الخليج الجديد-
من الواضح أن التدخل العسكري الروسي، بالحجم والكيفية التي حدث بها، قد امتلك عنصر المفاجأة، ومن الواضح أيضا أن بيئة الأزمة السورية على درجة كبيرة من السيولة (حالة التبدل والتغير في معطياتها) أمنيا وسياسيا، وهي لم تتخذ بعد صورة الثبات والتشكل النهائي.
قاد التدخل العسكري الروسي إلى أمرين أساسيين: الأول، إعادة توزيع القوة على الأرض. والثاني، تأكيد مبدأ السيطرة الجوية. كان الأول نتاجا للثاني، وفيه استعاد الجيش السوري مناطق وبلدات كانت تحت سيطرة المعارضة المسلحة، وبعضها كان خاضعا لهذه المعارضة منذ أكثر من عامين.
تركزت المعارك البرية في سهل الغاب، وريف حماة عامة، وكذلك ريف اللاذقية الشمالي، على الرغم من أن المعركة الرئيسية قد تتجه إلى مكان آخر. إن المناطق التي دارت فيها المعارك تمثل خاصرة رخوة للساحل السوري، حيث البحر المتوسط. ومن هنا، بدت أهميتها بالمعيارين التكتيكي والإستراتيجي.
إن إعادة توزيع القوة، أو إعادة انتشارها، لم يدفع حتى الآن باتجاه إعادة تشكيل مسرح العمليات، (أو إعادة رسم صورته العامة أو الكلية) على مستوى الجغرافيا السورية، لكنه وضع اللبنات الأولية لإعادة التشكيل هذه. ولعل هذا هو المغزى في كل ما حدث.
وبالانتقال إلى مبدأ السيطرة الجوية يُمكن الإشارة بداية إلى أننا بصدد مفهوم حديث نسبيا في دراسات الدفاع، وهو يرتكز على المقاربة التي قدمها جون واردين، في كتابه (The Air Campaign Planning for Combat)، الصادر عام 1988، وهو كتاب مرجعي بالغ الأهمية.
لقد قالت هذه المقاربة باعتماد سلاح الجو كأساس لضرب مركز ثقل العدو، الأمر الذي يُمكن من ضرب الأهداف الأخرى بسهولة، وبذلك لا تكون هناك حاجة لاستخدام القوات البرية بداية، وعادة ما يكون استخدامها في هذه الحالات تاليا على نجاح العمليات الجوية.
وقد استندت القوات الأميركية إلى هذا المفهوم في حروبها الخمس الأخيرة، في كل من الخليج (حرب الخليج الثانية) والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان والعراق.
لقد دامت الهجمات الأميركية على العراق خلال حرب الخليج الثانية 43 يوما، تبعتها أربعة أيام فقط من العمليات الأرضية. وفي البوسنة شمل القصف ثلاثمئة هدف تمت إصابتها، مقابل خسارة طائرتين، بعدما تكفل الحلفاء بالعمليات على الأرض. وفي كوسوفو دامت الحرب 78 يوما، ولم تعترف وزارة الدفاع الاميركية إلا بخسارة طائرة "إف 117" ونحو 15 طائرة بلا طيار.
وأيا يكن الأمر، فإن مفهوم السيطرة الجوية يجري تطبيقه الآن في سوريا من قبل ثنائي القوات الروسية (جوا) والسورية (برا)، وقد أضحت السيطرة الجوية سمة الحرب الدائرة في الكثير من المناطق السورية، وهذا -على وجه التحديد- هو المتغير الأهم في مسار هذه الحرب.
وإذا كان الروس قد استندوا في حملتهم الجوية إلى أجيال مختلفة من مقاتلات سوخوي (SU)، فإنهم عمدوا -في الوقت ذاته- إلى استخدام كثيف للمروحيات الهجومية، وهذا يعني -من المنظور العسكري- أنهم اقتربوا فعليا ممن ممارسة دور قتالي أرضي، أو لنقل إن حملتهم تسير بتناغم تام مع تحرك أرضي للقوات المؤازرة، وهي هنا الجيش السوري، والقوى المؤتلفة معه.
كما يعني ذلك أيضا أن القوتين الروسية والسورية الرسمية تعملان (في مناطق معينة) وفق منظومة سيطرة واتصال واحدة، وهذا أمر له مغزاه ومدلوله العسكري والسياسي، وهو يشير -ضمن أمور أخرى- إلى أن العلاقات الروسية السورية قد دخلت طورا جديدا، أو لنقل منعطفا تاريخيا في مسارها، وبلغت مدى لم تبلغه في أي وقت من الأوقات.
