الخليج أونلاين-
يبدو أن اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من أبوظبي قد تعمد تجاهل معاناة العشرات من المعتقلين في سجون القوات الإماراتية والموالية لها جنوبي البلاد، ما يزيد من معاناتهم إثر تغييب قضيتهم.
وغاب ملف المعتقلين والمخفيين قسراً في السجون السرية التي أنشأتها الإمارات عن مشاورات الرياض التي مهدت لاتفاق وقع في 5 نوفمبر الجاري، رغم أهمية هذا الملف الذي يعد واحداً من الملفات الساخنة على الساحة الجنوبية، ولا سيما بعدما كشفت منظمات حقوقية ما يتم ممارسته من انتهاكات مروعة ضد المعتقلين داخل هذه السجون.
ومنذ 2014، كان اليمنيون يعانون مع السجون السرية لجماعة الحوثي وصالح (الرئيس المخلوع)، التي أصبحت تشكل ظاهرة خطيرة في البلد، خاصة في العاصمة صنعاء ومناطق سيطرة الحوثيين، لكن في الأعوام الأخيرة زادت معاناتهم مع سجون سرية أخرى تديرها تشكيلات عسكرية، منها قوات الحزام الأمني في عدن، وقوات النخبة الحضرمية في المكلا، والنخبة الشبوانية بشبوة، والتي تخضع تلك القوات بصورة مباشرة لإشراف دولة الإمارات.
تجاهل الاتفاق.. وإخفاء سابق للجريمة
الاتفاقية التي أعدتها السعودية، ووقعها الجانبان الحكومي و"الانتقالي" الموالي للإمارات، ضمت في بنودها التي نشرتها وكالة "سبأ" الحكومة الرسمية ثلاثة ملحقات؛ ابتداء من الترتيبات السياسية والاقتصادية، ثم العسكرية، وأخيراً الترتيبات الأمنية، ولم تشر -من قريب أو بعيد- للقضايا الإنسانية المتعلقة بالمعتقلين والمخفيين قسرياً، خصوصاً من تم اعتقالهم بعد انقلاب الانتقالي، في أغسطس الماضي، أو الحديث عن العمل على إغلاق السجون السرية بعدن وحضرموت.
وما يخيف تجاهل الاتفاق لهذا الجانب، مع الحديث عن مغادرة للقوات الإماراتية، ونقل معتقلين إلى قاعدة عسكرية ما زالت حتى اليوم تستخدمها الإمارات في حضرموت، وآخرين إلى جزر تستخدمها أبوظبي في إرتريا.
م يكن هذا التجاهل وليد اللحظة، بل إن الحكومة خلال فترات سابقة خرجت بتصريحات تنكر وجود تلك السجون، بما فيها تصريح لوكيل وزارة الداخلية، اللواء علي ناصر لخشع، في 8 يوليو 2018، نافياً وجود سجون سرية بعدن وحضرموت تابعة للإمارات.
هذا التصريح فجر جدلاً واسعاً في الأوساط اليمنية، التي رأت ذلك التصريح المستهجن استهدافاً للمختطفين وتمييعاً للحقيقة والانحياز من مسؤول حكومي إلى جانب المنتهكين المحليين والإقليميين.
وجاء ذلك التصريح بعد حملة كبيرة شنتها مواقع وقنوات إماراتية ضد منظمات حقوقية كانت قد كشفت عن وجود سجون سرية ليمنيين معارضين وتلفيق تهم كيدية لهم.
فضيحة السجون السرية
ولم يكن يعلم اليمنيون ما يحدث من انتهاكات في جنوب اليمن إلا مع الكشف عن قضية تتعلق بشبكة سجون سرية بأرجاء جنوب اليمن، عبر وكالة "أسوشييتد برس" الأمريكية، في يونيو 2017، التي ذكرت أنّ الإمارات ومليشيا متحالفة معها تدير تلك السجون.
وقالت الوكالة إنها حصلت على معلومات من شهود عيان ومعتقلين سابقين "تفيد بأن الحراس اليمنيين العاملين تحت إشراف ضباط إماراتيين استخدموا أساليب مختلفة للتعذيب والإذلال الجنسي في خمسة سجون سرية على الأقل تديرها الإمارات في اليمن"، متهمة ضباطاً إماراتيين بالتورط في اغتصاب معتقلين.
