فتحي التريكي- الخليج الجديد-
حينما قام «محمد بوعزيزي» بإحراق نفسه في 17 ديسمبر/كانون أول لعام 2010، لم تكن المملكة العربية السعودية، أو ربما أي أحد آخر في العالم، تتوقع أن يبلغ ردة الفعل إلى شواطئ الخليج. سرعان ما بدأت الأنظمة العربية في التداعي تباعا أشبه بأحجار الدومينو، بداية من نظام «زين العابدين بن علي» في تونس ثم نظام «حسني مبارك» في مصر.
لم تستسلم المملكة لسكرتها طويلا، وسرعان ما اتخذت قرارها. وكان القرار هو الوقوف في وجه هذه الموجة بعد أن قررت المملكة العربية السعودية، وسائر الممالك العربية الخليجية باستثناء قطر ربما، أن هذا الحراك يشكل خطرا محدقا على مصالحها، بل إنه يمثل خطرا وجوديا على أنظمة الحكم الخليجية. وقد عززت جملة من المخاوف هذا الموقف السعودي بشكل كبير. أول هذه المخاوف هو خشية امتداد رياح التغيير العاتية إلى شواطئها، خاصة بعد أن ألقت الولايات المتحدة بذور الشك داخل الأنظمة الحليفة لها في المنطقة في أعقاب تخليها عن «حسني مبارك». وسرعان ما عززت التطورات في بلدان الربيع العربي هذه المخاوف بعد أن شهدت صعودا جماعيا لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة، مع زيادة المخاوف من أن تنتقل عدوى الربيع العربي إلى تيارات الإسلام السياسي الخليجية ما يدفعها للمطالبة باستحقاقات مماثلة.
ولم يلبث الربيع العربي طويلا حتى ألقت الطائفية بظلالها عليه خاصة بعد أن اندلعت الثورة في سوريا وسارعت إيران إلى إلقاء ثقلها خلف الرئيس السوري «بشار الأسد»، وردت السعودية بالتدخل لدعم جماعات المعارضة. كما اكتست صبغة التحركات داخل الدول الخليجية، السعودية والبحرين على وجه الأدق، بصبغة طائفية، حيث قادت المعارضة الشيعية تحركات الأغلبية الشيعية في البحرين في مواجهة العائلة المالكة السنية، بينما تركزت الاحتجاجات في المملكة العربية السعودية في المنطقة السنية حيث تتركز أغلبية شيعية فوق الأراضي الغنية بالنفط.
مواجهة الربيع العربي
في أعقاب سقوط «حسني مبارك» اتخذت المملكة قرارا استراتيجيا بخوض الحرب ضد الربيع العربي وموجة المطالبة بالديمقراطية في المنطقة. كانت مصر تمثل شبحا لم يلبث يسيطر على العقلية السعودية. كان «حسني مبارك» يتمتع بعلاقة شخصية مع العاهل السعودي الراحل الملك «عبد الله بن عبد العزيز»، كما تشترك السعودية مع مصر في أن كلا البلدين تحمل تكتلا شبابيا كبيرا وكلاهما تحوي مؤسسة دينية قوية حليفة للدولة بشكل كبير (وإن كان هذا التحالف أكثر وضوحا ورسمية في السعودية). كما أن كلا البلدين تمتعتا بمظلة أمنية أمريكية، رغبة في تأمين مصادر الطاقة في الحالة السعودية، ورغبة في تأمين طرق التجارة وضمان أمن (إسرائيل) في الحالة المصرية. ورغم أن هناك خلافات جوهرية بين النظام السياسي في مصر والمملكة العربية السعودية إلا أن النظامين يتشابهان في كونهما يداران بأكبر قدر ممكن من البيروقراطية وأقل قدر من الشفافية، كما أن مصر الجمهورية، كسائر الجمهوريات العربية، كانت في طريقها نحو التحول إلى أشبه ما يكون بـ« جمهورية ملكية» في إطار مساعي مبارك لتوريث السلطة إلى نجله «جمال مبارك»، وهي ملمح مشترك في أغلب دول الربيع العربي وعلى رأسها ليبيا واليمن، ومن قبلهما سوريا التي ورث فيها «بشار الأسد» السلطة عن أبيه، «حافظ الأسد»، في عام 2000 بعد استفتاء صوريز
لكن على عكس مصر، كانت المملكة العربية السعودية تمتلك ما يكفي من الوفرة المالية لتسكين الجذور الاجتماعية للمطالبات الديمقراطية. كانت المملكة على استعداد أن تتعامل بأكبر قدر ممكن من السخاء المالي قبل أن يتم تحويل المطالب الاجتماعية في البلاد إلى حراك ديمقراطي. وقد أنفق العاهل السعودي الراحل الملك «عبد الله» قرابة 130 مليار دولار (من الاحتياطي النقدي الذي كان يبلغ وقتها 450 مليار دولار) على النفقات الاجتماعية التي شملت زيادة الأجور في القطاع العام، وصرف رواتب شهرين كاملين لكل العاملين في الدولة من مدنيين وعسكريين إضافة إلى شهرين لجميع طلاب وطالبات التعليم الحكومي. كما تم اعتماد صرف مخصصات بطالة للعاطلين عن العمل. إضافة إلى ذلك فقد تم استحداث 70 ألف وظيفة جديدة في وزارة الداخلية وإنشاء نصف مليون وحدة سكنية، سوى رفع الحد الأقصى للقروض السكنية إلى 133 ألف دولار.ساهمت هذه الإجراءات بشكل كبير في تسكين الموجة الاحتجاجية، كما أسهمت قلة المظالم السياسية في البلاد (باستثناء الإسلاميين الجهاديين ربما)، بسبب عدو وجود حراك سياسي حقيقي خلال الأعوام الماضية، في تقليص حجم المظالم السياسية التي كانت أحد أبرز دوافع حراك الربيع العربي.
