معركة «عض الأصابع.. من يصرخ أولا»، شعار السجال الدائر بين المملكة العربية السعودية، ومصر، على خلفية أزمات دبلوماسية وسياسية صاخبة بين البلدين على مدار الأشهر القليلة الماضية.
الرياض والقاهرة، كانتا «أقوى حليفين في المنطقة العربية»، وشكلا تحالفا قويا لإجهاض ثورات الربيع العربي، خاصة في مصر بإسقاط «محمد مرسي» أول رئيس مدني منتخب في تاريخ البلاد، ودعم الرئيس المصري «عبدالفتاح السيسي»، لكن الحسابات ولغة المصالح تضاربت بين الحليفين المتنازعين على قيادة المنطقة العربية، وإدارة دفة التوازنات الإقليمية في المنطقة.
«حرب أوراق الضغط» الدائرة بين السعودية ومصر، تؤكد أن كل طرف يمتلك في جعبته ما يزعج به الآخر، ويشكل له صداعا مزمنا، لذا سارعت القاهرة إلى الدفع بأكثر من وسيط خليجي في محاولة لإذابة الجليد بين العاصمتين الأكبر نفوذا في العالم العربي.
قراءة «أوراق الضغط» التي يمتلكها الجانب السعودي، يبدو أنها أكثر إيلاما للقاهرة، في ظل ما تعانيه البلاد من أزمات اقتصادية خانقة، وانهيار قيمة الجنيه المصري، ونقص العملة الصعبة، وتراجع تحويلات المصريين في الخارج، وكساد قطاع السياحة المصري، وتعرض مصر لموجة من عمليات العنف والتفجيرات الانتحارية.
ورقة الإخوان
كانت المملكة العربية السعودية أكبر الداعمين سياسيا واقتصاديا لنظام «السيسي» منذ اللحظة الأولى لإسقاط جماعة «الإخوان المسلمين»، لذلك يعتبر سحب المملكة لدعمها السياسي للنظام الحالي، أحد أهم أوراق الضغط التي يمكن أن تمارسها الرياض على القاهرة.
حتى الآن لم تلجأ الرياض إلى استخدام ورقة «الإخوان» بشكل مباشر، وسط تلميحات وتقارير متداولة عن قرب رفع اسم الجماعة من قائمة الارهاب التي وضعتها المملكة في عهد الملك الراحل «عبدالله بن عبدالعزيز»، ربما تتسع مساحة التحركات السعودية في هذا المضمار إلى دعوة قيادات من إخوان الخارج للقاء مسؤولين سعوديين، ما يمثل اعترافا ذا مغزى بشرعية الجماعة وأن ما تعرضت له في 3 يوليو/ تموز 2013 كان «انقلابا عسكريا» وأنه من حقها العودة للشارع السياسي في مصر، والإفراج عن معتقليها وفي مقدمتهم «محمد مرسي».
التقارب السعودي مع الإخوان منذ وصول الملك «سلمان» للحكم، ظهر من خلال تعاون الرياض مع «إخوان اليمن» في حربها ضد الحوثيين، وفي سوريا في حربها ضد نظام «الأسد» وإيران، كما أن المملكة أصبحت تدرك أن الإخوان يمثلون «حائط صد» قوي أمام النفوذ الشيعي الإيراني في المنطقة، لذلك استقبل الملك «سلمان»، العلامة الدكتور «يوسف القرضاوي» والشيخ «راشد الغنوشي» وهما من أبرز رموز الجماعة حول العالم، ما يثير حفيظة النظام في مصر الذي يعتبر «الإخوان» العدو اللدود له.
المساعدات والعمالة
تعد ورقة المساعدات والمنح السعودية المقدمة للحكومة المصرية، ذات ثقل كبير في إدارة ملف الخلاف القائم بين البلدين، وهي ورقة مؤثرة ومتشعبة تشمل خيارات وإجراءات عقابية عدة، حال فكر الساسة السعوديون في اللجوء إليها، وهو ما حدث بالفعل، في اتخاذ قرار وقف شركة «أرامكو» السعودية لإمداداتها النفطية لمصر، والبالغة نحو 700 ألف طن من المواد البترولية المكررة، وذلك ردا على تصويت مصر لصالح مشروع قرار روسي رفضته المملكة حول سوريا في مجلس الأمن.
ويشكل هذا القرار ضغطا كبيرا على مصر التي تعاني من نقص حاد في الدولار وزيادة المتأخرات المستحقة لشركات النفط الأجنبية لدى الحكومة، ويكبد قرار «أرامكو» الحكومة المصرية نحو مليار دولار شهريا لتعويض تلك الإمدادات.
ثمة خيارات أخرى يتضمنها الملف الاقتصادي، تشمل القروض والمنح والاستثمارات السعودية في مصر، حيث كانت المملكة من أوائل الدول التي بادرت بتقديم مساعدات مالية كبيرة لمصر في أعقاب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وأحداث 30 يونيو/ حزيران 2013، للمساعدة في دعم الاقتصاد المصري، والخروج من الأزمة المالية المصاحبة للاضطرابات الشعبية.