وإذا كانت النتائج الفعلية للحملة الروسية الواسعة في سوريا يصعب قياسها الآن، بل وحتى حصرها الدقيق، فإن بعض هذه النتائج تجلت في تشتيت قوى متمكنة على الأرض في أرياف حماة وحلب واللاذقية.
وفي سياق التطورات المتسارعة ميدانيا، تفيد المؤشرات بأن الروس ربما استخدموا في حملتهم الجوية قنابل خارقة للتحصينات لتدمير بعض الأنفاق الواقعة في أعماق متقدمة نسبيا من الأرض، كما حدث في سهل الغاب.
على الصعيد السياسي، لا يبدو الأمر أقل تشابكا، من حيث العناصر والمعطيات. إن الحملة الجوية الروسية هي تسييل أمني لتحالف سياسي، جرى توطيده في إطار ثلاثي سوري روسي إيراني، التحق به العراق، أو أكد التحاقه به مجددا.
هذا المسار دفع أيضا باتجاه تعميق الروابط الروسية الإيرانية، ومنحها بُعدا جديدا كانت تبحث عنه. وفي الوقت ذاته، بدا العراق وقد وجد نفسه في مناخ جديد من التحالفات لم يعهده من قبل.
في هذا المناخ، اقتربت بغداد من موسكو، وأضافت تأطيرا جديدا لتحالفها بطهران، ومدت جناحا لدمشق يحمل مغزى تاريخيا وبُعدا جيوسياسيا. وفي غضون ذلك كله، لم يخرج العراقيون عن منطوق علاقتهم الإستراتيجية بالولايات المتحدة.
وبالنسبة للروس، إذا قُدر للمسار الراهن أن يتقدم خطوة أخرى، ومُدت العمليات العسكرية الروسية إلى العراق، فسيكون ذلك تحولا تاريخيا في البيئة الجيوسياسية للشرق الأوسط، كما سيعيد هذا التطور تعريف البيئة الأمنية للخليج العربي، ويقدم قراءة جديدة لخيارات العراق الخارجية.
في هذه الأثناء، بدت الولايات المتحدة شديدة الاهتمام بالتطورات الجارية، إلا أن خياراتها ظلت مقيدة؛ فهي لا تستطيع -وفقا لمنطق الأشياء- أن ترفض كليا الحملة الجوية الروسية في سوريا (أو العراق)، لكونها تستند -ولو نظريا- إلى المبررات ذاتها التي انطلقت بموجبها الحملة الأميركية في الأجواء السورية والعراقية.
في المقابل، يدرك الأميركيون مدى التباينات القائمة مع الروس على مستوى المقاربة الكلية للأزمة السورية، ويدركون جيدا -في الوقت ذاته- ماهية المغزى السياسي الذي يُمثله تدخلا روسيا محتملا في العراق.
وعليه، نأت الولايات المتحدة بنفسها عن التعاون مع روسيا في حملتها الجوية في سوريا، واكتفت بالحديث عن ضرورة التنسيق بين القادة العسكريين لمنع أي احتكاك بين الطيران الأميركي ونظيره الروسي في الأجواء السورية.
وبالنسبة للاحتمالات الخاصة بالعراق، بدا التحفظ الأميركي هو الأصل، لكنه ظل دبلوماسيا.
وبين الحملة الروسية في سوريا، واحتمالات مدها نحو سماء العراق، ثمة انفتاح أميركي جديد، أو لنقل هناك مستوى جديد من هذا الانفتاح، على صعيد المقاربات السياسية الخاصة بالأزمة السورية. وهذا متغير آخر في البيئة الدولية لهذه الأزمة، ومتغير أولي ذو صلة بفضاء السياسة الخارجية الأميركية ذاتها.
وما يُمكن قوله خلاصة -في سياق هذا الإيجاز- هو أننا اليوم بصدد معادلة إقليمية أعيد تعريفها، بدت فيها الكثير من قضايا المنطقة متوقفة كثيرا على مستقبل الحدث السوري واتجاهاته، وبدت مقاربات التسوية السياسية في هذ اللحظة المصيرية وقد استعادت زخمها، ولعل فرص النجاح متاحة اليوم أكثر من أي وقت مضى. وهذه خلاصة تاريخية.