نوح الهرموزي- معهد واشنطن-
أسفرت انتخابات «مجلس الشورى» و«مجلس الخبراء» في إيران، التي جرت في كانون الثاني/فبراير المنصرم عن إحراز تقدم للتيار الإصلاحي المعتدل في جو من التدافع السياسي السلمي. وأعادت هذه الانتخابات إلى الأذهان مقولة البرلماني البريطاني جوك بروس جاردن من عام 1966 التي وصف فيها إيران آنذاك كـ «واحة استقرار».
ويشير تدافع الشركات الأوروبية والأمريكية الكبرى لدخول السوق الإيرانية وتسارع تدفق رؤوس الأموال، إلى أن طهران أصبحت من جديد، بيئة مستقرة وواعدة للاستثمار وخاصة بعد رفع العقوبات الدولية المفروضة على الجمهورية الإسلامية منذ سنوات، وذلك وفي أعقاب الاتفاق النووي الذي أبرمته الحكومة الإيرانية مع القوى العالمية لوقف أنشطتها النووية. وما يعزز هذا الاستقرار ليس فقط تمتع إيران باحتياطي كبير من النفط والغاز الطبيعي، بل - على خلاف دول المنطقة - تمتعها أيضاً باقتصاد متنوع. وتمتلك إيران قطاعاً مزدهراً لصناعات السيارات يعتبر ثاني أكبر مساهم في "الناتج المحلي الإجمالي" في عام 2014، كما أن للجمهورية الإسلامية 30 قطاعاً اقتصادياً حيوياً مدرجاً في البورصة الإيرانية وتحتل البلاد المرتبة السابعة عالمياً في ميدان النانو تكنولوجيا.
كما أن رفع العقوبات على إيران سيعمل على تسريع وتيرة تعافي الإقتصاد الإيراني ويعزز نفود طهران وسلطتها، الأمر الذي يثير قلق دول الخليج أكثر من أي طرف آخر لأنه سيسمح لطهران باستيراد أسلحة وتجهيزات تكنولوجية متطورة وسيزيد من قدراتها العسكرية. كما أن رفع العقوبات على القطاعين المالي والاقتصادي سيحقق للبلاد نمواً اقتصادياً يتراوح ما بين 3 و7 في المائة، وفقاً للتوقعات، وسيسمح لإيران بتوسيع تجارتها الخارجية وحركة رؤوس الأموال. ومن المتوقع أن تزيد إيران من استثماراتها في قطاع الغاز الطبيعي أيضاً، خاصة وأنها تملك ثاني أكبر احتياطي للغاز بعد روسيا، وكونها قريبة من أسواق الغاز في آسيا، خاصة الهند والصين وباكستان، بالإضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية في الشرق الأقصى، وحتى تركيا، التي تهدف حالياً إلى الابتعاد عن الاعتماد على الغاز الروسي. والأهم من ذلك، حدثت زيادة تدريجية في إنتاج النفط من نحو 800 ألف برميل يومياً إلى ما يقرب من 4 ملايين برميل، الأمر الذي سيزيد من دون شك من احتياطياتها من العملة الصعبة وسيضاعف من قدرتها على تمويل حروبها الإقليمية. وفي الوقت نفسه، سيساهم في انهيار أسعار النفط مما سيدفع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو مرحلة جديدة من الصراع.
ولكن الأمر الذي أثار مخاوف دول الخليج هو إقدام «الباسدران» («الحرس الثوري») الإيراني الموالي للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي في بداية آذار/مارس 2016 بإجراء اختبارات لتطوير البرنامج الصاروخي "باور 373" (373 Bavar)، وهي خطوة اعتبرها قطاع كبير من المحللين بأنها مستفزة. كما أن السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة سمانثا باور قد أكدت أن واشنطن «قلقة جداً» من هذه التجارب البالستية «المستفزة والمزعزعة للاستقرار». ولم يكن الرد الإيراني مهدئاً للأوضاع حيث أكد المرشد الأعلى أن التوقعات الغربية بقيام إيران بالحد من برنامجها الصاروخي هي «غبية وحمقاء»، ودعا «الباسدران» إلى إنتاج كميات ضخمة من الصواريخ لـ «إصابة أعداءنا البعيدين» وخصوصاً «النظام الصهيوني». وسيصل مدى هذه الصواريخ إلى ما يقرب من 1400 كيلومتر، ويعني ذلك أن إيران تمتلك القدرة على الوصول إلى عدد من العواصم العربية وإسرائيل. ولدى زيارته معرض القوات الجوية لـ «الحرس الثوري» أضاف خامنئي: «إنهم يتوقعون منا أن نحد من برنامجنا الصاروخي في حين يهددون إيران باستمرار بتحرك عسكري. لذا، فإن هذا توقع غبي وأحمق». وأضاف: «يتعين بالتأكيد على «الحرس الثوري» أن ينفذ برنامجه وألا يرضى بالمستوى الحالي. يجب أن ينتجوا بكميات ضخمة. هذا واجب أساسي على كل المسؤولين العسكريين». إن هذه التصريحات والتجارب الصاروخية قد أعادت إلى الأذهان المخاوف من النفوذ الفارسي والصراع السني الشيعي القديم/الحديث من أجل الهيمنة على المنطقة.
