لم يكن يوم الاثنين الماضى مختلفا فى الربع ساعة الأولى منه.. نفس الطقس البارد. نفس الغلاء. واختفاء الدواء. لكن سرعان ما دبت حرارة هذا الجو الكئيب سرت فرحة وتلونت الوجوه بابتسامة سعادة وفرحة. وذلك بعدما أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمها النهائى البات بأن جزيرتى تيران وصنافير مصريتان. وهذا سلوك بديهى ووطنى لا يلام عليه المرء ولا يحتاج إلى مذكرة تفسيرية أو تحليل. ربما على الآخرين أن يقدموا الحجج والمخاطرون يعيدوا حساباتهم ويرتبوا أوراقهم بما فى ذلك دراسة أوضاع كافة المحبوسين فى قضايا مظاهرات تيران وصنافير والإفراج عنهم.
وما بين فرحة معظم المصريين وصدمة الأقلية منهم مساحة مليئة بالتساؤلات والألغام. ثمة سيناريوهات تفرض نفسها على كل أطراف القضية فى الداخل والخارج. الحكومة والبرلمان المحكمة الدستورية ومؤسسة الرئاسة. تساؤلات تتصل بالماضى وأخرى بالمستقبل. وبكيفية الخروج من المأزق، والتعامل مع الملف الشائك جدا. فنحن أمام أهم وأخطر قضية تشهدها مصر.قضية ستعبر عن نفسها بكل الأشكال وإلى أبعد مدى ممكن أن يصل إليه عقل. هذه قضية لا يجب التهوين منها أو رفع شعار التجاهل أو التطنيش فى مواجهتها. هذه القضية لا تجب معالجتها بأساليب الحزب الوطنى المنحل «خناقات القضايا» لأننا أمام قضية سياسية فى المقام الأول والثانى وحتى العاشر حتى لو تقاطع المسار القضائى مع السياسى، وحتى لو طفت خناقات المحاكم وتنازعها على السطح. هى قضية سياسية فى جوهرها حتى وإن كان أبطالها الآن قضاء شامخا ومحامين وطنيين أكفاء استطاعوا أن يحققوا انتصارا ساحقا فى ساحات القضاء.
1- المشهد المرتبك
كل من جلس أمام شاشات التليفزيون بالأمس لم يحصل إلا على مزيد من الأسئلة والحيرة. عشرات الآراء والمحللين وفى النهاية ستنتهى إلى نقطة البداية. نقطة أننا نعيش فى أزمة حادة.. بعد حكم الإدارية العليا أصبحت اتفاقية تيران وصنافير منعدمة كأن لم تكن. لا تساوى حتى الحبر الذى كتبت به. هذه قاعدة قانونية يعلمها طلاب كلية الحقوق فى السنة الأولى. وبالمثل يعلم كل طالب حقوق أن أحكام القضاء الإدارى لا يتم إيقاف التنفيذ فيها من خلال القضاء العادى. هذا مسار قانونى مختلف.
