شيماء علي- البيت الخليجي-
في 4 سبتمبر 2023 قضت المحكمة الاتحادية العليا في العراق بأن تصديق البرلمان العراقي في عام 2013 على اتفاقية ممر خور عبدالله المائي في عام 2012 كان غير دستوريًا، ذلك أن عدد النواب الذين صوتوا على الاتفاقية في ذلك الوقت لم يكن كافيًا من الناحية الدستورية وفقا للمادة 61 من الدستور العراقي، إذ يجب في التصويت على مثل هذه الاتفاقيات أن تحظى بموافقة ثلثي النواب. احتفل عدد من السياسيين العراقيين بعد قرار المحكمة وخاصة النائب الذي قام بتحريك القضية وهو سعود الساعدي من حركة حقوق، الذراع السياسي لكتائب حزب الله العراقية، وهي فصيل مسلح مدعوم من إيران.
بداية التصعيد في أزمة الحدود بين الجارتين لم تبدأ من حكم المحكمة بشأن اتفاقية خور عبدالله، ففي 30 يوليو الفائت، التقى وزير الخارجية الكويتي سالم عبدالله الجابر الصباح بنظيره العراقي فؤاد حسين وحاكم محافظة البصرة أسعد العيداني، وفي المؤتمر الصحفي، شكر وزير الخارجية الكويتي حاكم البصرة على تعاونه في إخلاء المنازل على الحدود بين الدولتين ونقل الأهالي إلى منطقة تم بناؤها خصيصا بتمويل كويتي، جاء هذا الأمر كجزء من تسوية على ترسيم الحدود البرية بين البلدين. ورغم أن نقل السكان من مدينة أم قصر جاء بعد اتفاق بين الحكومتين العراقية والكويتية إلا أن محافظ البصرة تعرض لاتهامات واسعة من وسائل إعلام عراقية اتهمته بتسليم الأراضي العراقية إلى الكويت.
أزمة قديمة ومتجددة
منذ تأسيس الدولة العراقية بعد معاهدة لوزان 1922، كان صراع دائم على الحدود العراقية، وللعراق نزاعات حدودية مع أغلب جيرانه (تركيا، الكويت، إيران)، وفيما يخص ترسيم الحدود بين العراق والكويت، أخذ ترسيم الحدود طريقًا طويلًا من الاتفاقيات التي امتدت لتسعين عامًا مليئة بالصراعات من الجانب العراقي على ترسيم حدوده.
في نوفمبر 1922 طالب العراق في مفاوضات ترسيم الحدود تحت الرعاية البريطانية، بالصحراء العربية على طول الطريق إلى الرياض ما أثار الخلافات مع آل سعود، ولوضع حد لهذه الخلافات قام السير بيرسي كوكس المفوض السامي البريطاني للعراق بترسيم الحدود بين العراق والسعودية والكويت، لكن العراق بقى غير راضٍ عن هذا الأمر.
أزمة الصراع على الحدود خلقت وراءها علاقات مضطربة بين العراق والكويت منذ عام 1936 وهي مستمرة حتى يومنا هذا، طوال تاريخ العراق كان هناك رغبة ونية حقيقية من النخب السياسية لتهديد الكويت وغزوها وضمها إلى الأراضي العراقية، سعى كلٌ من الملك غازي بن فيصل، ثاني ملوك العراق، وكذلك عبدالكريم قاسم إلى غزو الكويت وضمها إلى العراق بدعوى وجود اعتبارات قومية وأمنية واقتصادية، واستمرت هذه النية حتى عهد صدام حسين الذي قام بغزو الكويت فعلاً.
في المقابل، كان على الكويت، الدولة الصغيرة الغنية بالنفط أن تلجأ إلى التشكك الدائم في النوايا العراقية وأن تتعامل دائمًا مع العراق على أنه مصدر تهديد محتمل في أي وقت، في الوقت نفسه، حاولت الكويت التعاون مع النخب السياسية العراقية خاصة بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، لكن ظل الأمر دائمًا محاطًا بالتحوط والقلق.
ترسيم الحدود البرية والبحرية
بعد انفصال العراق عن الامبراطورية العثمانية وتأسيس المملكة العراقية الهاشمية، أرسل العراق رسالة إلى السفير البريطاني في بغداد للاعتراف رسميا بالحدود البرية مع الكويت ووافقت عليها الكويت في عام 1932، وكانت هذه الرسالة هي الأساس الذي انطلقت منه اتفاقيات ترسيم الحدود البرية بين البلدين. في عام 1938 أعلن وزير الخارجية العراقي توفيق السويدي عن تخليه عن هذه الرسالة ورغبة بلاده في ضم الكويت لكن السفير البريطاني وقف ضد هذه الرغبة، ومنذ عام 1938 وحتى وقت غزو صدام حسين للكويت كان الحديث عن نية العراق لضم الكويت مستمرًا.
