د. محمد عبدالله العوين-
قبل عام 1973م الموافق 1393هـ لم يكن لدينا في السعودية من يتهم آخر مشاركا له في الدين بالتكفير أو الخروج من الإسلام، ولم يكن المجتمع السعودي - آنذاك - يتوقف عند مفهوم « الطائفية « أو يشعر بمشاعر الكراهية والرفض والعداء لغير المسلمين الذين كانوا يعملون في بلادنا ويشاركوننا مشروعات النهضة في مجالات التعليم والطب والتصنيع والبترول وغيرها، كان الشباب السعودي في تلك المرحلة أي قبل حرب رمضان أكتوبر 1973م مقبلا على الانخراط في التعلم والتثقف والاطلاع سواء في الداخل أو في الفرص التي لم تكن واسعة في تلك السنين للابتعاث إلى الخارج، ولم يكن يلحظ على الشعب السعودي بعامة أي توجه نحو العزلة أو عداء الآخر المختلف؛ سوى ما تمر به المجتمعات النامية عادة من الممانعة القلقة عند بعض المتقدمين في السن من الجديد كتعليم البنات أو التلفزيون ونحوهما؛ وليس ذلك رفضا لذات الرفض، ولكن تخوفا مما يحمله من القيم والمفهومات الجديدة التي يألفها؛ أي أن الرفض منبعث من عدم التعود والألفة، لا من منطلق فكري مؤسس على قيم مصادمة تعادي الحضارة، وهو الشأن نفسه الذي مرت به المجتمعات العربية كلها في مصر وغير مصر.
بل كانت أجيال الشباب متطلعة إلى التغيير والانتقال بالبلاد إلى مرحلة متقدمة من النهضة تعوض سنين طويلة من الانغلاق مرت على الجزيرة العربية قبل إعادة توحيدها على يد المؤسس المغفور له الملك عبد العزيز، ويلحظ الإلحاح على الدعوة إلى النهوض واللحاق بالمدنية الحديثة في أدب الجيل الأول من أدباء الحجاز، وعلى الأخص فيما نشرته صحيفة « صوت الحجاز « التي صدرت عام 1350هـ الموافق 1930م.
ولم يكن الاتجاه السلفي عائقا أمام حركة التمدين في المجتمع السعودي؛ سوى ما يدور من تساؤلات معتادة في كل مجتمع مع جدة وحداثة الأشياء، وكانت أجيال الشباب توائم بين الموروث السلفي والجديد من المعارف دون حدوث شرخ واضح بين الاتجاهين؛ ولكن بعد أن قررت قيادة المملكة في عهد الملك فيصل - رحمه الله - إيواء المضطهدين والمطاردين من جماعة الإخوان الذين سامهم النظام الناصري سوء العذاب وأعدم عشرات منهم وحكم بالسجن والتعذيب على آلاف منهم أواخر الستينيات الميلادية من القرن الماضي بدأت مظاهر التغيير في اتجاهات الجيل السعودي الأول الذي تعلم على أيدي المهجرين من جماعة الإخوان، ثم بدأت مظاهر التغيير الفكري تتضح بصورة أكبر في الجيل الثاني مطلع القرن الهجري الخامس عشر، ثم أخذت تتحول من فكر ثوري مبطن إلى تنظيم حزبي وعمل حربي تخريبي على أيدي الجيل الثالث الذي ينتمي إليهم التلميذ البار لفكر سيد قطب أسامة بن لادن.
إن تهمة « التكفير « التي يروج لها هذا الدعي « إبراهيم عيسى « مردودة عليه، وإننا إذا كنا نعاتب ونحاسب؛ فإننا لا زلنا نحمل في نفوسنا - كما عبر عن ذلك وزير الداخلية السابق الأمير نايف بن عبد العزيز رحمه الله - عتبا مبرحا على خيانة رموز جماعة الإخوان قيم الضيافة التي أكرمتهم بها السعودية، فبعد أن آوتهم وحمتهم ووظفتهم لم يردوا الجميل بمثله؛ بل اشتغلوا على تأسيس ما عجزوا عنه في مصر، أو أرادوا أن يكملوا ما بدؤوه في بلادهم من تنشئة جيل إخواني رافض متمرد يقلب الحياة رأسا على عقب.
يأتي هذا التحالف الإسلامي العسكري الذي تقوده المملكة لمعالجة الآثام التي زرعتها جماعة الإخوان لا في مصر ولا في السعودية وحدهما؛ بل في كل أنحاء العالم، وأرادت تلبيسا واستقطابا لأتباع جدد أن تخدع وتموه فكرها فأضفت عليه رؤى سلفية كما هي السرورية وكما هو فكر داعش الإرهابي.
وحينما تخرج هذه الزعانف الجاهلة وتتخبط بين جدران التاريخ الفكري بغباء ثم تنعق بما لا تفقه؛ فإن أحدا من أبناء مصر العريقة تأريخا وحضارة لن يلقي بالا لذلك النقيق المحتقن.
مصر العظيمة بأزهرها وعروبتها ومبدعيها الكبار في كل مجال أرقى من أن تسيرها شتائم الموتورين وأضغاث أحلام المأزومين.