علاقات » عربي

المغامرة الخطرة: ما الذي يعنيه تدخل سعودي تركي محتمل في سوريا؟

في 2016/02/09

فتحي التريكي- الخليج الجديد-

لا يبدو الإقدام على مثل تلك الخطوة عمليا بسهولة الحديث عنها. وإن كان مجرد الحديث عنها لم يكن أبدا أمرا سهلا. لم يكن حديث الصحف وتكهناك وكالات الأنباء عن تدخل محتمل للسعودية وتركيا في سوريا (مجتمعتين أو منفردتين) وليد الساعات الماضية. بل إننا لا نبالغ أن التكهنات حول هذا التدخل قد بدأت منذ الأشهر الأخيرة للعام 2011، ولكنه ظل قاصرا عل الصحف الإسرائيلية ومؤطرا في الحديث حول تأمين ممر للمعونات والمساعدات اللوجستية. وقد عاد الحديث عن هذا التدخل مرة أخرى إلى الواجهة في الأشهر الأولى من العام 2015 ولكنه سرعان ما خفت في أعقاب التدخل السعودي في اليمن، وحالة الارتباك الأمني في تركيا ثم حالة عدم الاستقرار السياسي التي عاشتها البلاد إثر النتائج غير الحاسمة للانتخابات البرلمانية، التي تم إجراؤها في يونيو/حزيران من العام الماضي.

وجاء التدخل العسكري الروسي في سوريا في سبتمبر/أيلول ليفرض وقائع جديدة على الأرض. أقنعت الإدارة الأمريكية كلا من تركيا والمملكة العربية السعودية أن تدخل روسيا سوف يكون قليل الجدوى، وأنها سرعان ما سوف تجد نفسها متورطة وسوف تبدأ في السعي نحو حل سياسي. ورغم حالة الشد والجذب السياسي التي أحدثها التدخل الروسي إلا أنه على المستوى العسكري بدا أن روسيا كانت تملك استراتيجية واضحة وأنها لم تبالغ كثيرا في تقدير قواتها. استفادت روسيا سريعا من أخطاء الأسابيع الأولى لتدخلها العسكري، وعدلت من استراتيجيتها بشكل سريع. في أعقاب قيام تركيا بإسقاط الطائرة الروسية في مطلع نوفمبر/تشرين أول، قامت روسيا على الفور بنشر منظومات صاروخية متطورة من طراز «إس - 300» ثم منظومات «إس- 400» الأكثر تطورا من أجل إحكام السيطرة على المجال الجوي في سوريا. وقامت روسيا بإضفاء شرعية رسمية على تواجدها العسكري بتوقيع اتفاق مفتوح الأجل مع النظام السوري حصلت بموجبه على قواعد مجانية وضمنت لنفسها السيطرة الجوية.

وسرعان ما تحولت روسيا من القصف العشوائي إلى نمط أكثر انتظاما للعمليات. تركز روسيا على تأمين «دولة الأسد» المصغرة في الجزء الغربي من البلاد وصناعة منطقة آمنة حولها لذا فقد تركزت عملياتها حول اللاذقية والمناطق المحيطة بها. ولم يبد أن روسيا مهتمة بالسيطرة على مساحات كبيرة من الأرض بقدر ما كانت مهتمة بتأمين الأراضي ذات الجدوى الاستراتجية للنظام، وقطع خطوط الاتصال بين المعارضة ثم قطع خطوط الإمدادات على الجبهة الجنوبية مع الأردن، والأكثر أهمية على الجبهة الشمالية مع تركيا. تسبب ذلك في عزل المعارضة إلى جيوب صغيرة غير متصلة يسهل استهدافها. وقد استغلت روسيا تمسك الرئيس الأمريكي بالطابع الشكلي للمفاوضات السياسية في فرض وقائع جديدة على الأرض. لم ترفض روسيا المشاركة في المفاوضات، وقد تنازلات شكلية عبر القبول بالتعامل مع وفد المعارضة الذي شكلته الرياض، في الوقت الذي كانت تقوم خلاله بقصف هذه الفصائل على الأرض.

