«المملكة العربية السعودية»، هكذا أجاب المُرشّح لرئاسة الجمهورية عبد الفتاح السيسي على سؤال عن أول بلد سيقوم بزيارته بعد فوزه برئاسة الجمهورية.
هذا المشهد وما تلاه من تعاون قوي بين مصر والسعودية، يتناقض بوضوح مع ما آلت إليه العلاقات بين البلدين من تدهور، وصل لحدّ قطع السعودية إمدادات البترول عن مصر، ثم زيارة وفد سعودي رفيع المستوى لإثيوبيا وسط أنباء عن زيارته لموقع سدّ النهضة الذي يُهدّد حصّة مصر من مياه النيل، في خطوة لا تُعبّر عن أي مودّة من قبل السعودية لمصر، ووسط حالة من التلاسن الإعلامي لم يشهدها البلدان منذ ما يقرب من نصف قرن.
إجابة السيسي على السؤال عن زيارته الأولى، كرئيس للجمهورية، لم تكن مُفاجئة. فالعلاقة بين مصر والسعودية في أعقاب إطاحة الرئيس الأسبق محمد مرسي، المنتمي لجماعة «الإخوان المسلمين»، لم تكن مجرّد تحالف بين بلدين، ولكن واقع الأمر، كان مصير كلا البلدين في تلك المرحلة يعتمد على الآخر.
فالنظام الذي تسلم مقاليد الحكم عقب 30 حزيران 2013، كان يُدرك حجم الأزمة الاقتصادية التي تُعانيها البلاد، والتي بدأت في الانعكاس على الشارع مُباشرة، في طوابير طويلة أمام محطّات البنزين، وانقطاع شبه دائم للتيار الكهربائي، وتراجع غير مسبوق لاحتياطي النقد الأجنبي يُنذر بكارثة في توفير الواردات من السلع الأساسية. وكان ضمان الدعم المالي الفوري من دول الخليج بقيادة السعودية شرط أساسي لنجاح إطاحة مرسي.
ليس الدعم المالي فقط، ولكن تأييد السعودية ودول الخليج للنظام الذي أعقب 30 حزيران، كان ضروريا أيضاً لكسر العزلة حوله، وتخفيف ضغط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وكل من اعتبر ما جرى انقلاباً عسكرياً على رئيس منتخب.
الاحتياج لم يكن من جانب واحد، فالسعودية وخلفها دول الخليج العربي لم تشعر بالارتياح لوجود جماعة «الإخوان المسلمين» في السلطة في مصر، بما يُمثّله ذلك من تغذية طموحات لدى امتداد الجماعة في الخليج أو جماعات شبيهة في المنطقة، وبما قد يعني انتقال السلطة الروحية في العالم الإسلامي من بلد الحرم إلى بلد الخلافة المُرتقبة.
كذلك وجود جماعة «الإخوان المسلمين» في السلطة في مصر وتناقضها مع مؤسسات الدولة واستحكام الأزمة السياسية والاقتصادية في البلد الأكبر عربياً، كان يُنذر بخطر كبير، على المنطقة المشتعلة بالفعل إذا ما وصلت الأمور لحدّ الانهيار في بلد الـ 90 مليون نسمة.
كانت السعودية تحتاج لقوة داخلية تنتمي للدولة المصرية تخلق استقراراً للأوضاع في مصر، وكان نظام «30 يونيو» يحتاج لقوة خارجية تضمن دعماً اقتصادياً سريعاً ومساندة خارجية قوية في مواجهة عزلة محتملة.
هكذا بدا الارتباط بين مصر والخليج بقيادة السعودية مصيرياً بالنسبة للطرفين في العام 2013 وما تلاها، ولكن الأسباب الحقيقية والقوية لهذا الارتباط لم تنفِ تناقضات هامة، أمكن تأجيلها مرحلياً، في سياسة كلا الطرفين، ولكن هذا التأجيل لم يكن أبدياً، فسرعان ما بدأت التناقضات تفرض نفسها على العلاقات المتينة لتُضعفها وتصل بها لحد الأزمة.
اطمأنت السعودية لاستقرار الأوضاع في مصر وبعدها عن احتمالات الانهيار، واطمأنت مصر إلى تراجع احتمالات العزلة الدولية، وحصلت بالفعل على الدعم الذي توقّعته بعد «30 يونيو»، وبدأت الخلافات الجوهرية في الظهور سريعاً، ما جعل الخلافات التي وصلت لحد الأزمة تحل محل الوئام. فالسعودية التي اطمأنت لاستقرار الأوضاع في مصر، أصبحت مشغولة أكثر بتمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة، والوضع المتفجّر في اليمن وسوريا، وتوقّعت من الصديق المصري أن يدعمها في الملفين.
