موسى السادة - جريدة الأخبار-
حتى منتصف الليل من يوم السادس من أكتوبر كان جدول أعمال السلطة الحاكمة في السعودية يسري كما هو مخطّط له. كان عام 2023 عاماً مثالياً، فالثورة التي بدأها محمد بن سلمان بدت وكأنها تجري بلا تعكير، والشريحة الاجتماعية العليا، في الرياض على وجه الخصوص، تعيش وتمارس أفضل أحلامها في تحويل المملكة إلى قطب من أقطاب نماذج العولمة الصاعدة في الاستهلاك والترفيه والعلاقات العامة. فأخيراً، تجاوزت عبء جريمة المرحوم جمال خاشقجي، والتأجيل والتعطيل اللذيْن أنتجتهما جائحة «كورونا»، والصورة الدولية على حال أفضل بكثير، وكذلك العلاقات مع الولايات المتحدة تمّ ترميمها، بل رأى السعوديون أنفسهم في وضع يمكنهم وبجرأة من الحديث العلني عن مستقبل علاقات مع «إسرائيل». فقد كان خطاب ومنظور الهوية والمصلحة الوطنية قبل كل شيء، والانعزال عن العربي أو المسلم الآخر يشهد رواجاً داخلياً. هنالك شريحة واسعة من الطبقة الوسطى من السعوديين والسعوديات يعيشون تغيّراً حقيقياً في الحريات الشخصية وحيوية في الجهاز البيروقراطي، الذي يعمل منهجياً على إنتاج هوية سعودية جذّابة وعصرية وذات رمزية طبقية «مخملية»، بشكل يجعل العملية التاريخية الساداتية لإعادة إنتاج مصر بهوية انعزالية عملية أقل مثابرة وحماسة بالمقارنة.شكّل العام الماضي بالنسبة إلى النخبة السعودية عام حصاد لاستثمارات ومشاريع واستضافة محافل ومسابقات عالمية. الدوري السعودي لكرة القدم على سبيل المثال، ليس مجرد محفل رياضي، بل يشكّل، ومنذ عقود، إحدى أهم أدوات علاقات الدولة بالقطاع الأوسع من الشباب. في بداية الاحتجاجات العربية عام 2011 كان من المثير للاهتمام كيف تعاملت السلطة مع التجمّع الجماهيري في الملاعب وإنتاجها كتظاهرات تأييد للحكم، ففي حينها تحديداً شكّلت ملاعب كرة القدم المكانَ الوحيد في المملكة الذي يجتمع فيه عشرات الآلاف من الجماهير. أمّا النسخة الحالية من الدوري، فهي الأهم والأبرز تاريخياً، فقد استثمر صندوق الاستثمارات العامة مئات الملايين على الأندية الأربعة الكبرى وبصفقات من كريستيانو رونالدو ونيمار وبنزيما وغيرهم. ليتحول الموسم إلى محفل بأبعاد عدة، من التسويق للمملكة والعلاقات العامة والسياحية وكذلك إلى إحدى أهم أدوات الشرعية والغنائم المقدّمة للشباب السعودي.
يضاف إلى ذلك، استضافة كأس العالم للأندية، وبطولة العالم للرياضات والألعاب الإلكترونية. وبطبيعة الحال، موسم الرياض كمحفل تمتد يده لكل قطاعات الترفيه في العالم ليأخذ قطعة منها للمملكة ضمن شبكة عملاقة وفاعلة للاستثمار السعودي لأغلب قطاعات الترفيه والخدمات في العالم. ما يقوم به السعوديون تغيير كبير، يستشعره شباب الطبقة الوسطى بنوع من النشوة؛ ففي حين كان هذا الشباب في سفره إلى أوروبا وأميركا يواجه باستحياء الصورة النمطية للسعوديين والإرهاب والمحافظة الدينية، الصورة اليوم انقلبت بالنسبة إلى الشريحة المقابلة من المجتمعات الغربية والعالمية، فمجرد قول بأنّك سعودي يبدأ الشاب مستهلك «اليوتيوب» بسرد الصورة النمطية الجديدة، حيث يبدأ بشكل مبهر وآلي وببغائي بترداد ما استهلكه من منتجات العلاقات العامة السعودية والدعايات والتسويق الإلكتروني.