تطورات جنيف وما بعدها

تحت وطأة الخوف من انهيار المحادثات، التي يرغب الرئيس الأمريكي أن يضعها في سجل إنجازاته قبل مغادرة البيت الأبيض، غضت الولايات المتحدة الطرف عن النشاط العسكري المتزايد لروسيا وقوات النظام في الأسابيع الأخيرة، في الوقت الذي مارست فيه ضغوطا وصفت بأنها غير مسبوقة من أجل الضغط على المعارضة لحضور المباحثات كما مارست ضغوطا على كل من تركيا والسعودية والأردن لتعطيل الإمدادات. النتيجة كانت معاناة المعارضة فقرا شديدا في الأسلحة اللازمة لمواجهة الهجوم النظامي الذي كانت وتيرته تزداد كثافة مع اقتراب المحادثات. لم تلتزم روسيا بقرار وقف إطلاق النار أو تسهيل المساعدات الإنسانية، وفي ظل حدوث تغيرات استراتيجية على أرض المعركة، في الوقت الذي لم تحرز فيه المفاوضات تقدما يذكر، فقد كانت المعارضة مجبرة على الانسحاب مما أدى في النهاية إلى تعليق المفاوضات وعودة جميع الأطراف إلى مواقعها الأولى.

وبعد أن انفض «مولد» المفاوضات عادت الأضواء لتتسلط على التطورات العسكرية. كان النظام قد نجح في فك الحصار المفروض على بلدتي نبل والزهراء منذ أكثر من 3 سنوات كما نجح في قطع ممر عزاز إلى باب السلامة، وهو أحد طريقين للإمدادات التركية إلى الشمال السوري من ناحية حلب (الطريق الآخر هو ممر باب الهوى عبر إدلب). وفي الوقت الذي كان من المتوقع فيه أن يعمد النظام إلى التقدم لتطويق جيوب المعارضة في حلب، فإن المعركة يبدو أنها مرشحة سريعا للانتقال إلى إدلب بهدف قطع اتصال المعارضة في الشمال مع تركيا بشكل كامل.

تضع التطورات الأخيرة النظام السوري وروسيا في مواجهة مباشرة مع تركيا. وهي تعني وصول الحرب فعليا إلى الأراضي التركية عبر تطويق حدودها بحزام علوي كردي، خاصة في ظل المحاولات التي تشير إلى سعي روسيا لاستقطاب حزب الاتحاد الديموقراطي السوري المعادي لتركيا، بما يعني ذلك أن ريف حلب الشمالي قريب من الوقوع في حصار كامل بين تنظيم «الدولة الإسلامية»، ووحدات حماية الشعب الكردية المتمركزة في بلدة عفرين شمال غربي حلب، وقوات النظام السوري. من ناحية أخرى فإن وحدات الحماية الكردية تستغل القصف الروسي للتقدم إلى المناطق التي كانت تقع سلفا تحت سيطرة الجيش الحر والفصائل الإسلامية، والواقعة بين الحدود التركية والجبهة الأمامية للنظام شمال نبل والزهراء، وهذا من شأنه وضع تلك القوات في مواجهة «الدولة الإسلامية» وربما يدفع نحو إغلاق كامل للحدود السورية مع تركيا خوفا من تفاقم التمرد الكردي في البلاد.

لا تقتصر الأمور على ذلك فحسب، فتركيا التي تستضيف أكثر من مليوني لاجئ سوري قد تكون عرضة لمواجهة موجة عارمة جديدة من تدفق اللاجئين. هناك أكثر من 400 ألف شخص من المدنيين المحاصرين في حلب، وقد بدأ عشرات الآلاف منهم في النزوح بالفعل تحت وطأة الحصار والقصف الوحشي، وقد بدأوا بالتدفق بالفعل نحو كيليس، على الحدود التركية من ممر عزاز.

تلميحات سعودية تركية

لا تمس التطورات المعارضة السورية وتركيا فحسب. رغم أن المملكة العربية السعودية لا تمتلك حدود مباشرة مع سوريا، حيث يفصل بينهما العراق والأردن، إلا أنها تعتبر نفسها شريكا رئيسيا في الحرب الإقليمية. وقد بدأ التطلع السعودي نحو سوريا منذ نهاية العقد الماضي في أعقاب سقوط العراق عمليا بشكل كامل فريسة لنفوذ طهران. سوف يمثل تقدم النظام السوري نحو حلب وإدلب فصلا جديدا في سجل انتصارات طهران في المنطقة، كما أنه سوف يلقي بظلاله سريعا على لبنان حيث سيسهم في تحسين أوضاع حزب الله الذي صار قاب قوسين أو أدنى من حسم معركة الرئاسة لصالح مرشحه «ميشيل عون» في أعقاب الانحياز الأخير لـ«سمير جعجع» الذي انشق فعليا عن تيار المستقبل المدعوم من السعودية.