بعد غزو العراق للكويت، تحديدا في عام 1994 وافق نظام صدام حسين على الاعتراف باستقلال الكويت وسيادة حدودها وفقا لرسائل عام 1932. أما بالنسبة للحدود البحرية بين الدولتين، فتمت ترسيمها في عام 1993 من قبل الأمم المتحدة ووفقا لقرار مجلس الأمن رقم 833، لكن لم يتم الانتهاء الكامل من الترسيم الحدودي البحري وظل الأمر مرهونًا بالتعاون بين العراق والكويت. توقفت جهود الترسيم عند النقطة 162، واستطاع العراق والكويت في عام 2012 التوقيع على اتفاقية مشتركة بشأن تنظيم الملاحة البحرية في الممر المائي خور عبدالله وتم التصديق على هذا الاتفاق في البرلمان العراقي والكويتي في عام 2013.
يقع ممر خور عبدالله المائي في شمال الخليج ويفصل بين جزيرتي بوبيان ووربة في الكويت، وشبه جزيرة الفاو العراقية.
حكم مُسيس؟
بعد الحكم الأخير للمحكمة الاتحادية العليا في العراق بعدم دستورية اتفاقية خور عبدالله، قال رئيس الوزراء الكويتي الشيخ أحمد نواف الأحمد الصباح إن الحكم به الكثير من المغالطات التاريخية، ولجأت الكويت إلى دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة لمساعدتها في هذا الأمر.
وبالنظر إلى أن الاستئناف المقدم من قبل برلماني من كتلة سياسية مقربة من إيران، فقد يظن البعض أن حكم المحكمة الاتحادية مُسيس ومصنوع من أجل الاستهلاك المحلي في العراق خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية في نهاية العام الجاري.
دائما ما كانت تنظر الكويت إلى تراجع العراق المتكرر عن اتفاقيات ترسيم الحدود إلى أنه غالبًا ما يكون مصحوبًا بالتنافس السياسي الداخلي بين السياسيين العراقيين أو النزعات القومية، خاصة وأن الأصوات السياسية التي تنادي من وقت لآخر بضم الكويت وضرورة عدم التفريط في الأراضي الحدودية لصالح الكويت، وبعد سنوات الذكريات السيئة بين البلدين، تظهر في أوقات سياسية معينة مثل الانتخابات البرلمانية أو المحلية أو التنافس الداخلي بين النخب السياسية، ما يُعرض التحسن الملحوظ في العلاقات بين البلدين للتدهور.
السيناريوهات المحتملة
بالنظر إلى الأزمة الحالية المتعلقة بممر خور عبدالله، ترى الكويت أن قرار المحكمة الاتحادية العراقية غير ملزم لها. بالتوازي، لا يستطيع رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، المضي قدمًا وكأن حكمًا لم يصدر، خاصة وأن المرحبين بهذا الحكم هم من حلفائه السياسيين، لذلك، يمكن القول أن هناك ثلاث سيناريوهات للتعامل مع هذه الأزمة.
السيناريوالأول: وهو أن يقوم البرلمان العراقي بإعادة التصويت بثلثي الأعضاء على اتفاقية خور عبدالله بهدف إقرارها بشكل نهائي والعودة إلى العمل بها. لكن هذا السيناريو صعب التنفيذ في الوقت الحالي، خاصة وأن البرلمان الحالي يسيطر عليه الإطار التنسيقي الشيعي المقرب من إيران، الذي تتبنى أغلبيته مبدأ عدم التفريط في الحقوق البحرية والبرية لصالح الكويت، خاصة وأن إيران لديها أزمة مع كلٍ من السعودية والكويت بشأن حقل الغاز البحري الدرة/اراش.
السيناريو الثاني: هو إعلام الكويت برسالة رسمية بتوقف العمل بالاتفاقية ودعوة الحكومة الكويتية إلى البدء في مفاوضات جديدة لحل الأزمة.
السيناريو الثالث: سيكون في حالة فشل المفاوضات أو عدم قبول الكويت بإعادة المفاوضات على الاتفاقية، وحينها سيلجأ الطرفان إلى المحاكم الدولية ما يعرض مستقبل العلاقات الثنائية بين بغداد والكويت للكثير من التوتر.
تعتبر العلاقات الكويتية العراقية فريدة من نوعها حيث تحولت من العداء الذي أعقب غزو العراق للكويت في التسعينات، إلى التعاون والاحترام المتبادل، رغم ذلك، تبقى قضايا الحدود والأوضاع المعقدة في المنطقة والتحديات الداخلية داخل البلدين عائقًا أمام استكمال هذه العلاقات وتعزيز الثقة بينهما. ورغم التوتر القائم بين البلدين، سيكون بإمكان العراق والكويت، على الأغلب، التفاوض من جديد انطلاقًا من الأسس التي وضعوها للعلاقة الثنائية في عام 2004 لحل الخلافات وتوسيع التعاون، والأهم من ذلك هو احترام الطرفين للاتفاقيات الموقعة بينهما.