علاقات » عربي

رويترز تكشف فساد حميدتي "ملك الذهب".. أرسل طنا إلى دبي

في 2019/11/27

رويترز-

في أواخر العام الماضي، بعد أن ضعفت قبضة الرئيس "عمر البشير" على الحكم، انتقد أحد قادة الفصائل المسلحة القوية حكومة حليفه منذ أمد بعيد.

وأبدى "محمد حمدان دقلو" (حميدتي) تعاطفه، في كلمة أمام قوات الجيش، مع آلاف المحتجين الذين تدفقوا على الشوارع في ديسمبر/كانون الأول، مطالبين بالغذاء والوقود والقضاء على الفساد. وانتقد المسؤولين قائلا إنهم "يأخذون ما ليس من حقهم".

وبعد دعمه "البشير" لسنوات طويلة، شارك "حميدتي" في الانقلاب العسكري الذي أطاح به في أبريل/نيسان، وأصبح الآن شخصية بارزة في الحكومة الانتقالية، التي تمهد الطريق لإجراء انتخابات في غضون 3 سنوات. وبموجب الدستور لا يحق لأعضاء الحكومة الانتقالية العمل في أنشطة تجارية خاصة.

لكن تحقيقا أجرته "رويترز"، وجد أن "حميدتي" في الوقت الذي كان يتهم فيه رجال "البشير" بالتربح على حساب الشعب، كانت شركة تملكها أسرته تنقل سبائك ذهب بملايين الدولارات إلى دبي.

وقال مسؤولون حاليون وسابقون ومصادر من قطاع الذهب إنه في عام 2018، عندما كان الاقتصاد السوداني ينهار، أطلق "البشير" يد "حميدتي" في بيع الذهب، أغلى مورد طبيعي في السودان، عن طريق مجموعة "الجنيد" التي تملكها أسرته.

وقالت نحو 6 مصادر إن مجموعة "الجنيد" كانت في بعض الأحيان تتجاوز قواعد البنك المركزي المنظمة لتصدير الذهب، وفي أحيان أخرى كانت تبيعه للبنك المركزي نفسه بسعر تفضيلي. وقال متحدث باسم البنك المركزي إنه ليس لديه علم بالأمر.

وألقت فواتير الطيران وقسائم الدفع التي أطلعت عليها "رويترز" الضوء على تعاملات "الجنيد"، وهو ما يعتبر سرا مصانا في بلد يعيش ثلثا سكانه تحت حد الفقر. وتظهر وثائق تغطي أربعة أسابيع من نهاية العام الماضي أن "الجنيد" أرسلت ما قيمته نحو 30 مليون دولار من سبائك الذهب إلى دبي، وهو ما يزن نحو طن.

وفي السابق كان "حميدتي" يتحدث صراحة عن امتلاك أعمال في قطاع الذهب، وتحدث عن ذلك مؤخرا في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي.سي)، في أغسطس/آب.

لكن ردا على طلب "رويترز" التعليق على هذا التقرير نفى مكتب "حميدتي" أي صلة بين القائد وبين مجموعة "الجنيد". إلا أن المدير العام للمجموعة "عبدالرحمن البكري" قال في مقابلة منفصلة، إن الشركة مملوكة لـ"عبدالرحيم"؛ شقيق "حميدتي"، ونائبه في قوة الدعم السريع.

ورغم ذلك أكد "البكري" عدم وجود أي صلة بين "الجنيد" و"حميدتي" وقواته التي انبثقت عن ميليشيا في دارفور، لتصبح أقوى قوة أمنية في السودان.

وقال "البكري"، لـ"رويترز"، في مقر الشركة شديد التحصين: "الجنيد أبعد ما يكون عن قوة الدعم السريع".

وأطلع "رويترز" على وثائق تسجيل ورد فيها اسم "عبدالرحيم" باعتباره المالك. ولم تتمكن "رويترز" من الاتصال بـ"عبدالرحيم". وأقر "البكري" بأن "الجنيد" صدرت الذهب لدبي في أواخر 2018، لكنه قال إنها قامت بذلك بناءً على طلب من جهاز مخابرات "البشير". ونفى أن تكون الشركة باعت الذهب للبنك المركزي بسعر تفضيلي.

خادم "البشير" المخلص

وتظهر سيطرة "حميدتي" على قطاع الذهب الحيوي في السودان، نطاق التحديات أمام إصلاح الاقتصاد، الذي دمره سوء الإدارة والفساد والحروب على مدى عقود.

وبدأت حياته العملية كرجل ميليشيا في دارفور الغربية؛ حيث حمل متمردون السلاح في وجه الخرطوم في 2003. وحشد "البشير" عدة قوات لسحق التمرد، وفي القتال الذي أعقب ذلك قتل نحو 300 ألف شخص، وفر أكثر من مليونين من ديارهم. وتبرأت الحكومة من المقاتلين "المخالفين للقانون" الذين قتلوا مدنيين، لكن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت أمر اعتقال لـ"البشير" في جرائم حرب، وفرضت الولايات المتحدة المزيد من العقوبات الاقتصادية على حكومته.

