(مبارك الفقيه \ راصد الخليج)
لا يمكننا، ونحن نتابع ما يشتعل في المنطقة من حرائق على أرض فلسطين ولبنان، وما يجري من نكبات أمنية واقتصادية على الشعوب العربية في اليمن وسوريا والعراق، وأمام اضطراب الوضع السياسي برمّته في مختلف أنحاء العالم، إلا أن نسجّل للمملكة العربية السعودية وقيادتها قدرتها على المشي بين نقاط الأزمات والتروّي في قراءة المشهد واتخاذ القرارات الصائبة.
فلا هي شاركت في تحالف الازدهار الأمريكي لضرب اليمن، بعد أن سحبت يدها من تحالف الحرب ضد الحوثيين، ولا هي انساقت وراء حماس الانتماء العروبي فتورّطت في الحرب على قطاع غزة، ولا هي انزلقت نحو ورطة التحالفات الدولية لتنحاز إلى أي طرف في سياق حرب قوى الشرق والغرب، فحافظت على علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن ومدّت أبواب المصافحة مع روسيا والصين، وهما البلدان اللذان كانا إلى أمد قريب في خانة العداوة العقدية والسياسية مع أرض الحرمين الشريفين...!
لكن تسارع المستجدات الأمنية والسياسية التي توحي بحتمية حدوث تطوّرات وشيكة في المنطقة، ولا سيّما تلك المتعلقة بمرحلة ما بعد الحرب على غزة، لا بدّ أن تضع الرياض في نقطة اتخاذ القرار الحاسم، وهي التي لم تترك أهلنا في قطاع غزة يكابدون العناء في الحصول على الأمن ولقمة الحياة، فبعثت بمراسيل الخير والإعانات الغذائية والطبية لعلّها تسهم في تخفيف العناء عنهم، وهم يواجهون آلة القتل والدمار. وتجد نفسها اليوم مدفوعة لاتخاذ القرار المرّ بتطبيع العلاقات مع "إسرائيل" رأفةً بالشعب الفلسطيني وحرصًا على مستقبله السياسي من الضياع والتشتّت، من دون أن تتنازل عن ثوابتها الراسخة بضرورة اعتماد حلّ الدولتين، فيكون لكل من اليهود وللفلسطينيين دولته المستقلّة بعاصمة منقسمة بشرقيّها وغربيّها، لعل الزمن يكفل نزع القيود والحدود بين "الشعبين"...!
اعترفت واشنطن قبل غيرها بالثوابت السعودية، وصرّحت الخارجية الأمريكية بأن المملكة تشترط لإقامة علاقات مع إسرائيل إرساء التهدئة في غزة ثم المضي بمسار حلّ الدولتين، ولا تخالف الرياض بهذا التوجّه مسار القرار الدولي. فالأولوية اليوم هي لوقف الحرب وعودة النازحين إلى منازلهم وتجنيد حملة مكثّفة من إعادة البناء الشامل في القطاع العاصي على التسوية والتطبيع. ومن نافل القول إن ما يُطرح من حلول ومعالجات كانت الرياض قد اقترحتها، في أكثر من محطة وأثارتها مع دول القرار، ولا سيما مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة ديمقراطية كانت أم جمهورية، إلا أن إسرائيل كانت دومًا تمثّل العقبة الأساسية أمام الحلّ. ومن غير المستبعد أن تستمر في عرقلة هذا الحل، اليوم، مع التنازل الكبير الذي تبديه المملكة في مواقفها خدمةّ للسلام، ولعلّ العقدة تكمن في المطالب الإسرائيلية التي تشدّد على ضرورة وجود ضمانات بعدم عسكرة القطاع مستقبلًا، وطمأنة ساكني المستوطنات في غلاف غزة بأنهم سيبقون آمنين، ولا يمكن لأحد توفير هذه الضمانات إلا بشراكة عربية ضامنة لأمن إسرائيل.
في هذا السياق؛ ذكرت مجلة نيويورك تايمز أن بنيامين نتنياهو أعدّ مقترحًا لتقاسم إدارة غزة مع تحالف أمريكي -عربي يضم إلى جانب الولايات المتحدة كلًا من مصر والسعودية والإمارات مقابل صفقة تطبيع مع الرياض. ويتولّى هذا التحالف تعيين قيادة مؤقتة في غزة تعمل، خلال مدة تتراوح بين سبع وعشر سنوات، على إعادة تطوير الأراضي المدمّرة وإصلاح النظام التعليمي والحفاظ على النظام، ومن ثم تنظيم استفتاء يصوّت بموجبه سكان غزة على شكل النظام الذي يختارونه للحكم ضمن إدارة فلسطينية موحّدة -لا تتخذ شكل الدولة- تحكم في منطقتي الضفة الغربية والقطاع.