وأيام الحزب الوطنى ابتدع مرشحو الحزب موضة الطعن فى أحكام القضاء الإدارى ببطلان ترشحهم أمام القضاء العادى. ولذلك لم أشعر بالدهشة من تكرار نفس السيناريو. ولكننى دهشت فعلا من صدمة الحكومة وغضبها لأن بعض المصريين والمحامين لجأوا للقضاء الإدارى لإلغاء الاتفاقية. فحتى قبل ثورة 25 يناير كانت ساحة القضاء هى أهم أسلحة مقاومة النظام. وكان مجلس الدولة الطريق لإلغاء قرارات حكومية عديدة على رأسها الخصخصة وقضية أرض مدينتى. ولذلك لجوء خالد على ورفاقه من القانونيين البارزين لمجلس الدولة خطوة متوقعة. خاصة أن الحكومة الشاطرة تأخرت كثيرا فى إرسال الاتفاقية إلى البرلمان. وهذا التأخر يمثل علامة استفهام لدى الكثيرين. بل إن الحكومة لم تقم بإرسال الاتفاقية للبرلمان إلا قبل أسبوعين من موعد صدور الحكم النهائى للمحكمة الإدارية العليا. ويرجع البعض هذا التأخر إلى إجراءات تتعلق بتوابع اتفاقية كامب ديفيد. فقد أرسلت الاتفاقية إلى إسرائيل لأن الملحق الأمنى من اتفاقية كامب ديفيد يجعل إسرائيل طرفا ثالثا. وبعد أشهر من الدراسة قام رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو بالتوقيع على الاتفاقية. ولكن تأخر إرسال الاتفاق إلى البرلمان لم يكن خطيئة الحكومة الأولى. فالحكومة اعتمدت على مصدر واحد أو بالأحرى اتجاه واحد فى الحصول على المستندات. واعتمدت بالأساس على المستندات التى تخص القضية فى عهد الرئيس المخلوع مبارك. وهذه النقطة علامة استفهام ونقطة ضعف فى موقف الحكومة. فقد قدم الطرف الآخر عشرات بل مئات المستندات التى تعود لسنوات بعيدة تؤكد سيادة مصر على الجزيرتين . وبعيدا عن اختلاف الآراء فإن حكم المحكمة أنهى هذا الجدل. وبحكم نهائى من المحكمة الإدارية العليا فإن الجزيرتين مصريتان. وعلى الحكومة أن تتعامل من هذه الحقيقة لأن الحكم عنوان الحقيقة.
2- المسئولية السياسية
ولذلك فإن أول خطوة هى يجب أن يتحمل من وقع على الاتفاقية مسئوليته السياسية. فالحكم يضع رئيس الحكومة المهندس شريف إسماعيل فى موقف سياسى حرج. ويجب أن يتحمل رئيس الحكومة مسئوليته السياسة كاملة. وأن يقدم استقالته. وهذا عرف سياسى عالمى. حين يخسر رئيس الحكومة رهانا سياسيا يتقدم باستقالته. حدث ذلك عندما خسر رئيس الحكومة البريطانى السابق كاميرون رهانه على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. فما إن جاءت نتيجة الاستفتاء الشعبى لصالح الخروج حتى قدم كاميرون استقالته لأنه خسر المعركة السياسية. وتكرر نفس السيناريو فى إيطاليا خلال عام 2016. فما بالنا برئيس حكومة وقع على اتفاقية أعدمتها المحكمة الإدارية العليا. وما بالنا بأن الاتفاقية تخص أراضى أكد رئيس الحكومة فى الاتفاقية أنها سعودية وردت المحكمة الإدارية العليا أنها مصرية. ودون دخول فى تعقيدات قانونية تخص أهلها. فإن الحكومة التى أعدت وثائق الاتفاقية يجب أن تتحمل المسئولية السياسية، ورئيسها الذى وقع الاتفاقية يجب أن يترك موقعه ويستقيل. خاصة أن استمرار المهندس شريف إسماعيل سيخلق عقبات وشكوكا فى هذا الملف. فإذا طلبت السعودية اللجوء للتحكيم أو المحاكم الدولية، فليس من المعقول أن يظل رئيس الحكومة الذى أقر بسعودية الجزيرتين على رأس حكومة ستكون مهمتها الدفاع عن مصرية الجزيرتين، وذلك فى المحافل القانونية الدولية. فى هذه الحالة سنصبح أمام موقف عبثى تماما. استقالة رئيس الحكومة بعد الحكم ضرورة، وهذه الاستقالة ليست طعنا فى وطنيته بأى حال من الأحوال.. ولكن الرجل خسر سياسيا خسارة كبرى لا يمكن تجاهلها أو الالتفاف حولها بأى حجة. بما فى ذلك حجة أن الاتفاقية التى وقعها شريف إسماعيل هى كاشفة للوضع، وليس منشأة له. لأن الاتفاقية الأولى وقعها رئيس وزراء آخر وهو عاطف صدقى فى عهد مبارك. هذا كلام موظفين، وليس له علاقة بالسياسة. فالسياسة يجب أن تتحمل مسئولية أفعالك دون أن تلقيها على الآخرين.
