علاقات » عربي

في أزمنة التفاهمات.. لائحة ضيوف ولائحة طعام

في 2015/10/07

د. يوسف الحسن- الخليج الاماراتية-

هذا زمن التسويات والصفقات، وفي مثل هذه الأزمنة، كل شيء ممكن.. دول كبرى تستدير سياسياً على إيقاع التسويات، والتي في مناخاتها تشتعل بؤر النار فجأة، (روسيا في سوريا تضرب بالنار)، وفي ظلال هذه الصفقات، تتغير تحالفات.

أزمات عربية عديدة، وفّرت لدول إقليمية وكونية فرصة اللعب على مسارحنا العربية، حضرت إيران مبكراً إلى المسرح من بوابة العراق، ووفرت الأزمة السورية لتركيا ولمقاتلين جوّالين عبور الشام، ووفرت لروسيا أيضاً فرصة العودة بقوة إلى المسرح الإقليمي العربي.

في الأزمات الممتدة، كالسباقات الطويلة، لابد من تبديل الأحصنة، ولغة الخطاب أو بعض مفرداته، ولابد أيضاً من دفع أثمانٍ كبرى، أو حتى التقاعد مع أحلام وطموحات كانت عالية ذات يوم، وبما يضمن الخروج بأقل الخسائر.

في الأزمة السورية أَكَثر بعض العرب من الرهونات قصيرة الأجل، وبدت الجامعة العربية في فترة ما، الأكثر نزقاً واستعجالاً، لم تفكر بابتكار حلول وتسويات، تكون بديلاً عن العنف، لم تقرأ جيداً خريطة الشام أو خرائط القوى الإقليمية و«اللادولاتية» المشتعلة شهوتها للنفوذ والسيطرة، ولم تفهم خرائط النار، وبؤرها خارج حدود الشام، ولا حسبت إمكانية التحولات المفاجئة، وتبدل الأدوار والأوزان وتداخل الخرائط.

بعضنا فضّل الانتظار، وكان ثمنه باهظاً، وحمل معه مخاطر، كان صعباً تكهنها، وبعضنا الآخر ظن أن تعطيل الحلول السلمية، وزيادة عسكرة الأزمات، والوصول إلى توازنات في القوة والأدوات، سيجلب المتصارعين إلى طاولة التفاوض، ولم يدرك هذا البعض، أن المتصارعين لم يتعبوا بعد، وأن هناك مدداً لا ينقطع، وهناك من يصب الزيت في النار.

لافتات «الموت لأمريكا»، أحالتها إيران إلى التقاعد، وعبرت إيران مع أمريكا، إلى «طريق حرير» التسويات والصفقات، وموقع الشريك الأكبر للشيطان الذي كان «الأكبر».

كان الرهان العربي، وبتطمينات أمريكية أو بشهادة تأمين غربية، أن إيران ستتقاعد أحلامها وبرامجها، وستحترم هواجس جيرانها، وإن ظلت قوة إقليمية كبرى، أو القوة الإقليمية الكبرى، بعد «خراب البصرة» و«تدمر»، وانكماش مصر على تداعيات «الخرابة» التي أورثها مبارك. والخرابة مصطلح صكه الرئيس الأسبق مبارك، حينما أعلن في آخر أيامه أنه لن يُورّث ولده جمال بلداً هو «خرابة» (لم يسأله أحد: من خرّب مصر يا ريّس؟).

انعطافات جذرية تحدث الآن في الملف السوري:

مسألة اللاجئين تضغط بقوة على العصب الأوروبي، دخول روسيا الحرب في سوريا بشكل مباشر وصريح ومؤثر، لصالح النظام ومؤسسات الدولة السورية، وبدعم صيني - أمريكي لاتيني - إيراني، وبالتالي عراقي، مع انكفاء أمريكي، ودور أوروبي خجول، ودواعش متوحشة، تتمدد في أكثر من مكان، وصولاً إلى حدود التماس ما بين إيران وأفغانستان، وعلى الحدود المتاخمة لروسيا مع جمهوريات آسيا الوسطى، فضلاً عن نشوء توازن قطبي دولي، بدأ يتشكل في هذه المرحلة.

وفي الوقت نفسه، تبدو الآن المعارضة السورية، هشة في مكوناتها، وضعيفة في خبرتها ومؤسساتها، وتستمد مرجعيتها من خارج وطنها السوري، حتى أصبح كامل ملف الأزمة بيد فاعلين خارجيين. لم تنجح المعارضة السورية، في نموذجها الإصلاحي السلمي الديمقراطي، بتقديم ذاتها، كنموذج أفضل في مواجهة النظام التسلطي، بل أخذت سوريا نحو المذهبية والطائفية، وبخاصة مع سيطرة قوى إسلاموية متطرفة وعنيفة على خطاب المعارضة وحركتها على الأرض.

ازدادت أعداد اللاعبين في الأزمة السورية، وتضاربت الأجندات، وظل أصحاب النوايا الطيبة من المعارضة، يدورون في حلقة مفرغة، لا يسمعون فيها سوى أصواتهم وهم يلومون العالم.

اليوم.. هناك تفاهمات روسية - أمريكية، وهناك قواسم مشتركة، ومواقع اختلاف، وإلى حد كبير هناك تفهم إقليمي، بشأن «الحفاظ على المؤسسات المدنية والعسكرية في سوريا، كي لا يعم الانهيار والفوضى».