إن نشوء تحالف عربي – أمريكي – إسرائيلي من شأنه نقل المنطقة إلى طور آخر من المحاور، خصوصًا إذا استجابت واشنطن للمطالب السعودية بالسماح لها الدخول في نادي الدول النووية وتطوير تسليحها ومضاعفة الإسهامات الغربية في مشروع "نيوم" المتعثّر خلافًا للتوقعات والدراسات. بذلك تصبح المملكة في مصاف الدول المتقدّمة وتكرّس نفسها في المنظومة العربية في موقع الأخ الأكبر، ولا تعود دولة تابعة؛ بل متبوعة من أقرانها العرب وغير العرب في المنطقة، وفيها يُبت الأمر في الملفات الشائكة وتُعقد مؤتمرات القرار العربي الموحّد. كما لا تعود تلك الدولة الخائفة المحتاجة للحماية من صديق قريب أو حليف بعيد، خصوصًا مع اقتراب نهاية ما كان يسمّى الصراع العربي – الإسرائيلي، وهذا ما تبني عليه الرياض توجهها للقبول بالتطبيع مع إسرائيل.
لكن، وربطًا بما سبق، يبدو أن دويلة الإمارات تتجه إلى تجاوز المملكة وغيرها من الدول العربية والإسلامية مرة جديدة نحو الفوز بالسباق في مباراة "استثمار ما بعد التطبيع"، وهي التي كان لها قصب السبق في جولة التطبيع الأولى وتتويج علاقتها السرية التي استمرت ربع قرن بحفل علني فتحت بعده حدودها وأراضيها أمام الغزو الإسرائيلي المتعدّد الأبعاد والمجالات. فقد أعلنت "مجموعة الحبتور" الإماراتية عن المراحل الأولى لإطلاق قناة تلفزيونية جديدة في بيروت، تضمّ مدينة إنتاج اعلامي على مساحة 100 ألف متر مربع، وتهدف إلى "إلهام وتحفيز شباب لبنان والعالم، وتشجيعهم على اعتناق الإيجابية وملاحقة أحلامهم بكل ثقة وتفاؤل، وتعزيز الظروف الاقتصادية والاجتماعية لأهلنا في لبنان".
لعلّ من المستغرب اختيار بيروت لهذه الخطوة الجبّارة مع ما فيها من تكاليف باهظة ومخاطر كبيرة، فهي جاءت في واحدة من أخطر المراحل وأكثرها حساسية التي يمر بها لبنان والمنطقة مع استمرار الجبهة المشتعلة على جانبي الحدود اللبنانية – الفلسطينية، فيما تهدّد "إسرائيل" بتوجيه ضربة ساحقة للبنان عقابًا لحزب الله وللحكومة اللبنانية بسبب إقحام البلد في أتون الحرب الدائرة على قطاع غزة. لكن هذا الاستغراب قد يزول إذا كان لدى فرج الحبتور – وهو التاجر الذي لا يبذّر أمواله سدىً - ما ليس لغيره من معلومات عن تحوّلات حاسمة ستطرأ على المنطقة في المرحلة المقبلة بما يمهّد لأرضية خصبة أمام الاستثمار الواسع والتجارة الناجحة، فيسارع إلى إعادة إحياء مشاريعه وزرع بذور مالية جديدة بعد غربة إنتاجية عن بيروت نتيجة الحرب في سوريا وتدهور الوضع الأمني الداخلي في لبنان.
إنّه القرار الصعب الذي يجدر بقيادة المملكة اتخاذه، ولا يمكن التقليل من خطورة الرهان على النتائج، فقد يجرّ هذا القرار المفصلي تداعيات سلبية تترك تأثيرها على أمن المملكة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وقد يدفعها أيضًا إلى التمترس خلف جبهة جديدة تقتضيها مصالح أمريكا في المنطقة إذا ما وجدت عنصرًا يهدّدها. وخطورة الانضمام إلى هذه الجبهة تفوق كل المخاطر الأخرى، فهل تستطيع الرياض تحمّل انتقال جبهة غزة إلى أراضيها أم أنها تتريّث في طموحها لتنسّم قيادة العرب وقيادة قطار التسوية والتطبيع؟