ورغم عدم وجود أرقام رسمية حول حجم المساعدات السعودية للقاهرة، التي تم تقديمها خلال السنوات الخمس الماضية، فإن خبراء يقدرونها بنحو 30 مليار دولار ما بين قروض ومنح وودائع مساندة لدي «البنك المركزي المصري»، منذ انقلاب يوليو/ تموز 2013، كان لها الفضل في تلبية القاهرة شروط صندوق النقد الدولي للحصول على القرض البالغ قيمته 12 مليار دولار.
يقول مسؤول سابق في وزارة التعاون الدولي، طلب عدم الإفصاح عن اسمه، إن «الصندوق السعودي للتنمية هو أحد جوانب الضغط المحتمل استخدامها (من قبل السعودية) في ظل أي خلاف معها»، بحسب «مدى مصر».
ووقعت وزارة التعاون الدولي المصرية اتفاقا مع الصندوق السعودي للتنمية، أقره البرلمان لاحقا، لتنفيذ «برنامج الملك سلمان لتنمية سيناء»، عبر قرض بواقع 1.5 مليار دولار.
ويقدر الخبراء حجم الاستثمارات السعودية في مصر بأكثر من 6 مليارات دولار، حيث تعد السعودية ثاني أكبر مستثمر في الاقتصاد المصري، بخلاف الاتفاقيات التي تم توقيعها بين البلدين خلال زيارة الملك «سلمان» الأخيرة لمصر، أبريل/ نيسان الماضي، وعلى رأسها «جسر سلمان» الذي يربط بين المملكة ومصر، و«جامعة سلمان» في سيناء بتكلفة 300 مليون دولار، وتطوير مستشفى «قصر العيني» بتكلفة 120 مليون دولار، ومحطة كهرباء غرب القاهرة بتكلفة 700 مليون دولار، بالإضافة إلى الصندوق السعودي المصري بقيمة 60 مليار ريال سعودي الذي تم الاتفاق عليه خلال الزيارة.
وتلمح تقارير صحفية إلى توقف تنفيذ الاتفاقات المبرمة المشار إليها سابقا، وإلغاء بعض الاستثمارات السعودية في مصر بالفعل، ضمن خطة المملكة لتقليص عجز الموازنة من بينها مشروعات عملاقة على ساحل البحر الأحمر.
تبرز كذلك ورقة العمالة المصرية، حيث تحتضن المملكة أكثر من مليوني عامل مصري، يتخوفون من أن تقوم الرياض بترحيلهم انتقاما من النظام المصري، وتدرس جهات سعودية حاليا، تقليل نسبة العمالة الوافدة إلى أراضيها في إطار محاربة البطالة، بترحيل من تتجاوز أعمارهم الـ40 عاما، وهو القرار الذي سيضر بشكل كبير بالعمالة المصرية.
وتمثل تحويلات المصريين العاملين في السعودية 40% من حجم تحويلات المصريين العاملين في الخارج التي تتلقاها مصر، وذلك بحسب بيانات البنك الدولي.
ويتوقع البنك الدولي أن تُحصّل مصر 18.4 مليار دولار كتحويلات من العاملين في الخارج بنهاية العام 2016، من ضمنها حوالي 7 مليارات دولار من المصريين العاملين في السعودية.
الورقة القطرية التركية
هي الورقة الإقليمية الأكثر إزعاجا للنظام المصري، في ظل توتر علاقات القاهرة بـ«الدوحة» و«أنقرة» على خلفية استضافتهما معارضيه من قيادات جماعة الإخوان، وبث قنوات معادية له من أراضيهما، لكن حرب اليمن، وسعي السعودية للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، كانت سببا كافيا لتطور ونمو العلاقات بين الرياض وأنقرة؛ خاصة أن الملك «سلمان» يريد أن يجد له حليفا قويا لتعويض الجفاء في العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة.
يعزز التقارب السعودي القطري التركي، الرغبة من قبل الثلاثي «سلمان» و«تميم» و«أردوغان» في تشكيل «محور سني» من شأنه التصدي للمحور الإيراني الروسي السوري المدعوم من القاهرة، ومواجهة تمدد النفوذ الشيعي في المنطقة، ودعم المعارضة السورية ضد نظام «بشار الأسد».
ويرى مراقبون أن التطورات المتلاحقة في العلاقات «التركية-الخليجية»، وتزايد التقارب مع الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، وتوقيع اتفاقات اقتصادية بمليارات الدولارات مع أنقرة، وزيارة «سلمان» منذ أيام لقطر بمثابة رسالة تهديد للقاهرة التي ترتبط بعلاقات متوترة مع النظامين التركي والقطري.