وفي دارفور، اكتسب "حميدتي" سمعة قائد بلا رحمة، وخادم مخلص لـ"البشير". وأطلق عليه "البشير" اسم "حميدتي" (والتي يقصد بها أنه حاميه). وبعد أن استولى "حميدتي" على مناجم الذهب في منطقة جبل عامر في دارفور، سمح له "البشير" بالاحتفاظ بجائزته.

وقال السياسي والناشط المدافع عن الديمقراطية "أمجد فريد": "أصبح الملك الجديد لجبل عامر وذهبه"، مضيفا: "بالنسبة للبشير كان ولده المخلص والقوة التي تحميه".

وسيطر "حميدتي" وقواته، بشكل كامل على مناجم جبل عامر، في عام 2017؛ العام الذي بدأت فيه الولايات المتحدة رفع العقوبات المفروضة على السودان. ولم يواجه عقبات تذكر في توسيع أعماله من دارفور إلى جنوب كردفان، ومناطق أخرى في البلاد.

وتعاملت "الجنيد" مع عمال مناجم فقراء، يستخدمون الزئبق السام في استخراج الذهب؛ ما ينطوي على خطر كبير على صحتهم. والتربة المتبقية المعروفة باسم "الكرته"، ينقل بعضها بالشاحنات لمنشآت مجموعة "الجنيد"؛ حيث تعالج بالسيانيد لجمع ما تبقى بها من ذهب.

وضعت هذه الممارسات مجموعة "الجنيد" في بعض الأحيان في صراع مع السكان المحليين. وفي أكتوبر/تشرين الأول، أضرم سكان قرية تولادي في جنوب كردفان النار في مقر لمجموعة "الجنيد"، واتهموا الشركة بنهب ذهبهم وتلويث تربتهم.

وقال المدير العام للمجموعة: "سكان جنوب كردفان يجب أن يشكروا الجنيد" على كل ما قامت به من أجل المنطقة. وقدر قيمة الأضرار الناجمة عن حرق المقر بنحو 6 ملايين دولار.

ودفعت حملة عالمية ضد استخدام الزئبق في تعدين الذهب، وفي صناعات أخرى، الأمم المتحدة لإبرام اتفاقية "ميناماتا" بشأن الزئبق، التي ستمنع تصنيع وتصدير واستيراد المنتجات التي تحتوي على الزئبق، اعتبارا من عام 2020. وقال وزير الطاقة والتعدين السوداني "عادل إبراهيم" لـ"رويترز" إن بلاده ستلتزم بالاتفاقية. ولا تشمل الاتفاقية استخدام السيانيد.

وقال رئيس منظمة الديمقراطية أولا السودانية "أنور الحاج": "السيانيد أكثر خطورة لأنه يتسرب إلى التربة وتجرفه الأمطار ويقتل العديد من الحيوانات، ويتسرب إلى مياه الشرب، ويؤثر على الخضروات في المنطقة".

ونشرت المنظمة تقريرا في 2018 أكد وجود صلة بين استخدام المواد الكيماوية السامة في التعدين وزيادة معدلات الإجهاض وتشوه الأجنة ووفاة المواليد.

وقال الوزير "إبراهيم" إن الحكومة ستساعد عمال التعدين على إيجاد بدائل للزئبق، لكن استخدام السيانيد سيستمر لأنه غير مضر إذا تم التعامل معه بطريقة صحيحة.

معاملة خاصة

من المفترض أن بنك السودان المركزي هو الجهة التي تشرف على صادرات الذهب، لكن مسؤولين حكوميين حاليين ومسؤولا سابقا وعددا من المصادر في صناعة الذهب أبلغوا "رويترز" بأن "البشير" سمح في بعض الأحيان لـ"حميدتي" بالتملص من هذه القاعدة. وقالوا إن الرئيس السابق سمح لمجموعة "الجنيد" ببيع الذهب كيفما تشاء؛ لأن قوات الدعم السريع بقيادة "حميدتي" كانت تمثل قوة مضادة مهمة لكبار الضباط في الجيش، الذين كان "البشير" يعتبرهم خطرا على حكمه.

وأظهرت وثائق وفواتير التصدير التي اطلعت عليها "رويترز"، وهي تغطي مدة أربعة أسابيع في نهاية عام 2018، أن مجموعة الجنيد كانت تنفذ أعمالا مع شركة في دبي اسمها "روزيلا". وعندما تواصلت رويترز مع "روزيلا"، أكدت الشركة أن مجموعة "الجنيد" كان لها تعاملات معها. وقال مسؤول في الشركة إن التعاملات بين الشركتين جرت لمدة ثلاثة أشهر في أواخر عام 2018. وقال "البكري"، مدير عام مجموعة "الجنيد"، إن "روزيلا" هي الشركة الوحيدة التي تعاملت معها المجموعة في دبي.