3- تجميد برلمانى
فى مسار آخر فإن هناك مواجهة برلمانية قضائية يجب أن تعالج أقصى قدر من الحكمة والحذر. فالبرلمان مُصرٌ على مناقشة الاتفاقية المنعدمة قانونا وبحكم أعلى محكمة إدارية فى مصر. وهذا أمر فى منتهى الخطورة على المدى القصير والطويل معا. إهدار أحكام القضاء خطر لا يمكن تدارك عواقبه، خاصة إذا جاء هذا الخطأ أو الخطيئة من قبل السلطة التشريعية، وحتى لو رفض البرلمان الاتفاقية فإن إهدار الحكم القضائى قد تم.
ولذلك فهناك سيناريوهات تخص هذه المواجهة أو بالأحرى منعها. هناك سيناريو يتبناه بعض الحكماء. هذا السيناريو هو تجميد مناقشة الاتفاقية فى البرلمان لحين الفصل فى دعوى الدستورية.. وتختص الدعوى أمام الدستورية فى الحكم فى نزاع التنفيذ. باختصار وبعيدا عن التعقيدات القانونية. الحكم سيجيب عن أى حكم يتم الأخذ به. حكم الإدارية العليا بإلغاء الاتفاقية. أم حكم محكمة استئناف القاهرة بوقف تنفيذ حكم الإدارية. وهذه الدعوى سيتم الفصل فيها فى شهر فبراير. وانتظار هذه الدعوى يقلل كثيرا من مخاطر استمرار مناقشة الاتفاقية رغم حكم المحكمة الإدارية العليا.
أمام الحكومة أو البرلمان فرصة أخرى بطلب تفسير من المحكمة الدستورية العليا حول المادة 151 من الدستور. وهى المادة الخاصة بالاتفاقيات. وطلب البرلمان تفسيرا دستوريا من المحكمة الدستورية لا يقلل من شأنه. لأن احترام القضاء وأحكامه لا يقلل من شأن أحد، بل يرفع من شأن الجميع. لأن إهدار حكم المحكمة الإدارية العليا خطر سياسى قبل أن يكون خطيئة قضائية.
4- الطرف الثالث
إذا كان من حقى كمصرية أن أفرح بالحكم التاريخى، فمن البديهى أن أتقبل غضب السعوديين من الحكم. ومن البديهى أن تكون لديهم سيناريوهات تخص ما يؤمنون أنه من حقهم. وبعد حكم الإدارية العليا ظهرت سيناريوهات لمواجهة الوضع الجديد. من بين هذه السيناريوهات اللجوء إلى الطرف الثالث سواء باللجوء إلى المحكمة الدولية أو التحكيم الدولى وفى حالة التحكيم فإن موافقة مصر شرط للسير فى التحكيم بينما اللجوء للمحكمة لا يشترط موافقة مصر. بعض الحكماء دعو إلى تدخل الجامعة العربية من خلال آلية التوفيق حفاظا على العلاقات بين مصر والسعودية. وهو أمر يجب المحافظة عليه من جانب الطرفين. فقد نختلف حول الحدود ولكننا يمكن أن نعالج هذا الخلاف بأقصى قدر من الحكمة وضبط النفس من الجانيبن. هذه الحكمة ستنقذ الجميع وتساعدنا فى الخروج من هذه الأزمة. الحكمة واجبة ليس لمصلحة مصر والسعودية فقط، ولكن لمصلحة الوطن العربى كله. فلا الوضع الإقليمى ولا الدولى ولا تحدياتهما تسمح بمزيد من الشقاق.
شاهد المحتوى الأصلي علي بوابة الفجر الاليكترونية - بوابة الفجر: منال لاشين تكتب: أفرجوا عن سجناء "تيران وصنافير" وأقيلوا شريف إسماعيل
منال لاشين- الفجر السعودية-