تشترط هذه الفقاعة من الامتياز وممارسة الترف، تحصين نخبة الحكم في المملكة لذاتها في إطار الانعزال بالهوية الوطنية السعودية. وهو أمر ليس بجديد، فالسمة العامة للدولة العربية الوطنية هو الجنوح إلى الانعزال، ولأسباب أبرزها وأساسها هو تمكّن النخبة الحاكمة في كل بلد من ممارسة امتيازها كحاكم ومالك لشعب وموارد تحت شرعية دولة بعلم ونشيد وطني وحدود جغرافية. وعليه، من الممكن قراءة تاريخ كل طبقة وأسرة عربية حاكمة بأنه تاريخ ممانعة وحمائية سياسية أمام حقيقة أن المجال السياسي والثقافي العربي هو عابر للدولة العربية. ولذلك، فإن الانعزال وصنع جزيرة منفردة على المصير العربي أمر مستحيل ولكنه حلم يراود كل النخب العربية. كانت الحالة السعودية فريدة، فهي لاعتبارات متعددة -منها خصوصية مكة المكرمة والمدينة المنوّرة والمكانة الاقتصادية النفطية والعلاقة بالولايات المتحدة- تحرص على ممارسة السياسة ضمن المجال العربي، وذلك عبر تكييف ودعم لصيغة محددة من الهوية الإسلامية. في نهاية المطاف، ضاق الجيل الصاعد من النخبة السعودية ذرعاً بهذا العبء، فقد كبّلتهم هذه السياسة طويلاً، سواء من ناحية الاندماج في العولمة أو الارتدادات الأمنية، وخصوصاً وهم يرون نماذج دبي والدوحة في الجوار. وعليه، كانت الصيغة هنا هوية وطنية سعودية برأس مال ضخم يشكل المركز، وممارسة السياسة في المجال العربي عبر إلحاق الأطراف بالمركز انبهاراً واستهلاكاً لثقافة العولمة.
وصلت هنا أحلام رأس المال السعودي إلى أعلى مدياتها، وآمنوا بجد بأن الوفرة المالية ستمكّنهم من صنع مجال منعزل يشكّلونه دونما أي عبء أو «إزعاج». وقد نجحوا في ذلك أيّما نجاح، وإن كان الكثير من الجمهور العربي، من الطبقات الدنيا أو المسيّس والمنخرط بالصراع في المشرق، لا يراها، إلا أن رأس المال الخليجي تاريخياً، والسعودي المثابر اليوم، يصنع فقاعة ضخمة وجبارة تشمل شريحة واسعة جداً من الأجيال العربية. كل هذه التغييرات ليست غائبة عن عيون الصهاينة، ففي حين أن هنالك رواجاً بأن غنيمة التطبيع الإسرائيلية-السعودية هي اختراق في المجال الإسلامي بسبب الحرمين والحيثية الدينية، فإنه ليس من القفز بالتحليل القول بأن الصهاينة يرون غنيمة في الاختراق الليبرالي الأقرب إلى نموذج دبي، ولكن إلى جمهور عربي أوسع بكثير. وهذا ما ستثبت أيام ما بعد 7 أكتوبر صوابيته إلى حدّ كبير.
ما بعد صباح السابع من أكتوبر
تقريباً ما بين الساعة السابعة والساعة العاشرة بتوقيت السعودية في صباح هذا اليوم، وفي حين كانت «كتائب القسّام» تنكّل بفرقة غزة في جيش العدو، كانت الصورة القادمة من المعركة تمارس ضربات مختلفة ولكن على مجمل الإنتاج الفني والترفيهي لرأس المال السعودي، فقد ضربت صورُ ومشاهد الإعلام العسكري صلب صورة موازين العالم التي ترسمها العولمة. استيقظت النخبة السعودية على أسوأ كوابيسها، حيث إن أكثر عبء يزعج السعوديين (النخبة) هو تلك المراحل التاريخية التي تحدث فيها انفجارات سياسية توهّن الحدود السياسية العربية وتضعفها: من غزو العراق، والظاهرة الجهادية التي تلتها، وصولاً إلى ما اصطُلح عليه غربياً بالربيع العربي. إلا أن ما استيقظ عليه السعوديون كان الأسوأ؛ ليس لأن عملية «طوفان الأقصى» كانت بحد ذاتها حدثاً ضخماً، بل لأن العنوان هذه المرة هو «فلسطين». ففلسطين أكثر العناوين ترهيباً للطبقة الحاكمة العربية، ولعقود، فهي بذاتها تفرض نفسها على الجميع، وتشعر حينها رأس المال الخليجي بفقره وافتقاره، وعدم توفر الأدوات التي من الممكن له التعامل معها. إلا أن النخبة السعودية هنا لم تكن في وارد الخضوع، بل إن السياسة الطويلة الأمد التي توافقت عليها بعد استيعاب الصدمة هي التجاهل لا المواجهة.
