متابعات-
دعت واشنطن، مساء أول من أمس، «الأطراف المتصارعة في السودان» إلى محادثات لوقف إطلاق النار ستعقد في سويسرا، منتصف الشهر المقبل، وذلك بعدما أعلن وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، التزام بلاده العمل مع الشركاء من أجل إنهاء «الحرب الكارثية» هناك. وأتت الدعوة الأميركية متساوقة مع الحَراك الذي شهده الملفّ السوداني، منذ زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، لبورتسودان، ولقائه قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، ثمّ الاتصال الذي تلقّاه هذا الأخير من الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد. يضاف إلى ما تقدَّم، نشاط ديبلوماسي سعودي - مصري (على مسارَين متوازيَين) من أجل استعادة زمام المبادرة في الأزمة، تجلّى أخيراً في زيارة نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، لبورتسودان، وكذلك الزيارة الخاطفة التي قام بها وزير الخارجية السوداني، حسين عوض، للقاهرة. وفي تطوّر لا يقلّ أهمية، عاد السفير الإيراني إلى ممارسة مهامّ عمله في الخرطوم، بعد قطيعة ديبلوماسية بين البلدين استمرّت ثمانية أعوام، فيما تتعزّز توقّعات تعمّق التعاون الإيراني - السوداني في المرحلة المقبلة، في ظلّ إدارة الرئيس المنتخب، مسعود بزشكيان.
محادثات جنيف المرتقبة: ضبط مسار التفاوض؟
بخلاف أغلب الدعوات السابقة، جاءت دعوة واشنطن إلى المحادثات، واضحة لجهة أهدافها: وقف العنف، وإيصال المساعدات الإنسانية، وتطوير آلية رقابة وتحقّق لضمان تطبيق أيّ اتفاق قد يجري التوصّل إليه لاحقاً. وفيما لم تشارك الخارجية السعودية في الإعلان الأميركي، أكد البيان أن المحادثات ستعقد برعاية أميركية - سعودية (وسويسرية)، وبحضور «الاتحاد الأفريقي» ومصر والإمارات والأمم المتحدة بصفة مراقبين. أيضاً، بدت الدعوة الأميركية جادّة، وفق ما كشفت عنه تصريحات عدد من المسؤولين الأميركيين حول أن هدف واشنطن هو «عودة الأطراف إلى طاولة الحوار»، والبناء على مخرجات المحادثات غير المباشرة التي رعتها الأمم المتحدة في جنيف، في تموز الجاري، بين ممثلين عن الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع». كذلك، فإن استبعاد أجندة المحادثات - بحسب بلينكن - القضايا السياسية الشاملة، أو «عودة القيادة المدنية»، أو «استعادة عملية الانتقال الديموقراطي»، يؤكد الحرص المستجد لدى الولايات المتحدة والأطراف الدولية الضالعة في الأزمة، على تحقيق اختراق حقيقي فيها.
وعلى الفور، بادر قائد «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو، إلى الترحيب بالمبادرة «الأميركية - السعودية»، مؤكداً عزمه على المشاركة شخصيّاً في محادثات جنيف، ما يعني تعزيز فرص عقد لقاء بينه وبين البرهان، بينما لم يخرج موقف عن قائد الجيش والقوى الداعمة له، يؤكد قبول الدعوة إلى المحادثات.
