الصراعات في الشرق الأوسط، سواء في العراق أو لبنان أو سوريا أو اليمن، تشترك في عامل مشترك: التنافس بين إيران والمملكة العربية السعودية. على مدار سنوات، ألهب هذا التنافس العنف في المناطق التي مزقتها الحرب بالفعل وخلق ساحات جديدة للقتال في الأماكن التي كانت تتمتع بسلام نسبي من قبل.
بالتالي، فمن الصعب أن نتصور أن البلدين يمكن أن يتعاونا معا من أجل تحقيق الصالح العام للمنطقة. ولكنهما سوف يتعين عليهما أن يجدا وسيلة للتعايش سويا إذا أرادا للمنطقة أن تحيا في سلام. وحتى إن لم يكن بإمكانهما حل الخصومة بينهما بشكل دائم فإنه لا يزال بإمكانهما احتواء العداء القائم بينهما. تحقيق ذلك الأمر يمكن أن يمثل تحديا، ولكن كلا الجانبين بإمكانه أن يتخذ خطوات من شأنها أن تساعد على إبعاد منطقة الشرق الأوسط عن حافة الدمار.
الرئيس الأمريكي «باراك أوباما»، من بين آخرين، يؤمن أن الصراع بين إيران والمملكة العربية السعودية يرجع إلى جذور تاريخية عميقة لا يمكن تجاوزها. ولكن التاريخ يقول خلاف ذلك. على الرغم من بعض فترات اشتداد التوتر، وخاصة في أعقاب تفجيرات أبراج الخبر في يونيو/حزيران عام 1996، فقد كانت إيران والمملكة العربية السعودية تتعايشان مع بعضهما البعض بشكل جيد خلال الفترة بين عام 1989 و2005. في الواقع، فقد انتهج الرئيسان الإيرانيان «هاشمي رفسنجاني» و«محمد خاتمي» لهجة أقل حدة من السابق وسعيا إلى تحسين العلاقات مع دول الخليج. وقد أدى ذلك إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية، والقيام بزيارات متبادلة. وقد ظلت العلاقات هادئة حتى خلال الأيام الأولى لحكم الرئيس الإيراني «محمود أحمدي نجاد». ولكن اندلاع ثورات الربيع العربي في عام 2011 تسبب في تغيير بنية السلطة السياسية في المنطقة. سقطت الدكتاتوريات القائمة منذ فترة طويلة، وحلت محلها الفوضى. وقد سعت كل من إيران والمملكة العربية السعودية إلى محاولة فرض هيمنتهما على البلدان غير المستقرة ومن هنا نشأت الحروب بالوكالة بينهما.
البحث عن التوافق
يمكن للأمور أن تتصاعد بسهولة إلى حرب صريحة بين البلدين. على سبيل المثال، في أبريل/نيسان 2015، حاولت طائرة إيرانية كسر الحصار السعودي على اليمن من خلال الهبوط في صنعاء. قامت المقاتلات السعودية بالتحليق على مقربة من الطائرة الإيرانية وقامت بتدمير مدرجات المطار لمنع الطائرة من الهبوط. وقد اقتربت طائرتان سعوديتان من طراز «إف 15» من الطائرة الإيرانية إلى درجة أن الطيارين أن بإمكانهم رؤية أوجه بعضهم البعض. في حال وقوع الحادث، فإن الصحافة الإيرانية لم تكن لتتردد في اتهام السعودية بالإسقاط العمدي للطائرة الإيرانية، وساعتها فإن إيران لن تملك خيارا سوى الرد. تظهر مثل هذه الوقائع مدى الحاجة إلى اتصال أوسع وأكثر ذكاء بين البلدين. ومهما بلغت درجة صعوبة هذا الحوار بالنسبة للبلدين فإنه لا يزال هو الطريقة المثلى لتجنب الحرب.
ما وراء تجنب الحرب، فإن لدى كل من المملكة العربية السعودية وإيران أسبابا أخرى للبحث عن التوافق. في الواقع، فإن مستقبل كل منهما يبدو مرتبطا. البلدان هما أقوى دولتين في العالم الإسلامي وسوف يكون لكل منهما يد في تشكيل مسار الشرق الأوسط. لا يمكن أن تنجح أحدهما بمفردها في تحقيق أهدافها ولكن كل دولة تحتاج إلى الأخرى سواء أحبت ذلك أم لا. ويرجع ذلك إلى المستوى العالي من الترابط بين الجارتين لاسيما في مجالات أمن الخليج والتكامل الاقتصادي في المنطقة.