ولكن موقف الصديق المصري من الأوضاع في اليمن وسوريا، كان يختلف عن الموقف السعودي والخليجي إجمالاً.
فالنظام المصري عقب حزيران 2013، كانت أولويته تنصبّ على رفض أي وجود لجماعة «الإخوان المسلمين» في المنطقة، وأي دور محتمل لها في حلّ مستقبلي سواء في اليمن أو سوريا أو ليبيا. كما أن الخصومة التي تصاعدت بين مصر وكل من قطر وتركيا (حليفي السعودية) ألقت بظلالها على التعاون المصري السعودي في تلك الملفات.
ربما كان الخلاف في كل من اليمن وليبيا يحتمل التجاهل بدرجة ما، فالوضع في ليبيا ستكون الأفضلية فيه للرؤية المصرية، أما في اليمن، فالأفضلية بالتأكيد للرؤية السعودية، أما الملف السوري فلا يُمكن تجاهل التناقضات فيه. وبالنسبة لمصر، كانت الأولوية المعلنة هي مواجهة الجماعات الإرهابية، وليس إطاحة نظام بشار الأسد.
بينما وضعت السعودية أولويتها إطاحة الأسد ونظامه، ودعمت المعارضة التي تضمّنت مُكوّنات إسلامية قريبة من جماعة «الإخوان المسلمين». وتلاقت الرؤية السعودية، بالطبع، مع خصوم مصر في المنطقة، تركيا وقطر، بينما تلاقت الرؤية المصرية مع خصوم السعودية إيران و»حزب الله» وروسيا.
هكذا أصبح الحليفان في خندقين مُتقابلين، ومع اقتراب الأوضاع من الحسم لصالح إحدى الرؤى في سوريا، ساءت العلاقات أكثر بين البلدين.
الخلاف حول الملف السوري ليس الوحيد وإن كان الأهم. فالملف السوري لا يعكس فقط خلافاً بين البلدين، بقدر ما يعكس رؤيتين متناقضتين بينهما للمنطقة. فالسعودية أولويتها هي مواجهة النفوذ الإيراني الذي يُهدّد وضعها في المنطقة، وفي سبيل ذلك تسعى لبناء تحالف سني لا يُمكن أن يخلو من تركيا وقطر، ويحظى بدعم الحركات الإسلامية السنية في المنطقة مثل جماعة «الإخوان المسلمين».
وهو ما يتناقض بوضوح مع الرؤية المصرية، التي ترى في جماعات الإسلام السياسي حتى المعتدلة منها، الخطر الأكبر الذي يجب مواجهته، كما أنه لا يُمكن أن تكون في تحالف يضمّ خصومها الداعمين لـ «الإخوان»، تركيا وقطر.
الخلافات الجوهرية التي ظهرت في العلاقات بين الطرفين دعمتها عوامل أخرى في كلا البلدين. فالسعودية التي تورّطت في حرب اليمن والأزمة السورية عانت من استنزاف ممتدّ لمواردها، والتي تراجعت بالفعل جراء انهيار أسعار النفط. ومع عدم إحرازها لتقدّم في اليمن أو سوريا، شعرت بالخذلان من الصديق المصري الذي لم تجد منه الدعم المُتوقّع.
من ناحيتها، ومع تطوّرات الأزمة السورية، تراجعت العبارات الديبلوماسية المصرية وأصبح إعلانها لموقفها في مجلس الأمن، بعكس الرغبة السعودية، أمراً لا بدّ منه. كما فُوجئ النظام بردّ الفعل الشعبي على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة، والذي تخلّت فيه الحكومة عن جزيرتي تيران وصنافير، فلم تتمكّن من المضي قدماً في تنفيذ الاتفاق والتنازل عن الجزيرتين، ما دعم تدهور العلاقات بين البلدين.
تدهور العلاقات بين البلدين لم يعد يجدي معه الإنكار، خاصّة مع اتخاذ خطوات واضحة مثل التصويت المصري في مجلس الأمن ووقف البترول السعودي وزيارة أثيوبيا والتراشق الإعلامي.
وأمام هذا التدهور هناك من يرى أنها مجرد سحابة صيف عابرة سرعان ما ستتلاشى وتبقى المصالح الاستراتيجية حاكمة للعلاقات بين البلدين.
بينما سيرى البعض الآخر أن تاريخ العلاقات بين البلدين سيطر عليه بالفعل التنافس، إما الصاخب أو الهادئ، على زعامة المنطقة، وأن فترات الوئام التي تُشبه الفترة التي أعقبت حزيران 2013 كانت هي اللحظات العابرة.
مصطفى بسيوني - السفير اللبنانية-