أوراق القاهرة
بالنظر إلى الأوراق التي تمتلكها القاهرة في مواجهة أوراق الضغط السعودية، يبدو أن سياسة رد الفعل ستكون الحاكم للبوصلة المصرية، من خلال التقارب مع خصوم المملكة ابتداء من الجانب الإيراني مرورا بسوريا والعراق، وصولا إلى «حزب الله» في لبنان و«الحوثيين» في اليمن.
أهم هذه الأوراق، تلكؤ الحكومة المصرية في تسليم جزيرتي «تيران» و«صنافير» المصريتين للسعودية، والتذرع بحكم قضائي صدر مؤخرا يرفض التنازل عنهما للمملكة.
وتعتبر المملكة أن ما حدث في مسألة الجزيرتين مثل خداعا متعمدا للملك «سلمان بن عبدالعزيز»، الذي زار القاهرة مطلع أبريل/نيسان الماضي، ووقع عددا من الاتفاقات التي كان في مقدمتها تنازل الحكومة المصرية عن «تيران» و«صنافير»، في مقابل مساعدات اقتصادية سعودية.
وتبرز الورقة الإيرانية في معركة «عض الأصابع» بين البلدين، لذلك سارعت القاهرة إلى التلويح بها عبر وسائل إعلام مصرية تداولت تقارير عن تقارب بين القاهرة وطهران، أعقبه لقاء رسمي بين وزيري الخارجية في البلدين على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، سبتمبر/آيلول الماضي.
زادت نغمة التهديد بورقة إيران، التي تعد العدو اللدود للمملكة، بالإعلان عن استعداد طهران إمداد القاهرة بالنفط عوضا عن الشحنات السعودية المتوقفة، وإرسال 10 ملايين حاج لزيارة المزارات الشيعية الموجودة في مصر سنويا.
لكن الأخطر من ذلك في نظر الرياض، انضمام مصر للمحور الإيراني الروسي الداعم لـ«الأسد» في سوريا، و«ميشال عون» في لبنان و«حفتر» في ليبيا، و«الحوثيين» في اليمن، ما يعني إضرارا كبيرا بالأمن القومي الخليجي والسعودي خاصة.
عزز تلك المخاوف، المناورات التي جرت الشهر قبل الماضي بين الجيشين المصري والروسي في مدينة «العلمين» على البحر المتوسط تحت اسم «حماة الصداقة»، في ظل خلاف شديد بين الرياض وموسكو حول الملف السوري، والمخاوف السعودية من الدور الروسي المعادي للمصالح العربية في سوريا واليمن وليبيا، والمساند لسياسات إيران التوسعية في المنطقة.
وتشعر الرياض بقلق وانزعاج كبيرين جراء خروج بوصلة السياسة المصرية، عن طوعها، وكونها باتت في خط مضاد للمواقف السعودية، في ملفات حساسة للأمن القومي الخليجي والعربي، يتصدرها ملفي اليمن وسوريا.
وكانت السعودية تتوقع من مصر إرسال قوات برية كجزء من القتال ضمن قوات التحالف العربي في اليمن، لكن القاهرة رفضت، وتجاهلت وعود رئيسها ضمن سياسة «مسافة السكة» التي أعلنها مرارا «السيسي» لحماية الأمن القومي العربي.
زاد من القلق السعودي، الأنباء المتداولة من صحف قريبة من «حزب الله» اللبناني عن وصول طيارين مصريين لدعم «الأسد»، ما يعني من وجهة نظر الرياض أن «المؤسسة العسكرية في مصر تعمل وفق أجندة مضادة لمصالح المملكة».
تبقى هناك أوراق غير مؤثرة في يد الساسة المصريين، لكن اللجوء إليها يأتي من منطلق المثل المصري القائل «العيار اللي ميصبش يدوش»، منها التهديد بمقاطعة العمرة والحج، بحجة توفير نحو ستة مليارات دولار للبلاد في ظل نقص العملة الصعبة، وشن حملات إعلامية لاذعة ضد النظام السعودي، وتوجيه إهانات -عبر صحف مقربة من أجهزة أمنية في البلاد- للملك السعودي ونجله.
على أية حال تبقى أوراق الضغط السعودية الأكثر ثقلا وتأثيرا في موازين القوى بين البلدين، في مواجهة نظام حاكم في مصر له العديد من الخصوم في الداخل والخارج، ويعاني وضعا اقتصاديا وأمنيا متدهورا، وتراجعا حادا في شعبيته، ما دفعه مرارا إلى طلب الوساطة من دول الإمارات والكويت والبحرين؛ لإنهاء الأزمة، وإيفاد أمين جامعة الدول العربية، المصري الجنسية «أحمد أبوالغيط»؛ لفك الاحتقان القائم والمرشح للاستمرار، في ظل تباعد مواقف البلدين في ملفات عدة، وهي الجهود التي كان مصيرها الفشل حتى إشعار آخر.
الخليج الجديد- أحمد ولد مبروك-