إليونورا أردماغني- مركز كارنيغي-
تسعى أبو ظبي المتخوّفة من أوجه عدم المساواة المحلية التي قد تؤدّي إلى انطلاق تحرّكات معارِضة، إلى بث مشاعر قومية في الإمارات الشمالية عبر تعزيز الروح العسكرية.
بذلت أبو ظبي، في الأعوام الأخيرة، جهوداً مطّردة لبث روحٍ عسكرية وطنية في إمارة رأس الخيمة وسائر الإمارات الشمالية بهدف تعزيز الروابط بين المركز والأطراف. يندرج مشروع الهوية هذا في اتجاه الأنظمة الملَكية الخليجية على نطاق أوسع نحو نشر القومية العسكريتارية. وفي رأس الخيمة، يساهم أيضاً في بناء روابط وطنية أوسع وشبكات أكبر قائمة على الولاء للقيادة في أبو ظبي، لا سيما في أوساط الشباب الإماراتي. ويقوم هذا النموذج بصورة أساسية على واجب الدفاع عن الأمة، خلافاً لرسالة الإصلاح الاجتماعي التي تروّج لها حركة الإصلاح، أي فرع الإخوان المسلمين في الإمارات، والتي تمتعت تقليدياً بنفوذ في رأس الخيمة وسائر الإمارات الشمالية.
رأس الخيمة هي معقل حركة الإصلاح التي كانت لاعباً بارزاً طوال عقود. لطالما كان دور الإخوان في الإمارات – والإسلام السياسي عموماً – مسألة خلافية بين أبو ظبي ورأس الخيمة. تأسّست فروعٌ محلية للإصلاح في رأس الخيمة والفجيرة في سبعينيات القرن العشرين بدعمٍ من الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم دبي آنذاك، بغية التصدّي للقومية العربية. وقد حصلت هذه المجموعات على الحماية والدعم من سلالة القاسمي في الشارقة ورأس الخيمة، عبر إفساح المجال أمام أعضائها لتولّي مناصب سياسية مرموقة في السبعينيات والثمانينيات. وأصبح أحد مؤسّسيها، الشيخ سعيد عبدالله سلمان، وزيراً للإسكان، وتولّى أعضاء آخرون في حركة الإصلاح لاحقاً وزارات التعليم، والعدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، والعمل والشؤون الاجتماعية.
غير أن أعضاء الإصلاح أصبحوا واسعي النفوذ داخل المؤسسات الإماراتية. واقترن ذلك مع صعود التيارات المستلهَمة من الإخوان المسلمين في مختلف أنحاء المنطقة، ما ولّد توجّساً من التنظيم. في التسعينيات، ثم بعد العام 2001 والعام 2011، شنّت الحكومة الاتحادية حملة قمع ضد الإصلاح. حُلّ فرع دبي في العام 1994، غير أن الشيخ صقر بن محمد القاسمي، حاكم إمارة رأس الخيمة آنذاك، دافع عن المجموعة، وسُمِح لفرعها في الإمارة بمواصلة العمل. وفقاً لخالد الركن (شقيق محامٍ مرموق متخصص في حقوق الإنسان ومتعاطف مع الإصلاح حُكِم عليه بالسجن عشر سنوات في العام 2013 بتهمة "التخطيط لانقلاب إسلامي")، ادّعى الشيخ القاسمي أن حركة الإصلاح "أدّت دوراً في الحفاظ على الشباب"، وأنها لا تُشكّل تهديداً مباشراً للتوازنات المحلية في رأس الخيمة.