وقال مسؤولون حكوميون إنه بموجب ترتيب مع "البشير"، تُسلم مجموعة "الجنيد" بعض عائداتها من التصدير إلى الدولة، لتمويل شراء الحكومة الوقود والقمح. وأكد "البكري" استخدام بعض عائدات بيع الذهب لشراء الوقود. وأضاف أن مجموعة "الجنيد" تجاوزت البنك المركزي لمدة ثلاثة شهور فقط، في أواخر عام 2018، بناء على طلب من "البشير".

غير أن مسؤولا حكوميا كبيرا قال لـ"رويترز" إنه لا توجد أي سجلات رسمية تثبت أن مجموعة "الجنيد" أعطت أموالا للدولة. وأضاف أن "حميدتي" استخدم عائدات صادرات الذهب لشراء أسلحة لـ"البشير" ولنفسه.

وتابع قائلا إن "حميدتي" ضخ ما يقدر بملايين الدولارات لشراء أسلحة ومركبات لقوات الدعم السريع، التي تجوب الشوارع بسيارات دفع رباعي مزودة بقذائف صاروخية ومدافع رشاشة.

وردا على سؤال عما إذا كانت عائدات مبيعات مجموعة "الجنيد" من الذهب استخدمت في شراء أسلحة، أصر "البكري" على نفي العلاقة بين مؤسسته وقوات الدعم السريع أو "حميدتي". كما أحجم مكتب "حميدتي" عن ذكر المزيد، بعدما نفى وجود أي صلة بين القائد العسكري ومجموعة "الجنيد".

وقال رئيس شعبة مصدري الذهب في السودان؛ "عبدالمنعم الصديق" إنه حتى إذا باعت مجموعة الجنيد الذهب إلى البنك المركزي، كما هو من المفترض، فإنها حصلت على سعر تفضيلي، وهو ما نفاه "البكري".

وتشكل قوات الدعم السريع، التي يبلغ قوامها عشرات الآلاف من الجنود، قاعدة نفوذ "حميدتي". فهي منتشرة في أنحاء السودان لحماية مناجم الذهب والمباني الاستراتيجية. ويقاتل الآلاف منهم لصالح السعودية في الحرب الأهلية باليمن. والمقاتلون الذين يقودهم "حميدتي" موالون له بشدة.

وقال أحدهم، طالبا عدم ذكر اسمه لكونه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام، إن "حميدتي" أحيانا يتصل بالأفراد هاتفيا بنفسه، وإنهم سيواصلون دعمه إلى الأبد. وأضاف أنه حصل على 20 ألف دولار للقتال في اليمن لمدة ستة أشهر. ويعيش كثيرون من أهل الريف بمبلغ يقل عن عشرة دولارات شهريا.

هذه فوضى

يواجه وزير الطاقة والتعدين السوداني، تحديا كبيرا لإصلاح قطاع صناعة الذهب. وقال إن الوزراء المتعاقبين تقاعسوا عن ضمان منح الامتيازات بشكل عادل وشفاف؛ ما أدى إلى الفساد، مضيفا أن هذه "فوضى".

وقال وزير المالية "إبراهيم البدوي"، الذي قدر حجم الدعم الدولي الذي تحتاجه بلاده بما يصل إلى 5 مليارات دولار، إن الحكومة ستعمل على إنهاء الاحتكار في قطاعات منها التنقيب عن الذهب. وأكد "البكري" أن مجموعة "الجنيد" لا تهيمن على السوق.

وبالنسبة لكثير من السودانيين، فإن" حميدتي" ومؤسسته رمزان لماضي البلاد القمعي والتفاوت الاقتصادي.

وروى أحد تجار الذهب لـ"رويترز" كيف أنه وقف أثناء مؤتمر خاص بالصناعة في الآونة الأخيرة، ليشكو من أن شركة "حميدتي" العاملة في مجال الذهب أصبحت مهيمنة على هذا القطاع بشكل كبير. وأضاف أنه بعد ذلك بيومين، نقلته الشرطة إلى مكتب الادعاء لسؤاله عن هذا التعليق. ولم يتسن التأكد من صحة هذه الرواية بشكل مستقل.

وفي سوق الذهب بوسط الخرطوم، تتلألأ لافتة إعلانية ضخمة لمجموعة "الجنيد" فوق صفوف من متاجر الذهب الخالية من الزبائن. وقال صاحب أحد المتاجر ويدعى "محمد عوض"، إن قلة من السودانيين يمكنها شراء ذهب اليوم.

ولدى سؤال تاجر آخر عما إذا كانت صادرات الذهب أضرت بتجارته، أشار إلى لافتة مجموعة "الجنيد" فوق متجره، وقال إنه يتمنى أن يغير "حميدتي" أساليبه، ويبقي على الذهب داخل البلد.