في دراسة صدرت في عام 2012 بعنوان «النفوذ الإيراني في بلاد الشام ومصر والعراق، وأفغانستان» أكد فريدريك كاغان وأحمد ماجد يار ودانييل بليتكا أن مرتكزات النظام الإيراني ما بعد ثورة 1979 تقوم على عدة مبادئ، من بينها الإيمان بأن المجتمع الإيراني موحد من خلال الهوية والقوة والإسلام، والتاريخ المشترك لبلاد فارس الذي يشكل مصدر اعتزاز تاريخي وقومي.
وفى الوقت نفسه، تشعر إيران بالحاجة إلى تأكيد دورها الإقليمي ومركزها المهيمن في منطقة الخليج ، فضلاً عن باقي دول المنطقة. ويعتقد نظام الملالي أنه من حق إيران الطبيعي ومصيرها التاريخي أن تهيمن على المنطقة و تقود العالم الإسلامي. كما ويعتقد صناع القرار الإيرانيون أن لإيران مصلحة مباشرة في جميع القضايا الإقليمية.
كما تسعى إيران إلى تعزيز قدراتها على الدفاع عن نفسها في مواجهة أي عدوان عسكري، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والاعتماد على النفس استراتيجياً وتكتيكياً، وخصوصاً في المجالات العسكرية؛ من هنا ينبع حرصها على امتلاك التكنولوجيا النووية وربما القدرة على امتلاك الأسلحة النووية.
وتسعى إيران للهيمنة والتوسع الإقليمي أيضاً من خلال استعمال القوة الناعمة، مثل بناء شبكات دعم ومساندة لإيران في إنحاء المنطقة، وتقديم الدعم لحلفائها، وتعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية مع الدول المجاورة، والسعي لتوقيع اتفاقيات دفاعية وأمنية.
وقد اصطدم الطموح الإيراني ببسط النفوذ على المنطقة بالمشروع السني بقيادة السعودية. واحتدم التنافس على إثبات أي بلد يستحق أن يقود العالم الإسلامي. وفي مقابل تعهُد القادة الإيرانيين بتصدير ثورتهم الشيعية الإيرانية وتقويض ما اعتبروه فساداً، وأمراء غير صالحين، عمدت السعودية إلى التصدي لأي شيء إيراني اعتبرته غير إسلامي. وشكل كل طرف تحالفات مع البلدان التي تشاطره نفس الإيديولوجية وعمد إلى تقديم الدعم للجماعات المتشددة في بلد الخصم أو في مناطق تأثيره ونفوده.
إن استمرار العداء الصريح الذي يميز العلاقات الإيرانية - السعودية قد أطال أمد معاناة اليمن وسوريا، في ظل استبعاد التوصل إلى حل دبلوماسي، وسعي كل طرف إلى منع الطرف الآخر من كسب النفوذ. كما أن تعافي الاقتصاد الإيراني وعودته إلى الساحة الدولية إثر رفع العقوبات الدولية سيعزز رغبة إيران وقُدراتها على تمويل حروبها الإقليمية ما يجعل من الصعب توقع حدوث انفراجات في المنطقة. وتشير هذه الديناميات المتغيرة إلى أن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دخلا مرحلة جديدة من الصراع وفق معطيات مختلفة.
وتعتبر الحرب النفطية أشد الصراعات ضراوة في حرب استنزاف تدور رحاها بين السعودية وإيران ومنتجي الغاز والنفط الصخريَيْن. فقد تهاوى سعر النفط ليصل سعر برميل الخام إلى حوالي 27 دولاراً في 20 كانون الثاني/يناير الحالي أي بتراجع مقداره 75 بالمائة قياساً بأسعار عام 2014 بعدما رفضت منظمة الدول المصدرة للنفط ("أوبيك") تحت قيادة السعودية خفض إنتاجها حتى مع انخفاض الطلب، كما رفض منتجو الوقود الصخري في الولايات المتحدة وقف الضخ. ومن الواضح أن السعودية تبذل قصارى جهدها لكي تجعل عودة إيران إلى إنتاج النفط أكثر صعوبة بعد رفع العقوبات وإلغاء حظر تصدير النفط الذي فرضته الدول الغربية على طهران.