بعد تورّط مواطنَين إماراتيين (أحدهما من رأس الخيمة والثاني من الفجيرة) في هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، انطلقت موجة جديدة من التوقيفات التي استهدفت الإصلاح. ثم في أعقاب احتجاجات 2011، حظرت الإمارات حركة الإصلاح على المستوى الاتحادي. وفي إطار حملات القمع المتزايدة ضد الجمعيات المرتبطة بالإخوان المسلمين، أقدمت السلطات حتى على اعتقال الشيخ سلطان بن كايد القاسمي، وهو سليل الأسرة المالكة وابن عم حاكم رأس الخيمة وقائد فرع الإصلاح في الإمارات الذي حُكِم عليه بالسجن عشر سنوات في العام 2013. ودُقَّ المسمار الأخير في نعش الإصلاح في العام 2014، عندما صنّفت الحكومة الإصلاح، والإخوان المسلمين عموماً، في خانة التنظيمات الإرهابية. في حين أنه يصعب قياس الشعبية التي تتمتع بها حركة الإصلاح نظراً إلى الخوف من إبداء الدعم لها في العلن، تدحض حملات القمع المتكررة تقديرات الأجهزة الأمنية الإماراتية في العام 2004 بأن حركة الإصلاح كانت تضم نحو 700 عضو فقط في الإمارات العربية المتحدة.
إلى جانب المقاربات المختلفة في التعامل مع الإصلاح، تختلف أبو ظبي أيضاً عن "إخوانها غير المتساوين" في الإمارات الشمالية، لناحية الانتماءات القبلية1 ، والسكّان، والنسبة المئوية للمواطنين، والناتج الاقتصادي، والتأثير على عملية صناعة القرارات الاتحادية. فعلى سبيل المثال، كان المواطنون الإماراتيون يُشكّلون 40 في المئة من مجموع سكّان رأس الخيمة في العام 2009، وهي النسبة الأعلى للمواطنين الإماراتيين بين مختلف الإمارات التي يتألف منها الاتحاد، مع العلم بأن بيانات 2012 تُشير إلى تراجع هذه النسبة إلى 24 في المئة. بالمثل، 40 في المئة تقريباً من سكّان الفجيرة هم مواطنون إماراتيون. على النقيض، كانت نسبة الإماراتيين من سكان أبو ظبي 26 في المئة فقط في العام 2005، وتراجعت إلى 19 في المئة في العام 2016. كذلك يُسجَّل فارق كبير في إجمالي الناتج المحلي للفرد، فقد بلغ 71600 دولار في أبو ظبي في العام 2017، و28500 دولار في رأس الخيمة في العام 2018، مع العلم بأن رأس الخيمة وغيرها من الإمارات الشمالية بدأت تشهد نمواً اقتصادياً كبيراً في العقد الأخير بفضل الاستثمارات الاتحادية والدولية. على الصعيد الاقتصادي، تعتمد رأس الخيمة بصورة متزايدة على القطاعات غير النفطية – مثل الزراعة وصيد الأسماك والإسمنت والسيراميك والمستحضرات الصيدلانية والسياحة – فاحتياطياتها المثبَتة تشكّل نسبة 0.1 في المئة فقط من مجموع الاحتياطيات النفطية في الإمارات العربية المتحدة. وفقاً للهيئة الاتحادية للتنافسية والإحصاء، كانت نسبة البطالة أعلى في الإمارات الشمالية في العام 2009 (لا تتوافر بيانات بعد هذا العام)، حيث بلغت 16.2 في المئة في رأس الخيمة و20.6 في المئة في الفجيرة، بالمقارنة مع 14 في المئة على مستوى البلاد ككل.
في انعكاسٍ لهذه الفروقات، قاومت رأس الخيمة المسار الذي انطلق لفرض المركزية السياسية والثقافية بفعل التوحيد تحت مظلة أبو ظبي في العام 1971. لم تنضم رأس الخيمة إلى الاتحاد إلا في العام 1972، عندما تبيّن أن مواردها النفطية ضئيلة وعندما احتلت إيران جزيرة أبو موسى (في الشارقة) وجزيرتَي طنب الكبرى وطنب الصغرى (في رأس الخيمة). وفي حين قاومت دبي المركزية في البداية، اختارت دمج قواتها العسكرية ضمن الهيكلية الاتحادية في العام 1997، بعدما ارتأت أن تنميتها الاقتصادية المتزايدة ودورها على الساحة الدولية يمنح انها نفوذاً اتحادياً أفضل من السابق. وهكذا، خسرت رأس الخمية حليفتها الأساسية ضد مركزية أبو ظبي، ودُمِجت قيادة القطاع الشمالي في رأس الخيمة ضمن الجيش الاتحادي. وقبلت الإمارة الصغيرة تدريجاً بمنظومة المحسوبيات التي يُحرّكها آل نهيان، لا سيما منذ أصبح سعود بن صقر القاسمي حاكماً لإمارة رأس الخيمة في العام 2003.