ولكن فيما يبدو فإن السعودية لم تقنع بذلك، وقد دفعتها المخاوف إلى التحرك لمواجهة خارج حدودها. كانت البداية في البحرين التي تبعد 25 كم عن الحدود السعودية، حيث شهدت البلاد احتجاجات عارمة اعتبرها البعض الأكثر كثافة ضمن دول الربيع العربي مقارنة بعدد السكان المحدود في البلاد. كان الرد السعودي حاسما، حيث قررت التدخل مباشرة لدعم العائلة المالكة السنية تحت مظلة قوات درع الجزيرة. وفي اليمن، سارعت المملكة إلى محاولة احتواء الربيع اليمني عبر اتفاق سياسي أطاح بالرئيس «علي عبد الله صالح» لصالح نائبه «عبد ربه منصور هادي» مع مشاركة محدودة في السلطة لقوى الربيع العربي. وفي سوريا، وعلى عكس مع قد تظهره التطورات الأكثر تأخرا، فقد بدت السعودية متحفظة أيضا كجزء من امتدادا سياستها المتحفظة ضد الاحتجاجات بوجه عام، حيث اكتفى الملك «عبد الله» بدعوة الرئيس السوري إلى تقديم حل سياسي لإيقاف الاحتجاجات. ولكن التدخل الإيراني شديد الانكشاف لدعم الرئيس السوري «بشار الأسد» قد أسهم في تحول موقف السعودية بشكل كبير.
الحرب ضد الإسلام السياسي
يبدو أن نتائج الجهود السعودية لاحتواء الربيع العربي لم تكن مطمئنة بما فيه الكفاية، وبخاصة في الوقت الذي المملكة فيه واقعة تحت نفوذ تيار معادي لقوى الإسلام السياسي التي شهدت ربيعها هي الأخرى خلال عام 2012. غالبا ما كان الإسلام السياسي يخضع لحصار فكري وأيدولوجي من قبل المؤسسة الدينية التقليدية التي طورت أدبيات صارمة في ذم الأحزاب والنظر إلى المشاركة السياسية بوصفها خروجا على ولي الأمر، وهو ما جعل أفكار هذا التيار محدودة التأثير بشكل كبير في البيئة الداخلية، خاصة في ظل وجود ذراع أمني قومي جاهز للتدخل إذا لزم الأمر. ويخضع الإسلام السياسي داخل المملكة لرقابة صارمة منذ حرب الغزو العراقي للكويت بسبب معارضته لدخول القوات الأمريكية إلى الأراضي السعودية لمواجهة العراق.
واستباقا لانتقال المعركة إلى داخل حدودها، قررت المملكة أن تخوض الحرب ضد الربيع العربي في عقر داره. دعمت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الانقلاب العسكري في مصر للإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين من السلطة منتصف عام 2013، كما قدمت الدعم للقوى العلمانية في تونس وليبيا، وشددت الحصار على حزب التجمع اليمني للإصلاح، حليفها التقليدي في اليمن، بسبب ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين، وقد أشارت بعض التقارير إلى تقديمها الدعم لحركة الحوثي التي خاضت ضدها حربا في عام 2009. آتت الحرب الإقليمية ضد الإسلام السياسي أكلها سريعا، ورعان ما تهاوت هذه القوى واحدة تلو الأخرى أيضا بشكل سريع ومفاجئ كما كان صعودها سريعا ومفاجئا، ولكن كعادة السياسة، فإن مخرجات هذه الحرب الإقليمية أيضا لم تأت على هوى السعودية.