وفي حين أن الصورة القادمة من المملكة الآن على وسائل التواصل هو ما اصطلح عليه الذباب الإلكتروني، وهي جحافل السعوديين ذوي المنطق القومي السعودي. إلا أن صدمة «الطوفان» ضربت عميقاً في المجتمع، فقد كان مثيراً مدى تفاعل جمهور وسائل التواصل، خصوصاً خارج «تويتر» (إكس)، فالأخير يشكّل تابو للمجتمع لاعتباره منصة ذات طابع سياسي. بينما كانت باقي وسائل التواصل تتفاعل كغيرها من المجتمعات العربية، وبشكل أنذر السلطة لتحاول استيعاب الأمر. خرج رموز السلطة للتحذير بشكل مباشر من تبنّي أي خيار أو خطاب سياسي، وأنه إن أردت التضامن إلكترونياً فعليك بالتضامن الإنساني، بما يشبه أحداث الكوارث من الزلازل والسيول.
إشارة مثيرة للمجال العام كانت الموقع الإكتروني لإحدى كبريات مكتبات العاصمة الرياض، حيث سجّلت كتب القضية الفلسطينية الأكثر مبيعاً خلال أكتوبر ونوفمبر
كانت مراقبة الجمهور الرياضي السعودي وردّة فعله كفيلة بعكس المزاج الشبابي، خصوصاً أن هذا الجمهور عابر للطبقات. في أول «الطوفان» عملت حسابات «تويتر» (إكس) الكبرى للمشجعين على الحديث بحماسة عن فلسطين، إلى حد أن مشغّل الحساب الرسمي لنادي الهلال تحمّس ونشر صورة للاعبين بالكوفية الفلسطينية والتي سرعان ما أزيلت. هنا ثارت رموز النخبة السعودية وأصبحت تحذّر وتتحدّث عن أننا تركنا مجموعة من الهواة ومحبي الرياضة يحصدون مئات الآلاف من المتابعين دونما مراقبة لما يقومون به من تغريدات غير وطنية. وعليه، تمت عملية إعادة ضبط للمحتوى الإلكتروني من جديد. إلا أن هذا لم يقض على الحس العام للمجتمع: يخبرني صديق عن أنه وفي منتصف المجزرة كان الجو العام في شركته صامتاً على غير العادة وكأنه في حال حداد مع عبارات «الله يعينهم» و«الله يفرج كربهم»، دونما تطرق إلى الحديث السياسي، بل إن أحد الموظفين اشترى وجبة الغداء للجميع من مطعم فلسطيني كإشارة تضامن. إشارة أخرى مثيرة للمجال العام كانت الموقع الإكتروني لإحدى كبريات مكتبات العاصمة الرياض، حيث سجّلت كتب القضية الفلسطينية الأكثر مبيعاً خلال أكتوبر ونوفمبر.
إلا أن كل ذلك لم يؤثّر على القرار الحاسم للسلطة بأن لا رجعة إلى زمن حفلات التضامن والتعكير من الخارج، وأن جدول الأعمال يجب أن يستمر مهما كان. حتى وصلنا إلى أكثر مشاهد الانقسام العربي الحقيقي، في مشهد حفلات الغناء والسمر المتزامن مع أكبر مجازرنا في العصر الحديث، والبجاحة والجرأة في إكمال رأس المال السعودي طموحه في تشكيل شبكة كبرى من علاقات الفنانين المؤثرين في وسائل التواصل والإعلاميين والأثرياء العرب، بشكل أنتج شريحة عربية واسعة في عالم مواز. وهذا تحديداً ما أبهر الصهاينة وزرع فيهم أمل المراهنة على مستقبل ما في المنطقة بالتحالف غير المسبوق لطموح النخبة السعودية.
من جهة أخرى، أثبتت القضية الفلسطينية مكانتها التي طالما نظّر لها، بأنها بجوهرها نقيض لمصالح وثقافة رأس المال الخليجي والعربي، وأن «طوفان الأقصى» كانت ضربة لرأس المال السعودي في أكثر لحظاته نشوة، وهو الذي يراكم الآن على حالة الانهاك والتململ من الحرب وجوّها في محاولة تجاوزها تماماً وجعلها من الماضي، وهنا يكون واجبنا ومسؤوليتنا أن لا نستهزئ بالعمل والجبهة الإعلامية والثقافية لصنع اختراق في الجمهور العربي. هذا هو العمل الثوري الحقيقي، أمّا الاستسلام للعصبيات والتسليم وتأجيج الاستقطاب مع الآخر العربي فكل ذلك هو مساهمة مع جهد النخبة السعودية. هنا علينا التماس عوامل لا تخيب سدّد فيها اليمنيون ضربة كبرى للسرديّة السعودية، وهي المراكمة على خطاب العروبة والنخوة وأن الحدود العربية مهما بنى فيها رأس المال من جدران فهي ساقطة كجدار غزة.