وأكد فريق الخبراء الأممي بشأن اليمن وجود حالات العنف الجنسي في مركز الاعتقال في البريقة، بين عامي 2017 و2019، وقال إنه وثق منها حالات "اغتصاب ستة رجال وصبي واحد، بالإضافة إلى حالات اعتداءات جنسية وعري قسري أخرى"، مؤكداً رفض القوات الإماراتية التعاون والسماح بالوصول إلى تلك السجون.
كما أكدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن الإمارات احتجزت تعسفاً وأخفت قسراً عشرات الأشخاص، مشيرة حينها إلى أنها وثقت حالات 49 شخصاً، من بينهم 4 أطفال تعرضوا للاحتجاز التعسفي أو الإخفاء القسري في محافظتي عدن وحضرموت، العام الماضي.
اتهام بتغييب قضية المعتقلين
رابطة أمهات المختطفين، المكون المهتم بقضية المعتقلين باليمن، عبرت عن أسفها لتغييب قضية المعتقلين والمخفيين قسراً عن اتفاق الرياض الموقع بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي.
وقالت الرابطة، في بيان حصل "الخليج أونلاين" على نسخة منه، إن هذا التغييب "جاء في الوقت الذي يعلن فيه أبناؤنا المعتقلون في سجن بئر أحمد بمحافظة عدن إضرابهم عن الطعام للمرة الثانية خلال شهر، لمطالبة النيابة العامة إطلاق سراح من صدرت أوامر بالإفراج عنهم، وتقديم بقية المعتقلين للنيابة والتحقيق معهم".
وفي تصريح لـ"الخليج أونلاين" اعتبرت رئيسة رابطة أمهات المختطفين، أمة السلام الحاج، "تغييب ملف المعتقلين والمخفيين قسرياً في عدن والسجون في الجنوب عموماً أمراً خطيراً، حيث تم الاتفاق على الجوانب العسكرية والأمنية والمدنية إلا هذه القضية، ونحن في أمهات المختطفين نخاف أن يغيب أبناؤنا أكثر من هذا القدر".
وكشفت "الحاج" عن حصولهم على معلومات تفيد بأن معتقلين تم أخذهم إلى جزر في إرتريا يوجد فيها سجون تتبع الإمارات، مضيفة: "نحن متخوفون من هذا الأمر، وأرسلنا برسالة مستعجلة إلى الرئيس هادي بأن تكون هذه القضية حاضرة في الاتفاق، وأن يقوم الانتقالي بإظهار ملف المخفيين الذي تم عرضه على وزارة حقوق الانسان، لكن للأسف لم يحدث شيء".
وتحدثت عن استمرار الانتهاكات في سجن بئر أحمد سيئ الصيت بمدينة عدن، وقالت إنه انتشر في المعتقلين الذين يوجدون فيه "الأمراض، ولا يسمح بدخول الأدوية أو نقلهم للمستشفيات؛ بسبب تدهور صحتهم".
وطالبت في سياق حديثها المنظمات الدولية بـ"التحرك لإنقاذ المختطفين، والمساعدة في فضح ما يتعرضون له من انتهاكات، خصوصاً أن الانتهاكات التي تعرضوا لها كبيرة جداً"، مناشدة الحكومة اليمنية أن "تكون هذه القضية من أولوياتها مع عودتها إلى عدن ليحصلوا على ثقة الشارع اليمني".
آخر الفضائح
وآخر ما كشف عن تلك السجون، عبر صحف ومنظمات غير حكومية فرنسية، في 7 نوفمبر 2019، بعدما كشفت عن وجود سجن سري استخدمه الإماراتيون في 2017 و2018، داخل موقع لاستخراج الغاز في مدينة بلحاف جنوبي اليمن، تستغل جزءاً منه مجموعة "توتال" الفرنسية.
وقالت منظمات مرصد التسلح و"سموفاس" و"أصدقاء الأرض"، في تقرير، إنها حصلت على تلك المعلومات "بحسب مصادر متاحة وشهادات، حيث يؤوي منذ 2016 مليشيا قوات النخبة في شبوة، تحت إشراف دولة الإمارات".
