غسان سعود-
قبل ثلاثة أيام من الذكرى الثلاثين لتوقيفه (21 نيسان 1994)، كشف رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في مؤتمر صحافي، يوم الجمعة الماضي، عن قلق كبير يتحكّم بمعراب رغم محاولاته الكوميدية للحؤول دون تظهيره.في مستهل المؤتمر، حين يسارع المتحدث عادة إلى قول أهم ما لديه، أكد جعجع أنه كان ولا يزال «مع ثورة الشعب السوري الحقيقية، ولسنا معها حين صادرتها المنظمات المتطرفة وأخذتها إلى مكان آخر». بدت العبارة كأنها ثابتة قواتية، لولا أن التدقيق يبيّن أنها انقلاب كامل على مواقف القوات السابقة: بعد 13 عاماً من تخوين كل من يتهم المنظمات التكفيرية بالاستيلاء على الثورة السورية، ورحلات التضامن مع هذه المنظمات في عرسال، وإقناع المحازبين بأن البغدادي والجولاني والقحطاني ليسوا إلّا أسماء حركية لزملاء «الحكيم» في الهيئات الطلابية الكتائبية، وتسخيف المجهود الحربي للجيش اللبناني وحزب الله لحماية لبنان من المنظمات الإرهابية، وتوجيه التحيات إلى إدلب التي لم تعرف في مسارها «الثوريّ» إلا المنظمات الإرهابية، وتأكيد جعجع نفسه أنه مع أيّ حكم في سوريا غير الرئيس بشار الأسد... ها هو قائد القوات يلتزم بتوجيهات الاستخبارات السعودية - شأنه شأن الفنانين السوريين المتعاقدين مع شركات الإنتاج السعودية - ويقرأ ما كُتب له بحذافيره: «كنا مع الثورة التي قادها الطفل الذي تعرّض للتعذيب في مدينة درعا، لكننا ضد الثورة التي صادرتها المنظمات المتطرفة». وهو نفسه، حرفياً، ما تطلبه الاستخبارات السورية نفسها من القوى والشخصيات التي ترغب في فتح صفحة جديدة مع الدولة.
مشكلة جعجع أنه يدرك أن حليفه الإقليمي الأبرز حسم جذرياً، بعيد «طوفان الأقصى»، قراره بالانفتاح الكامل على دمشق. وبموازاة القلق من هذا التفاهم السعودي - السوري الذي لن تقبل المخابرات السعودية مزايدة من جعجع عليه أو خروجاً عنه، ثمة قلق أكبر مما يصفه أحد وزراء جعجع السابقين إصرار واشنطن وطهران على خفض التوتر بينهما والبحث عن مساحات للتفاهم في أكثر اللحظات حرجاً بالنسبة إلى إسرائيل. ورغم أن لا شيء محسوماً بعد، إلا أن «من يأكل العصيّ ليس كمن يعدّها»، ومن دفع ثمن التفاهمات الإقليمية والدولية سجناً ليس كمن سمع عن السجن. ويتزامن ذلك مع همس قواتي متزايد عن توقف التمويل السعودي لجعجع منذ أكثر من عام، وعن برودة قطرية تجاه محاولاته للانفتاح على الدوحة، فيما يبدو الدور الإماراتي محصوراً بفعل ما يلزم حتى لا يموت حلفاء السعودية السابقون جوعاً، وليس أكثر. ومشكلة جعجع هنا ذات شقين: الأول أن المزاج السعودي - الأميركي يتعارض بالكامل مع طبعه لجهة التهدئة والتفاهم، والثاني أن للأفرقاء الأساسيين في المحور الذي يتموضع فيه تاريخاً حافلاً بالتخلي عن أصدقائهم حين تقتضي مصلحتهم ذلك، فيما المحور المقابل لا يتخلى عن أيٍّ من مكوّناته مهما كان حجمه أو طبعه أو رأيه بالمحور نفسه.