تهدف محادثات سويسرا إلى وقف العنف، وإيصال المساعدات الإنسانية، وتطوير آلية رقابة وتحقّق لضمان تطبيق أيّ اتفاق قد يجري التوصّل إليه لاحقاً
تركيا وإيران على خط الأزمة وتداعياتها
بادرت تركيا إلى ضخّ كميات كبيرة من مساعدات الإغاثة الإنسانية إلى سلطات «مجلس السيادة»، كان من آخرها سفينة شحن مقدّمة من «رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية» بحمولة نحو 2.5 ألف طن. واعتبر مراقبون العلاقات الجيدة بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والبرهان، تتويجاً لجهود تركية استمرّت على مدى أكثر من عامين لاستعادة مواطئ قدم لها في السودان، ولا سيما بعد وعود باستثمارات كبيرة ومؤثّرة في جهود إنقاذ الاقتصاد السوداني. أمّا إيران، فقد مثّل استقبال البرهان سفيرها الجديد في الخرطوم، حسن شاه حسيني (22 الجاري)، استئنافاً للعلاقات الديبلوماسية الكاملة بين البلدين، بعد قطيعة قاربت العقد. وإلى جانب ما يحكى عن دعم لوجيستي وعسكري مرّرته طهران إلى الجيش السوداني في الأشهر الأخيرة، فإنه لا يمكن فصل هذا التطوّر عن فتور علاقات السودان مع كلّ من السعودية والإمارات (بمستويات مختلفة)، أخذاً في الاعتبار أن قرار الخرطوم، قبل ثمانية أعوام، قطع علاقاتها مع طهران، جاء لإظهار الدعم للرياض بعد الهجوم على سفارتها في العاصمة الإيرانية (2016)، ولم يكن مرتبطاً في جوهره بخلافات ثنائية. وعلى رغم أن التقارب السوداني - الإيراني لا يزال في بدايته، فإن سيلاً من المخاوف الإسرائيلية والخليجية ظهر سريعاً من تحوّل السودان إلى «منصة» لانطلاق النفوذ الإيراني في أفريقيا، وكذلك استفادة طهران من موقع السودان الاستراتيجي على البحر الأحمر.
السعودية والإمارات: الشرطي الطيب والشرطي الشرير
يبدو أن زيارة نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، لبورتسودان (8 الجاري)، ولقاءه البرهان هناك، قد فشلا في إقناع الأخير بالعودة مباشرة إلى «منبر جدة». كما أن الزيارة في ذاتها عبّرت عن فتور غير مباشر بين الجانبين، كونها الأولى من نوعها لمسؤول سعودي، منذ منتصف نيسان 2023، من دون أن تقودها شخصية من مثل وزير الخارجية، ما يؤشر إمّا إلى تحفّظ سعودي، أو أن الخطوة مجرّد «طرق للأبواب»، وكذلك إلى طبيعة نظرة السعودية إلى الأزمة السودانية، بتجاهل مخاطرها على الدولة وسيادتها لمصلحة الحفاظ على المصالح السعودية المباشرة داخل السودان، واعتباره منطقة نفوذ حصرية.
وعلى خط متقارب، يبدو أن جهود الإمارات «لغسل سمعتها» المتضرّرة من تدخلها في الأزمة السودانية، ودعم «الدعم السريع»، لن تتوقّف عند المحادثة الهاتفية التي بادر إليها ابن زايد مع البرهان (18 الجاري)، وأكد خلالها دعمه للسودان، والتزامه بالتوصّل إلى تسوية للصراع الدائر فيه، وأيضاً التزام أبو ظبي «بدعم جميع الحلول والمبادرات الهادفة إلى تهدئة الصراع وإنهاء الأزمة». وعلى رغم التفاوت النسبي في مقاربتَي السعودية والإمارات، فإن ما يجمع بينهما راهناً، الرغبة في احتواء الأزمة في هذا البلد، وتفادي لجوء الخرطوم إلى خيارات إقليمية مؤلمة لمصالحهما على المدى البعيد.
خلاصة
جدّدت دعوة واشنطن الآمال في إطلاق مسار جدّي لتسوية الأزمة في السودان، عبر التركيز على بند وحيد تقريباً، وهو تخطّي العداءات وتيسير دخول المساعدات. كما أن الدعوة جاءت بعد تحرّك ديبلوماسي نشط من قِبَل أطراف متعدّدة، مثل إثيوبيا والسعودية والإمارات ومصر، وقبل أقلّ من شهر من بدء محادثات غير مباشرة في جنيف بين أطراف الأزمة، ما يحيل إلى تصور أن الدعوة الأميركية (والسعودية) ستكون بداية لمنهج تدريجي لحلّ الأزمة السودانية، يبدو أكثر واقعية بالنظر إلى التجارب السابقة، ولا سيما «منبر جدة»، وربّما يعني عمليّاً تجاوز هذا المنبر بعد نفاد جدواه وواقعيته.