د. أحمد الجميعـة-
متفقون تماماً أن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط ليس صدفة، أو ظروف أملتها طبيعة وتوجهات الحكومات العربية وعلاقتها بشعوبها، وتنمية أرضها، واقتصادها، ولكنه حتماً مخطط مدبر نحو "فوضى خلاقة" تعيد المنطقة إلى خارطة الانقسام والتقسيم، وتأزيم المواقف، وتقديم المصالح، وتمكين إيران في كل هذه التفاصيل نحو مزيد من الهيمنة والنفوذ، والتحكم في القرار العربي، ومصادرة استقلاليته، وإرادته.
لحظة اندلاع الثورات العربية في ديسمبر 2010، وتحديداً في تونس، ثم مصر، وليبيا، واليمن، وسورية، ومحاولات فاشلة في دول أخرى مثل الأردن والسودان؛ لم يكن المواطن العربي على قدرٍ من الوعي السياسي في فهم خلفيات المؤامرة، ولم يكن الحال بأفضل لدى كثير من النخب التي حاولت أن تأخذ مجتمعاتها إلى واقع كانت تعتقد أنه سيكون مختلفاً، ونزيهاً، ومحرراً من قيود الفقر والتخلف والظلم والطغيان، ولكن الواقع، وسيناريو الأحداث لم يكن كما هو متوقع، بل للأسف خرجنا من نفق الخلاص من بعض القيادات السياسية ووقعنا في فخ إيران الكبير، والمنظمات الإرهابية التي تدعمها في كل مكان.
دول الخليج والمملكة تحديداً كانت واعية لما يجري، وحاولت أن توازن بين سياستها في عدم التدخل في شؤون الآخرين الداخلية، وبين دورها العربي في لم الشمل، وتصويب المسار، والتنبيه إلى خطر المؤمرة من خلال تحقيق الأمن والاستقرار للشعوب العربية، ودعم اقتصادياتها للخروج من مأزق الفوضى، وفعلاً تحقق ذلك في مصر حينما ارتمى الإخوان في حضن إيران بعد أشهر من اعتلائهم السلطة، وحافظت على شرعية اليمن بانتقال السلطة إلى الرئيس هادي، وقطع الطريق على مليشيات الحوثي المدعومة من إيران، ووقفت إلى جانب الحكومة الليبية لمواجهة خطر التنظيمات الإرهابية التي انتقلت سريعاً إلى مدن الساحل هناك بتنسيق إيراني واضح، ووجدت في تونس رغبة شعبية نحو الاستقرار واختيار من يمثّلهم، وفعلاً دعمت تلك الإرادة الديمقراطية لحفظ أمن تونس واستقراره، ولا تزال تواصل العمل في احتواء المعارضة السورية المعتدلة لضمان مرحلة انتقالية ما بعد الأسد، وتواصل العمل في العراق لإخراجه من طائفية الممارسة إلى حيز الوجود العربي كما كان داعماً لقضايا أمته، ومستقلاً في قراره، وموحداً في أرضه، مع احترام سيادته، واختيارات شعبه.
أمام هذا المشهد تبدو المملكة ودول الخليج أكثر تأثيراً في المنطقة، وحرصاً على أمنها واستقراها، وسعت ولا تزال أن تطهّر المنطقة من العبث الإيراني الذي انكشف تورطه في تدهور الحالة العربية، ودوره الفاضح في دعم "الفوضى الخلاقة" التي أراد لها منظروها أن تتحقق خلال سنوات معدودة، ولكن المملكة أفسدت المشروع، وخرجت إلى المواجهة بأوراق مكشوفة، وتسمية الأمور بمسمياتها، وانحازت إلى قضايا العرب والمسلمين، وتصدت بالفعل للخطر الإيراني بإعلان تحالف إسلامي لمواجهة الإرهاب، وقبل ذلك "عاصفة الحزم"، ومستعدة أن تذهب إلى ما هو أبعد حين يكون "رعد الشمال" نواة للتحرك في أي وقت، وقطع العلاقات وسيلة للوصول إلى ما هو أهم، والضغط والحصار طريقاً إلى توحيد الجموع لمواجهة أذناب إيران بالوكالة، وعلى رأسها حزب الله وتنظيم داعش الإرهابيين.
المملكة اليوم تستثمر مكانتها وإمكاناتها وعلاقاتها للتعبير عن صوت الأمة في كل مناسبة وحدث، وتواصل نهجها الحكيم والمتعقل في إدارة أزمات المجموع العربي؛ فهي لا تنظر إلى مصالحها بمنأى عما يحدث، وإنما تسعى إلى التأثير في كل ما يحدث، بما يحقق الأمن والاستقرار في المنطقة.
ولهذا؛ يتواجد ولي العهد في باريس ليعبّر عن وجهة نظر المملكة مع أحد أهم حلفائها في الحرب على الإرهاب، ودعم الموقف العربي تجاه إيران، وما يجري في سورية، وما هو متوقع في لبنان بعد أن اختطف حزب الله الدولة، وما هو مطلوب للتحرك في ليبيا، حيث تمثّل باريس اليوم الصوت الأوروبي الأكثر تفهماً للواقع العربي، والأكثر رغبة في تغيير هذا الواقع، والشواهد على ذلك كثيرة، ولكن يبقى الأهم وهو العمل والتنسيق المشترك نحو تحجيم الدور الإيراني في المنطقة، وقدرة باريس على لعب هذا الدور مع المجموع الأوروبي، وعدم الاندفاع نحو تحقيق المصالح الاقتصادية على حساب الشركاء الأكثر وفاءً وقدرة في التأثير مهما كانت المغريات بعد رفع العقوبات عن طهران.