ذهب جعجع، جراء الإرباك المتواصل منذ مقتل باسكال سليمان (في عقر داره الذي اختاره ملاذاً له في زمن الحرب) إلى حيث لا يمكن تخيّله: قبل أسابيع فقط، كان يوصي نوابه بعدم «تعبير» التيار الوطني الحر لأنه في حالة تآكل و«لا يفترض أن نعوّمه». وتعليقاً على مواقف التيار الأخيرة من محور الممانعة وحزب الله، كان جعجع يجزم في مجالسه بعدم قدرة التيار على إقناع الرأي العام بتموضعه الجديد أو مزاحمة القوات في ملعبها، حيث تتمتع بشرعية الخطاب ومشروعيته. وفي الأيام القليلة التي تلت جريمة جبيل، كان بعض القواتيين يتهمون العونيين بإثارة ملف النازحين السوريين لشغل الأنظار عن المشكلة الحقيقية المتمثلة بحزب الله. وإذا بجعجع فجأة، تحت وطأة الإرباك، ينقلب على هذا كله ليزاحم التيار في موضوع النزوح السوري، متجاهلاً بالكامل أن ما كان يتهم به التيار بعدم قدرته على إقناع أحد بالتموضع الجديد بات ينطبق حرفياً عليه: مهما كان ما تقوله القوات اليوم عن النازحين السوريين، فلن تكون قادرة على إقناع الرأي العام بتموضعها الجديد أو مزاحمة التيار في ملعبه حيث يتمتع بشرعية الخطاب ومشروعيته. ثمة ملف واحد أوحد، هو النزوح السوري، لا يشكك أحد بأن العونيين كانوا محقّين في مقاربته. وبدل أن يكتفي بهذا القدر من الإرباك، ذهب أبعد حين أطلق نوابه، تتقدمهم زوجته ستريدا جعجع، حملة على مواقع التواصل الاجتماعي يسألون فيها النواب العونيين عما فعلوه في هذا الملف. وبدل أن تخبر السيدة جعجع اللبنانيين عما فعلته في بشري كنموذج يحتذى، أو ما فعله نائب القوات في كسروان شوقي الدكاش مثلاً، سألت النائبة ندى البستاني تحديداً عما فعلته في مواجهة النازحين في كسروان. كما لم تخبر اللبنانيين لماذا أوقفت القوات حين تولت وزارة الشؤون الاجتماعية تسجيل النازحين، إن لم يكن ذلك لتشريع دمجهم في لبنان. وفوق ذلك كله، تواصل القوات الحديث عن الحكومة الثالثة في عهد الرئيس ميشال سليمان بصفة الغائب، فيما هو «الرئيس السيادي» الذي يفترض أنها تعتزّ بأدائه، حاله في ذلك من حال قادة الجيش المتعاقبين الذين يتحملون المسؤولية الأولى (وليس الأمن العام كما ادعى جعجع افتراءً في مؤتمره الصحافي) عن الدخول والخروج عبر المعابر الحدودية غير الرسمية. ولأن جعجع حريص على صداقته الوطيدة مع الرئيس نجيب ميقاتي، أراد إقناع الرأي العام بأن مسؤولية النزوح لا يتحملها رئيس الجمهورية أو الحكومة أو قائد الجيش أو وزير الشؤون الاجتماعية، بل وزير الصناعة أو الشباب والرياضة أو الطاقة أو السياحة.
بالنتيجة، رفع جعجع ملف حزب الله عن الطاولة ليضع ملف النازحين، من دون التأكد حتى الآن ما إذا كان ذلك عن سابق تصور وتصميم، وبناءً على إشارة إقليمية أو دولية.