على الرغم من هذه الخطوات نحو الاندماج، لا تزال هناك ثغرات داخلية. ففي رأس الخيمة وسواها من الإمارات الشمالية، غالباً ما يشتكي السكّان من الخدمات العامة غير الموثوقة، حيث يعانون من النقص في المحروقات والتيار الكهربائي والمياه، ومن غياب البنى التحتية. لقد اندلعت، منذ العام 2011، تظاهرات محدودة ومتفرّقة، غير أن القوى الأمنية قمعتها عموماً بسهولة. في العام 2011، قدّمت أبو ظبي رزمة إنمائية بقيمة 1.6 مليار دولار إلى رأس الخيمة والإمارات الشمالية للحؤول دون توسُّع دائرة المعارضة. وقد خُصِّص الجزء الأكبر من هذه الأموال للاستثمارات المالية ومشاريع البنى التحتية والقروض السكنية والمعونات الغذائية وزيادة المعاشات التقاعدية للجنود.
في سياق هذه التباينات الاقتصادية والديمغرافية والأيديولوجية، يُمثّل الجيش وسيلةً تتيح لسكّان الإمارات الشمالية تحسين مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية إنما تُمكِّن أيضاً أبو ظبي من تعزيز الوئام الاجتماعي. فالإمارات الشمالية، التي هي أكثر فقراً من أبو ظبي ودبي وتضم عدداً أقل من المغتربين، شكّلت تقليدياً العمود الفقري للقوات المسلحة الإماراتية. إشارة إلى أن أول جنديَّين إماراتيين لقيا مصرعهما خلال أدائهما واجبهما في سبيل الأمة، هما من إمارة رأس الخيمة: سقط الأول أثناء الاجتياح الإيراني لجزيرة طنب الكبرى في تشرين الثاني/نوفمبر 1971، في حين لقي الثاني حتفه في العام 2014 في هجوم إرهابي في المنامة، عاصمة البحرين. وقد نمت هذه النزعة وتطوّرت مع اعتماد الخدمة العسكرية الإلزامية في العام 2014 ومشاركة الإمارات في حرب اليمن منذ العام 2015.
على الرغم من أن أكثرية المواطنين الإماراتيين الذين قضوا نحبهم في اليمن، وعددهم يفوق المئتَين، تنتمي إلى الإمارات الشمالية، لم يُسجّل الدعم المحلي لهذا التدخل تراجعاً كبيراً حتى تاريخه على الرغم من بعض التصريحات الشاجِبة للوجود الإماراتي في اليمن. حتى الهجوم الذي وقع في 4 أيلول/سبتمبر 2015 وأودى بحياة 45 جندياً إماراتياً وتسبّب بإصابة الشيخ أحمد بن سعود بن صقر القاسمي، نجل حاكم إمارة رأس الخيمة، لم يؤدِّ إلى تراجع الدعم. وأحد الأسباب هو العداوة التاريخية بين رأس الخيمة وطهران منذ قيام طهران باجتياح جزر طنب. يُشار إلى أن رأس الخيمة الواقعة عند حدود محافظة مسندم العُمانية في مضيق هرمز، هي الإمارة الأقرب إلى إيران. وتواصل رأس الخيمة إلى حد كبير تقديم الدعم إلى التدخل الإماراتي في اليمن لأن أبو ظبي نجحت في تصوير النزاع بأنه مسألة أمن قومي على الرغم من أن البلدَين لا يتشاركان أي حدود بينهما.