سوريا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ساحة صراعات تبحث عن تسويات، وتصفية حسابات، وإيران وروسيا يتحكمان بمفاصل النظام السوري، رغم وجود النظام الدولي في الأجواء السورية، ومن السذاجة ترديد القول إن روسيا ستغرق في المستنقع السوري، لا المكان هو المكان، ولا «الجهاد الأفغاني» هو «الجهاد» المتوحش والمطارد عربياً ودولياً الآن، ولا المزاج العربي الشعبي الراهن، هو المزاج القديم، والذي كان مغيباً أو مسحوراً أو ممسوكاً رسمياً.

نعم.. هناك استعادة لمناخات حرب باردة جديدة، لكنها في هذه الأزمنة، حرب باردة «منضبطة» إلى حد كبير، اللاعبون مختلفون عن أسلافهم، والخطر الإرهابي يطارد الجميع، في الداخل وعبر الحدود، وكوابيس الليل لا ترحم أحداً.

أسئلة صعبة تُطرح هذه الأيام على مجموعة «عصب» منظومة مجلس التعاون الخليجي، أسئلة في التوازنات الحساسة، والهواجس المستجدة، والصفقات الصغرى والكبرى الجارية، أسئلة اقتتال أهلي، وقتال بالوكالة في أكثر من مكان، وتقاتل قوى فاعلة على الأرض في سوريا باسم الدين، تسعى إلى إقامة دولة إسلامية (خلافة أو مذهبية) تتجاوز في حدودها سوريا نفسها، وقوى أخرى غير فاعلة، مدنية التوجه، لكنها ضعيفة وهشة، وأضعف من أن تفرض شروطها.

أسئلة صعبة للغاية، وفي مناخ ليس فيه الكثير من الخيارات الجيدة، فيما أصبحت الأزمة السورية، إحدى أكثر ساحات النزاعات العنيفة تدميراً في التاريخ الحديث. وأكثر ما يخشاه أصحاب «رؤى زرقاء اليمامة»، أن تنتهي الأزمة السورية إلى نموذج «الصوملة»، إذا لم تسارع قوى ما تبقى من شبكة الأمان العربية إلى استدراك الأمر، بعد أن «فلّ» الغرب، وحضر الدب مع الحاوي صانع السجاد، ملك «البازار».

أمام مجموعة «عصب» منظومة مجلس التعاون، امتحان صعب في الساحة اليمنية، وهي الفناء الخلفي للبيت الخليجي، ويلعب فيها الإيراني مع الحوثي وصالح، لعبة الاستنزاف والالتفاف.. والمعركة في هذه الساحة خليجياً، أكثر أهمية واستراتيجية من لعبة الأمم على سوريا، الحرب في اليمن، حتى الآن، عناصرها محددة، وقواعد الاشتباك فيها معروفة، ويمكن ضبط حدود الاقتتال فيها، وفتح أبواب للتسويات ليس عصياً، والتأثير الإيراني في مستقبل هذه الساحة، ضعيف، وغير قابل للحياة، إذا ما أحسنّا التعامل مع يمن جديد معافى من الفقر والفساد والتخلف، وأعدنا بناء جيش وطني ولاؤه الأول والأخير لليمن، لا لقبيلة أو شيخ قبيلة أو لزعيم أو لرئيس.. إلخ.

أسئلة سوريا الصعبة، المطروحة الآن على مجموعة «عصب» منظومة مجلس التعاون، المنخرط بعضها في الأزمة السورية، تتطلب التفكير في إمكانية إعادة النظر في حساباتها، وفي تغيير قواعد اشتباكها مع هذه الأزمة، بعد أن اندفعت روسيا لاستغلال الفراغ الذي ولّده الانكفاء الأمريكي والعجز العربي والأممي.

أسئلة سوريا الصعبة، تتطلب التفكير في إعادة رسم خطوط هذه الأزمة ومآلاتها، بما يجمد الصراع أو يوقف النزيف والفوضى العارمة، ويعلي من شأن الخيارات السورية الوطنية، ويسمح بإدخال المساعدات الإنسانية ضمن سياقات تسمح ببدء مرحلة انتقالية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تجمع مكونات المجتمع السوري، وفي ظل دور جماعي لمجلس الأمن.

أسئلة سوريا الصعبة، تتطلب التقدم باتجاه التفاهمات الأمريكية - الروسية، والمشاركة في صياغة التصورات التفصيلية للمرحلة الانتقالية، وعدم تجاهل تلك الإشارات التي تصدر من عدد من عواصم العالم.

مطلوب للاستدراك، مقاربة سياسية مغايرة للأزمة السورية، وتفكيك وفهم معضلة جديدة، وهي: «هل يقبل الروس، أن تظل سوريا في الحضن الإيراني في المستقبل؟»، وهل من فائدة من الوقوف في وجه تشكل توازن قطبي عالمي؟

التفاهم الأمريكي (الغربي) مع الروس، وقبله مع إيران، يتجه نحو السيطرة على النزاعات في المنطقة، لكنه بالقطع، لن يلغيها.. والمهم هو أن نظل كعرب على لائحة ضيوف هذا التفاهم، بدلاً من أن نكون على لائحة طعامه!! ليس مطلوباً التهليل لهذه التفاهمات، لكن المطلوب، التوقف عن الرهانات قصيرة الأجل. في سوريا.. أولاً وآخر.. الخاسر الأكبر هو الشعب السوري والوطن السوري.. والمستقبل السوري.