التمكين لإيران
ربما لم تكن المملكة العربية السعودية تعي بوضوح أنه في خضم حربها ضد الإسلام السياسي فإنها كانت تسلم زمام الأمور في المنطقة يدا بيد إلى طهران. يعتمد جزء كبير من رأسمال المملكة الرمزي في المنطقة، وفق تعبير عالم الاجتماع الفرنسي الشهير «بيير بوردو»، على مطالبتها بالزعامة السنية. في الوقت الذي كانت فيه المملكة تحمل سيف عنترة لتضرب به التيارات الإسلامية في المنطقة من شرقها إلى غربها، فإنها كانت تحطم هذا الرأسمال الرمزي دون أن تدري.
وفي الوقت الذي كانت فيه طهران تعزز صورتها بوصفها راعية للمسلمين الشيعة، كانت المملكة تخوض حربا داخل الجسم السني بدوافع سياسية وأيدولوجية وتاريخية. قررت المملكة دون وعي أن تخوض المعركة السياسية والطائفية معا. ففي الوقت الذي كانت فيه تحارب ضد قوى الديمقراطية والثورات فإنها كانت تضعف القوى المكافئة لنفوذ إيران. أضعفت السعودية حزب الإصلاح في اليمن لصالح حركة الحوثي، وتأخرت في دعم المعارضة السورية خوفا من زيادة نفوذ الإخوان المسلمين، وتوترت علاقتها مع كل من قطر وتركيا، أبرز الفاعلين السنة في المنطقة، بسبب دعمهم للربيع العربي.
خاضت السعودية الحرب ضد ثنائية الحرية/الاستبداد التي رفعتها قوى الربيع العربي لتجد في مقابلها ثنائية السنة والشيعة، وهي ثنائية اعتادت المملكة على التعامل معها بشكل كبير في ظل تمتعها باستحقاق ريادي ديني في العالم السني. ولكن ما لم تعه المملكة ربما أنها قد قامت بنفسها بتدمير جزء كبير من هذا الاستحقاق، ولعبت دورا في إضعاف حلفائها المحتملين في هذه المواجهة الجديدة. عادت المملكة لتنزع يدها من تونس وليبيا وتخطب ود حركة الإصلاح في اليمن وحركة حماس في غزة، وتخفف لهجتها ضد جماعة الإخوان في مصر، وتسعى للتحالف مع قطر وتركيا. تحاول السعودية قيادة العالم السني في وقت دمرت فيه جزء كبير من مقدراتها القيادية، وفي وقت تقف فيه في وضع لا تحسد عليه في ساحة المعارك الإقليمية الأبرز سواء في اليمن أو في سوريا.
ويبدو أن الرياح لا تأت أيضا بما تشتهي سفن السعودية. الأوضاع في المنطقة الآن لا تشبه بحال عام 2011. لا تتمتع المملكة بذات الرفاهية المالية التي تسمح لها بتأمين جبهتها عن المطالبات الداخلية في الوقت الذي تخو فيه حروب خارجية مكلفة في اليمن، وربما قريبا في سوريا. في الوقت الذي تتعرض فيه جدارتها الدينية لأكبر قدر من الانتقادات في تاريخها، وتتعرض المؤسسة الدينية الرسمية لأكبر قدر من التشكيك في الداخل والخارج. كما أنها لم تعد تحظ بذات الدعم الأمريكي مقارنة بعام 2011، وتواجه حملة غير مسبوقة ضد سياستها في الإعلام الغربي. كما أن خصومها في طهران يعيشون فترة ازدهار سياسي غير مسبوقة في ظل تمتعهم بحلف قوي مع أحد القوى العالمية، روسيا، وفي ظل رئيس في البيت الأبيض يعتبر توقيع الاتفاق مع طهران إنجازه السياسي الوحيد وهو يبدو على استعداد لتقديم ما يكفي من التنازلات للحفاظ عليه. الحلفاء المحتملون كذلك لم يعودوا ذا القوة: تركيا تعاني مشكلات كبيرة هي الأخرى مقارنة بعام 2011، كما تم تحجيم الجموح القطري بشكل كبير. والخلاصة أن السعودية ربما تكون تواجه في الوقت الراهن التحدي الأكبر في تاريخها، وللمفارقة، فإن جل ما تواجهه المملكة الآن، بشكل أو بآخر، يعد مما صنعته أيديها.