تُركّز الرواية الرسمية عن الحرب في اليمن على ضرورة الاستجابة لـ"نداء الواجب دفاعاً عن الكرامة العربية". لقد قال حاكم رأس الخيمة عن الجنود الذين سقطوا في الخدمة بأنهم "التجسيد الحقيقي لنبض الهوية العربية والإسلامية الخافق في الإمارات". وتُساهم وسائل الإعلام الرسمية في تعزيز هذه السردية عن التضحية، فقد درجت السلطات العامة على وصف الجنود الذين يلقون مصرعهم بـ"الشهداء". ولفت المراقبون إلى أن "الاستشهاد ساهم في ترسيخ المجتمع الإماراتي".
في حين أن الإمارات لا تنشر الأرقام الرسمية لأعداد الضحايا، تُشارك الشخصيات الملَكية في مراسم تشييع الجنود وتزور عائلاتهم في مختلف أنحاء الاتحاد. وقد دخلت أسماء الشهداء وحكاياتهم الحياة اليومية للإماراتيين، لا سيما في الإمارات الشمالية. تُطلَق أسماؤهم على طرقات وشوارع ومساجد – مثلاً، في العام 2015 تغيّر اسم الطريق الذي يربط بين إمارتَي رأس الخيمة والفجيرة وأصبح "شارع الشهداء". وفي الأعياد الرسمية، مثل العيد الوطني ويوم الشهيد (الذي أُطلِق في العام 2015)، يرتدي الفتيان الإماراتيون البزّات القتالية لحضور استعراضات عسكرية وحفلات موسيقية تُنظَّم برعاية الدولة. وتفرض بعض المدارس على الفتيان إلزامية ارتداء البزّات في هذه المناسبات.
في حين لا تزال الحرب في اليمن بعيدة عن التسوية، تتطلع الإمارات إلى تعزيز مصالحها هناك على المستوى العسكري وكذلك في مجال البنى التحتية. تتطلب السياسة الخارجية الإماراتية الطموحة وذات الدوافع العسكرية طاقات بشرية عسكرية لحماية هذه المصالح في المستقبل المنظور. وهذه الطاقات البشرية – أقلّه الإماراتية منها - مصدرها رأس الخيمة وغيرها من الإمارات الشمالية، في حين تُتَّخَذ القرارات المصيرية في أبو ظبي. حتى الآن، التفّ أبناء الإمارات الشمالية علناً حول العلَم الإماراتي. غير أن اختلالات التوازن مستمرة، ويحاول آل نهيان نزع فتيل المزيج المتفجّر الذي يجمع بين عدم المساواة الاقتصادية والإسلام السياسي، عبر استبدال رسالة الإصلاح الاجتماعي بأدبيات عسكرية وطنية معزّزة. كذلك سعت أبو ظبي إلى تعزيز التماسك الاتحادي من خلال جعل رأس الخيمة وسائر الإمارات الشمالية تابعة مالياً لأبو ظبي التي تُغطّي 90 في المئة من موازنة الحكومة الاتحادية. لكن في مرحلة معيّنة، قد تبدأ رأس الخيمة وسائر الإمارات الشمالية بالنظر إلى مقايضة "الجنود بالأموال" بأنها غير قابلة للاستدامة. في غضون ذلك، تقود أبو ظبي الجهود الهادفة إلى تعزيز المشاعر القومية وتفادي وصول الأمور إلى نقطة اللاعودة.
إليونورا زميلة باحثة مشاركة في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، ومساعِدة تدريس في جامعة ميلانو الكاثوليكية، ومحلِّلة في مؤسسة كلية الدفاع التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وفي معهد Aspen Institute Italia.
ينتمي آل نهيان في أبو ظبي إلى قبيلة بني ياس التابعة لاتحاد قبائل عنزة الذي ينتمي إليه آل سعود، في حين أن أفراد أسرة القاسمي كانوا تجّاراً ساحليين ذوي مراكز نفوذ على شواطئ الخليج العربية والفارسية.