أن مَثَّل التحالفُ مع واشنطن، عقوداً، المقياسَ لنجاعَة سياستِهما الخارجية.
حاول البلدان، في الشهورِ الأخيرة، ارتِجال استراتيجيّةٍ إقليميّة، بشكلٍ مُرتبِك أحيانًا، وتنتظِران بقلق، ولكن أيضًا بأمل قليل، إلى إدارةَ الرئيس الجديد، دونالد ترامب.
لم يُخفِ الأخيرُ إعجابَه بالرئيس السيسي، ولاقت انتقاداتُه إيران استِحسان السعوديّة التي كانت تتوجَّس خيفةً من التقارب الذي حدثَ بين أوباما وإيران إثر الاتِّفاق بشأن الملفِّ النوَوِيّ الإيراني.
لكن، هل يعيدُ ترامب النظر في الغِياب الأميركي عن المنطقة؟ من المبكِّر جدًا التنبؤ بهذا، لكن المخاوِف التي أبدَتها إسرائيل بشأن المخاطرِ التي تتهدَّد أنصار "الاستِقرار" من جرّاء تدَهْورِ العلاقات بين الرياض والقاهرة، والذي قد يَصبّ في مصلحة إيران، ستؤثِّر على خِيارات واشنطن.
هل تُدرج مصر والسعودية القطيعةَ الحاصِلة بينَهما في جدوَل أعمالِهما؟ "نحن نتعاملُ مع دولتَين كبيرتَين في الشرق الأوسط، واتفاقُهما حَول جميعِ الملفّات هو أقربُ ما يَكون إلى المُستحيل. لكنَّ المهم هو كيفيَّة إدارةِ تلك الخلافات، وهو أمرٌ ليس سهلاً دائمًا، بالنظر إلى الحساسيّات التي تَكنُّها بعضُ الأطراف تجاهَ بعضِها"، بحسبِ سفيرٍ عربيّ في الرياض.
خصوصاً أنه، كما أكَّد مراقبون في القاهرة، من الصعْب معرفةُ خبايا السياسات التي قرَّرَ عبد الفتاح السيسي اتباعها، بشكلٍ منفرد وغير متوقَّع، بعد أن همَّشَ وزارةَ الخارجيّة المصريّة.
من الواضحِ أنَّ الأولويّات في القاهرة والرياض ليست دائمًا مشتركة؛ فأكثرُ ما يُقلق مضجعَ المملكة هو التهديد الإيرانيّ، بينما تنغمِس مصرُ في حربٍ ضدَّ الإرهاب في سيناء وليبيا، إلا أنّهما تتقاربان تجاهَ بعضِ المسائل، خصوصاً في عدائهما ثوراتِ "الربيع العربي" ورغبتِهما في "استِقرار" المنطقة.
كما تتعاوَن الدولتان كذلك في الملفِّ الفلسطيني، وتعملان معا لمجابهةِ النفوذِ الإيرانيِّ في القرنِ الأفريقيِّ، خصوصاً في إريتريا والسودان، وهو ما ليسَ معروفًا للعامّة. وقد أدَّت مناوَراتهما إلى قَطعِ الخرطوم علاقاتِها الدبلوماسية مع إيران.
عن العلاقة بين مصر والسعودية، يقولُ أحد الدبلوماسيّين العرب مبتسمًا: "إنها علاقة زواج قائمة على العقل. كما أنّه زواجٌ كاثوليكي، لا يَجوزُ فيه الطلاق".
ألان غـريش- العربي الجديد-