وفي ظل هذا الصراع المحموم برز عدد من المستفيدين من تراجع أسعار الطاقة التي تعتبر نعمة اقتصادية تعزز من مستوى الأداء الاقتصادي للدول المستوردة للنفط. ويشير آخر تقارير "البنك الدولي" حول منطقة شمال أفريقيا أن المغرب ومصر وتونس شهدت تحسناً في موازين معاملاتها التجارية بعد انخفاض فواتير الواردات، وفي أرصدة ميزانياتها العامة بفضل انخفاض تكاليف دعم الوقود (والتي يصل بعضها إلى 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي).
كما سيؤدي انخفاض أسعار النفط إلى تراجع التضخم في البلدان المصدرة والمستوردة للنفط على السواء، وقد يعود بالنفع على الفقراء من خلال التأثير غير المباشر على معدلات التضخم المحلية. وكما ستساهم الزيادة الطفيفة في الاستهلاك الناجمة عن انخفاض الأسعار في انتعاش معدلات النمو الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك إن انخفاض أسعار النفط قد يساعد مصر أيضاً على الاستفادة من إمدادات طاقة إضافية وتفادي الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، الأمر الذي قد يسهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي الهش. من جهة أخرى، فإن انخفاض أسعار النفط قد يضعف تدفق الأموال حيث أن مصر من أكبر المتلقين لتحويلات المغتربين والمساعدات الأجنبية والاستثمارات من بلدان «مجلس التعاون الخليجي»، التي توفر أكثر من ثلاثة أرباع من تدفقات التحويلات إلى مصر. وقد يؤثر ذلك سلباً على النمو عن طريق تقليص الاستثمارات. ومن المرجح أن يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى إتاحة المجال للحكومتين المصرية والمغربية لمواصلة برنامجهما الإصلاحي الذي يهدف إلى إعادة النظر في سياسة الإعانة الحكومية المرهَقة في ميزانيتي البلدين. وفي الآونة الأخيرة، أثمرت الجهود التي بُذلت لمكافحة الفقر والهشاشة في مصر والمغرب عن ثمار طيبة.
ووفقاً لإحصائيات "صندوق النقد الدولي" لعام 2015 تضررت اقتصاديات البلدان المصدرة للنفط في شمال أفريقيا وأصبحت في جهة الخاسرين. ويشكل النفط أكثر من نصف إيرادات ميزانية صادرات ليبيا والجزائر وأرباحهما (ونسبته أكثر من 95 في المائة من إجمالي صادرات هذه البلدان). وقد أدى انخفاض أسعار النفط إلى إجبار كلتا الحكومتين على تبني التقشف وزيادة في أسعار المحروقات وعدد من الخدمات والمواد الاستهلاكية وفرض رسوم ضريبية جديدة على بعض المواد وزيادة الرسوم الجمركية لإيجاد مصادر جديدة للإيرادات العامة وتقليص الإنفاق الحكومي لوقف نزيف العجز في ميزانيتي الدولتين. كما وتدهورت أيضاً موازين المعاملات الجارية للبلدان المصدرة للنفط مما خلق ضغوطاً سلبية على عملاتها أدت إلى خفض قيمتها ودفعها إلى اللجوء إلى احتياطياتها من العملات الأجنبية. وقد انخفضت احتياطيات الجزائر من 185 مليار دولار إلى 152 ملياراً خلال هذه الفترة كنتيجة مباشرة لتأثير الصدمة الخارجية في أعقاب الانخفاض الكبير والمستمر في أسعار النفط.
وتطفي هذه الأحداث والمستجدات نوعاً من التشاؤم على مستقبل المنطقة. ففي أعقاب «الربيع العربي» وما ترتب عنه من حروب وانقسامات و صراعات حول البقاء والتوسع، وفي سياق تعزيز أيران لقوتها الاقتصادية والعسكرية الضاربة بعد الاتفاق النووي الأخير، هناك إشارات عن حدوث تحول مزعزع للاستقرار في ميزان القوى في المنطقة. وفي خضم تغير موازين القوى وتقلص اعتماد الحليف الأمريكي التقليدي على النفط الخليجي و محاولته إذابة الجليد و تدفئة العلاقات مع الطرف الإيراني باعتباره لاعباً رئيسياً في المعادلة الشرق أوسطية الجديدة، تذهب أكثر التنبؤات تشاؤماً إلى أن المنطقة مقبلة على حرب طويلة على غرار تلك التي دارت بين الدول الكاثوليكية والدول البروتستانتية من أجل السيطرة وكسب النفوذ خلال القرن السابع عشر الميلادي. أي حرباً بالوكالة محصلتها صفر، يستحوذ فيها الفائز على كل شئ على أساس مذهبي طائفي بين المحور السني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والهلال الشيعي، وهو الأمر الذي يهدد استقرار المنطقة بأسرها ويدفعها للعودة إلى سياسة المحاور القديمة التي شهدها العالم في فترة الحرب الباردة.