كانت تصريحات العميد «أحمد عسيري» الذي أعلن خلالها عن استعداد بلاده للمشاركة بقوات برية للحرب ضد «الدولة الإسلامية» في سوريا تحت مظلة التحالف الدولي مفاجئة وصادمة في صراحتها. وإن بدت ملتبسة بشكل كبير، إذ أن البدهي في ظل التطورات الأخيرة أن يكون التدخل موجها لدعم المعارضة. وجاء الأنباء التي أوردتها شبكة «سي إن إن» بعد ساعات من تصريحات عسيري لتزيد من الالتباس حيث أكدت الشبكة نقلا عن مصادر سعودية عن أن هناك 150 ألف جندي يستعدون لدخول سوريا من ناحية تركيا، وأنه قد جرى بالفعل فبل أسبوعين تعيين القيادة المشتركة للعمليات.

ظهرت التلميحات على الجانب التركي أيضا، وقد صدرت من أعلى مستوى في البلاد، رئيس الدولة. أكد «أردوغان» أن الوضع في سوريا «سوف يتغير في لحظة معينة». وفي إشارة لا تخلو من دلالة، فقد أكد الرئيس التركي أن بلاده ارتكبت خطئا في 2003 بعدم مشاركتها في التحالف الذي أطاح بنظام «صدام»، موضحا بالقول: «ارتكبت خطئا في 2003 بعدم مشاركتها في التحالف الذي أطاح بنظام صدام، وسوف نسعى لعدم تكرار هذا الخطأ في سوريا».

عوائق كبرى

لم يحدد «أردوغان» بدقة طبيعة التغيير الذي يقصده كما لم يحدد مدى زمني لتلك «اللحظة المعينة». ولكن، وكما أكدنا في صدر هذا المقال، فإنه إذا كان الحديث حول هذا الأمر مشوب بالالتباس، فإن أي تحركات عملية تحفها الكثير من المحاذير. يبقى السؤال الأكثر أهمية حول ماهية الخطة السعودية التركية حال قرر البلدان التدخل في سوريا. لا يمكن أن يكون التدخل هكذا وفقط. تمتلك روسيا خطة تحركات واضحة وقد بدأت معالمها تظهر بوضوح. طالما كانت خطة تركيا متمحورة حول مطالب المنطقة العازلة التي ترفعها تركيا منذ العام 2011، رغبة منها في فرض حزام آمن عند حدودها لحماية المدنيين ومنع توغل الأكراد. عطلت الولايات المتحدة خطة المنطقة الآمنة بسبب سياستها المترددة من ناحية، ولعدم رغبتها في إغضاب الأكراد من ناحية أخرى، وقد جعل التدخل الروسي الأمر أكثر تعقيدا. لا يمكن فرض منطقة عازلة في الوقت الراهن دون موافقة روسيا التي تسيطر بشكل فعلي على الأجواء السورية بغطاء شرعي من النظام. ميدانيا، وحتى لو توفرت الإرادة السياسية للدخول في مواجهة مع روسيا، فإن منظومات الدفاع الصاروخي ستجعل تكلفة فرض مثل هذا كبيرة ومتعذرة. البديل قد يكون إمداد فصائل المعارضة بأسلحة مضادة للطائرات، وقد كان هذا الخيار أقل كلفة في مواجهة الطيران السوري، ولكنه الآن صار أكثر خطورة حين يتعلق الأمر بروسيا.