وأضافت: إنّ "الشهادات تتحدث عن معاملات غير إنسانية ومهينة (حرمان من الرعاية، وتعذيب) ارتكبها جنود إماراتيون"، مشيرة إلى أنّ "الأشخاص المسجونين فيه متهمون بصورة عامة بالانتماء إلى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب"، بالاستناد "غالباً إلى شبهات لا أساس لها أو إلى انتقام شخصي".
وفي تحقيق نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية أيضاً، في 7 نوفمبر، ذكرت أنّ مكان الاعتقال موجود في قاعدة عسكرية أقامها الإماراتيون في منتصف 2017، على جزء من حقل الغاز الذي جرت السيطرة عليه بطلب من الحكومة اليمنية.
وقالت الصحيفة: إنّ "أشخاصاً كانوا لا يزالون محتجزين في بلحاف، منتصف 2019"، مشيرة إلى أنّ القاعدة العسكرية جرى استخدامها لإطلاق عمليات لمكافحة الإرهاب، خاصة في 2017.
هل تفلت السعودية والإمارات من العقاب؟
من جانبه يرى وفيق الحميدي، رئيس منظمة سام للحقوق والحريات (مقرها جنيف في سويسرا)، أن "قضية المعتقلين والمخفيين قسراً والاغتيالات في عدن كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى حصول التوتر الكبير بين الحكومة الشرعية ودولة الإمارات وممثلها الأحزمة الأمنية بشكل خاص".
ومن ثم، يضيف الحميدي، أدت هذه القضية إلى المواجهة بين هذه الأطراف، وتحملت الحكومة المسؤولية الكاملة أمام المجتمع الدولي عن هذه الاعتقالات والإخفاءات طوال الفترة الماضية.
وأضاف وفيق الحميدي في حديثه لـ"الخليج أونلاين": إن "من المفترض أن يكون هذان الملفان ضمن اتفاقية الرياض ليتم حل كافة الإشكاليات وفتح صفحة جديدة من العلاقات، والعمل مع الحكومة الشرعية".
واستطرد يقول: "لكن للأسف الشديد تم تغييب هذا الأمر"، مضيفاً: "باعتقادي أن هذا لا يعفي من المسؤولية، وسيتم ترحيل المسؤولية للحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي".
بحسب اعتقاده يرى رئيس منظمة سام للحقوق والحريات أن "تجاهل هذا الملف سيؤدي الى انتكاسة كبيرة، خاصة أننا رأينا خلال الفترة الماضية خروج أبناء عدن وحدوث مواجهات كبيرة في فترة سابقة، وكله كان بسبب هذا الملف".
ولفت النظر إلى أن "هناك كثيراً من الأمهات والناس والأهالي ينتظرون أن يحل هذا الملف"، محذراً من أن "تجاهله قد يؤدي إلى تعميق المشكلة مع الشعب في الفترة المقبلة، وسيؤدي إلى تحرك المجتمع الدولي بشكل أكبر".
من جانب آخر أشار الحميدي إلى وجود "مخاوف كبيرة جداً من بيان الرياض من أن يؤسس لمرحلة أشد قتامة في مجال حقوق الإنسان".
وأضاف: "نحن في منظمات حقوق الإنسان أصدرنا بياناً واضحاً. وأمس كان هناك بيانان وتقريران واضحان نشرتهما صحيفتان فرنسيتان؛ إحداهما اللوموند، حول ما جرى من انتهاكات"، مشدداً بالقول: إن "المجتمع الدولي لن يسكت على هذا الملف".
وقال: "أعتقد أن السعودية والإمارات تظنان أنهما بهذا الاتفاق ستفلتان من العقاب؛ لكن بالعكس تجاهل هذا الملف سيخلق إصراراً شديداً من قبل المنظمات والناشطين والأهالي، وسيكون أهم الملفات".
وتابع: "في الفترة السابقة كان هناك وضوح في ملف الاغتيالات. هناك تجاهل في استخدام مرتزقة. هناك تجاهل لأوراق رسمية كانت تتهم بن بريك نائب رئيس المجلس الانتقالي".
وختم قائلاً: "أعتقد أن مثل هذا النوع من التجاهل هو عبث بحقوق الناس ودمائهم وحقوقهم، ومن ثم لن يسكتوا عليها، وأعتقد أن المرحلة المقبلة ستكون سيئة، وستكون الحكومة الشرعية في الواجهة، وستتحمل المسؤولية إن لم يكن هناك حلحلة حقيقية لهذا الملف".