يعدّد مرجع رسمي أسباباً عدة لإرباك «الحكيم» الذي لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يفعله من شدة قلقه، كالآتي: 1 - يرى أن المصالحات لم تعد حبراً على ورق. 2 - يقرأ ردة الفعل الأميركي على الاستنزاف الإيراني لإسرائيل. 3 - يدرك جيداً عدم الاكتراث الأوروبي عموماً (والفرنسي خصوصاً) به. 4 - يصله كل ما يجري تحضيره في الفاتيكان. 5 - يلمس نتائج انقلابه على سعد الحريري وفشله في بناء أيّ حيثية سنية أو أي تحالف مع أفرقاء جديين في الساحة السنية. 6 - يفهم أمنياً وسياسياً معنى وضع الإماراتيين طائرة خاصة في تصرف مسؤول الارتباط في حزب الله. 7 - يفهم التمايزات الجوهرية التي بدأت بكركي في إظهارها بحيث تتقاطع في وثيقتها مع القوات في بند ومع التيار في تسعة. 8 - يتمعّن في عزل السفارة الأميركية أمنياً وإعلامياً وكنسياً لروايته بشأن مقتل سليمان. 9 - يعاني من إفراغه القوات من المتطوعين وإنهاك نفسه بنفسه بكمية هائلة من الرواتب والتقديمات الاجتماعية ظنّاً منه أن المال السعوديّ دائم. وهو هنا «عماها بدل أن يكحّلها»، إذ إن موقفه من النزوح قد يدفع جمعيات المجتمع المدني، كآخر خلايا دعم للقوات اللبنانية، إلى حملة تطهير للجمعيات من القواتيين على غرار ما فعلته مع العونيين قبل أكثر من عشر سنوات. وعليه، لم يجد جعجع أمامه في ظل الإرباك والقلق سوى رفع الصوت أمام الخليج وأوروبا والولايات المتحدة: أنا هنا، لا تتركوني، مع تأكيد المطّلعين أن محاولة الابتزاز بملف النازحين لن تحقق غايتها، لا بل يمكن أن تنتظر قائد القوات مفاجآت من هؤلاء هنا أيضاً؛ وخصوصاً إذا ثبت أن العنف الذي مورس ضد بعض النازحين ارتكبه حزبيّون قالوا أثناء التحقيق معهم إن جعجع حرّضهم على ذلك.
في الدقيقة الـ 34 من مؤتمره الصحافي، قال جعجع: «بدّي ذكّر الجميع أنهم، من رئيس أميركا (أوباما، وقد مرّ من بعده رئيسان) إلى رئيس اليابان (أكيهيتو، الذي تخلى عن العرش لخلفه ميكادو عام 2019)، كلهم كانوا يقولون إن بشار الأسد لديه أسبوعان أو ثلاثة» قبل أن يسقط. وعليه بناءً على ما يقوله هؤلاء يبني جعجع استراتيجيته ويتخذ قراراته، بمعزل عن المصلحة الوطنية أو أي تقييم موضوعي لما سبق للولايات المتحدة (واليابان) أن قالتاه وما تحقق فعلاً، منذ الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 الذي انتهى باغتيال بشير الجميل وإقرار الطائف وسجن جعجع، إلى الغزو الأميركي للعراق الذي انتهى بتحوّل واشنطن إلى الشريك السياسي الأبرز لطهران في المنطقة، إلى أفغانستان التي تمثّل مع الإمارات العربية المتحدة أحد الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين لإيران اليوم. هناك الولايات المتحدة وهناك من يصدقها، من سمير جعجع إلى أولئك الذين حاولوا التعلّق بعجلات الطوافات الأميركية خلال فرارها من كابول، مروراً بقسم من الرأي العام لا يزال يرى في الولايات المتحدة القوة العظمى التي تحقق ما تريده. والمشكلة الإضافية هنا مع جعجع أنه حين يسمع مسؤولين دوليين يتحدثون عن إسقاط النظام السوري واستقبال لبنان للنازحين وتحمّله التداعيات الاقتصادية والعسكرية والسياسية للحرب، لا يعارضهم أو يطلب تحييد بلده بل يوافقهم. وهو حتى بعد مضيّ أكثر من 13 عاماً، لا يملك شجاعة القول إنهم كانوا مخطئين، بل يغلّف فشلهم بابتسامات منافقة.
هل اعتراف جعجع بالفشل الأميركي والياباني و«كلهم» مقدمة لإعادة النظر بالتبعية القواتية العمياء التي لا تحسب حساباً للمصلحة الوطنية أو المسيحية أو حتى القواتية؟ من يدقق في مواقف النواب والمسؤولين في القوات، وفي مقدمهم جعجع نفسه، يتأكد من عبثية السؤال. فهو يعلم أن الأميركيين عاجزون عن تحقيق طموحاتهم في المنطقة، وأمضى 11 عاماً من عمره في السجن جراء تضحيتهم بحلفائهم، لكنه مع ذلك يتمسك بتبعيته لهم. اختصر سمير جعجع نفسه ومشروعه ودوره ووظيفته بعبارة واحدة في تبريره لموقفه من الحرب السورية: «لأنهم جميعهم، من رئيس أميركا إلى رئيس اليابان، قالوا لنا إن الرئيس السوري بشار الأسد سيسقط خلال بضعة أيام». والمؤسف هنا أن هذه الأيام القليلة تحوّلت إلى أسابيع ثم إلى سنوات من دون أن يرفّ لجعجع جفن.