عائق آخر لا يقل أهمية هو المظلة التي بإمكانها أن توفر الغطاء الدبلوماسي لمثل هذا التدخل. تحتج روسيا على شرعية تدخلها بحكم اتفاق رسمي مع النظام في سوريا. لا يوجد غطاء دولي يمكن أن يوفر مظلة مناسبة للتدخل السعودي التركي، لأنه من غير المرجح أن يوافق مجلس الأمن على منح الشرعية لهذا التدخل. ربما يفسر ذلك تصريحات «عسيري» التي أطرت التدخل السعودي المحتمل تحت مظلة التحالف الدولي لمحاربة «الدولة الإسلامية». تحاول السعودية إذا استخدام نفس الخدعة الروسية، وهي تأطير تدخلها بشكل رسمي تحت إطار مكافحة الإرهاب، ولكن ذلك سوف يتطلب جهدا لإقناع الإدارة الأمريكية المترددة بهذه الخطوة، وهو ما ستدور حوله الجهود الدبلوماسية خلال الأسابيع القادمة.

من ناحية أخرى، فإنه سوف يكون على المملكة العربية السعودية إنهاء حربها في اليمن بشكل سريع. مع اقتراب التحالف السعودي من صنعاء، فإن الأمور تتطلب شهرين على الأقل من أجل السيطرة على المدينة وضمان خروج مشرف تحت مظلة انتصار عسكري أيا كانت فاعلية الحل السياسي الذي يمكن أن يفرضه. من غير المرجح أن تكون السعودية قادرة على خوض حربين في وقت واحد. سوف تكون لتلك المغامرة المحفوفة بالمخاطر عواقبها الداخلية التي لا يمكن التكهن بها.

ارتدادات محتملة

قد يكون بإمكانك أن تتخذ قرارا ببداية الحرب، ولكن ذلك لا يعني أن تملك إنهاءها. أي من المملكة العربية السعودية أو تركيا ليست محصنة ضد الارتدادات الداخلية لهذه الحرب. وجهت تركيا خلال الأشهر الماضية عدة ضربات عسكرية للأكراد في العراق ولكنها لم تفعل الشيء نفسه في سوريا. وسف ينال الأكراد نصيبهم بكل تأكيد حال دخول تركيا إلى هذه الحرب. وإن كانت المخاوف الكردية هي أحد التطورات الحاكمة للمقاربة التركية في سوريا، فإن ارتدادات أي تدخل محتمل على الأزمة الكردية لن تكون هينة أيضا. هناك علاقات وثيقة بين الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب العمال، وسوف يرتبط أي تدخل تركي في سوريا باشتعال التمرد الكردي من جديد.

ووفقا للمعطيات الراهنة، فإن أي تدخل عسكري محتمل من المرجح أن يكون مغلفا بإطار محاربة «الدولة الإسلامية». بما يعني أن كلا من تركيا والمملكة العربية السعودية سوف تكونان عرضة لعمليات مكثفة من قبل التنظيم خاصة بعد أن أثبت التنظيم قدرتها على الضرب في عمق البلدين خلال الأشهر الماضية. نتيجة للحدود المفتوحة بين سوريا وتركيا، سوف يكون من السهل تسلل المزيد من عناصر التنظيم إلى البلاد، ومع وجود مئات، وربما آلاف، السعوديين المجندين ضمن صفوف التنظيم في سوريا، فإن عودة خلايا مدربة لتنفيذ عمليات أكثر منهجية في الداخل السعودي لا يمكن أن يكون أمرا مستبعدا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن علاقة كلا البلدين مع الغرب ليست في أفضل حالاتها. تتعرض المملكة للهجوم الأشرس في تاريخها من قبل وسائل الإعلام وبعض المسؤولين الغربيين، ولن تكون خدعة محاربة «الدولة الإسلامية» كفيلة بإنهاء هذا الهجوم. كما أن «أردوغان» لا يتمتع بذلك النمط القيادي المفضل للغربيين، وسوف تكون الجهود العسكرية المحتملة واقعة تحت مجهر إعلامي شديد الدقة. كل هذه التعقيدات لا تجعل قرار الحرب في سوريا أمرا سهلا، وهو قرار فرت الإدارة الأمريكية من اتخاذه على مدار أكثر من ثلاثة سنوات. وما ينبغي أن تعيه السعودية، وتركيا، أيضا أن اليمن سوف لن تكون أكثر من نزهة إذا ما قورنت بسوريا، وأنهما ربما يدفعان الآن ثمن قرار ربما يكون قد أتى متأخرا عن موعده عامين كاملين على الأقل، في ظل الاضطرار إلى الالتقاط من بين خيارات أفضلها سيء في معظم الأحوال.