كلا البلدين تؤكدان أنهما تريدان تجنب الصراع مع بعضهما البعض وأنهما يفضلان التمتع بعلاقات حسن الجوار. في يناير/كانون الثاني صرح ولي ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» أن «أي شخص يدفع للحرب بين إيران والمملكة العربية السعودية ليس في كامل قواه العقلية نظرا أن الحرب بين البلدين سوف تكون مقدمة لكارثة كبرى في المنطقة. وبالتأكيد فإننا لن نسمح بأي شيء من هذا القبيل». في معرض حديثه عن العلاقات الإيرانية السعودية في فبراير/شباط الماضي، دعا وزير الخارجية الإيراني «جواد ظريف» إلى تغيير النموذج القائم في العلاقة وأكد لـ«الإخوة السعوديين» أن إيران مستعدة للعمل مع السعودية. وفي الشهر التالي صرح وزير الخارجية السعودي «عادل الجبير» أنه «إذا قامت إيران بتغيير طريقتها وسياستها فليس شيء يمنع فتح صفحة وبناء أفضل العلاقات على أساس حسن الجوار، مع عدم التدخل في شؤون الآخرين». ومع حالة انعدام الثقة بين الطرفين، فإن الحوار المباشر هو أمر ضروري لتوفير فرص لكلا الطرفين في فهم بعضنا البعض بشكل أفضل والبدء في تقليل الشكوك المتبادلة بينهما. ترفض الرياض إجراء محادثات مع طهران بسبب تورط إيران في الشؤون السعودية والعربية. إيران من جانبها تؤكد أن الحوار لا بد أن يبدأ قبل أن تغير أيا من سياساتها. وتقول طهران أنها من خلال هذا الحوار سوف تتأكد من تلبية احتياجاتها الأمنية قبل إجراء أية تغييرات استراتيجية.
الخروج من المأزق
للخروج من هذا المأزق، يتعين على كلا البلدين أن تتخذ خطوات لاسترضاء الأخرى. أولا، يجب أن يتم خلق خط ساخن لإدارة الأزمات بين الرياض وطهران. يجب أن يربط هذا الخط بين وزارتي الخارجية في كلا البلدين، حيث يجب أن تنشئ كل دولة مكتبا لمعالجة الأحداث الإقليمية التي تجري بشكل مستقل عن القرار الرسمي للحكومات. وسيكون لكل مكتب إنشاء نظام لإدارة لوجستيات الاتصالات بينهما. بهذه الطريقة، يمكن للقادة التحدث إلى بعضهم البعض مباشرة بدلا من الحديث عبر العنف. في الواقع، فإن الحروب غالبا ما تحدث عبر سلسلة من الأحداث التصعيدية وليس عبر قرار منفرد. إن قيام حرب بين إيران والمملكة العربية السعودية من المرجح أن يتبع مثل هذا المسار لأن أيا من البلدين ليس من مصلحته إعلان الحرب مباشرة.
على سبيل المثال، فإن قيمة هذا الخط الساخن يمكن أن تظهر في حال كانت السعودية قد قامت بإسقاط الطائرة الإيرانية في اليمن. وسوف يسمح وجوده لكلا الطرفين بمناقشة الحادث بشكل خاص بدلا من تركه للتداول عبر الرأي العام. ليس من المستبعد أن نشهد أحداث مستقبلية من هذا النوع بين البلدين: لدى إيران قوات في سوريا والمملكة العربية السعودية مهتمة بإرسال قوات إلى هذا البلد أيضا. يمكن أن يساعد مثل هذا الخط الساخن على التقليل من خطر الهجمات العرضية وغيرها من الحوادث التي يمكن أن تقود البلدين إلى حافة الحرب. وتجدر الإشارة إلى أنه في أعقاب الهجوم الإيراني على السفارة السعودية في طهران في يناير/كانون الثاني الماضي، فإن المملكة العربية السعودية قد قامت بقطع علاقاتها مع طهران. أدى ذلك إلى تفاقم الأزمة بشكل ملحوظ وفتح الباب لصراع محتمل. ربما لم يكن هذا الخط الساخن أمرا ضروريا في الماضي حيث كان يمكن للبلدان استخدام القنوات الدبلوماسية في الاتصالات التقليدية.
إذا كان كلا الطرفين غير مستعدين للتحدث إلى بعضهم البعض مباشرة، فإن إمكانهما النظر إلى تشكيل لجان فنية لمنع اندلاع الحرب. وتشمل هذه اللجان خبراء السياسة والتكنوقراط من وزارتي الخارجية في كلا البلدين، بما يسمح بالتنسيق دون إشراك المسؤولين السياسيين. يمكن لخبراء السياسة أن يعملوا مع بعضهم البعض لإيجاد نهج لمعالجة المصالح المتبادلة دون إشراك السياسيين بشكل مباشر. على سبيل المثال، يمكن لهذه اللجان أن تستكشف كيف يمكن للمملكة العربية السعودية أن تبدأ محادثات مع إيران دون الحاجة للتحقق من تغيير دور طهران في الشؤون العربية أولا. كما يمكنها أيضا أن تقترح الحلول التي تلبي الاحتياجات الأمنية الإيرانية، مثل الحماية من عدم الاستقرار القادم من العراق دون الحاجة إلى دعم الميليشيات العراقية واليمنية، أو إرسال قوات إلى سوريا. كما يمكن لهذه اللجان أيضا معالجة القضايا الصعبة الأخرى، مثل انخفاض أسعار النفط، الذي وضع إيران على خلاف مع المملكة العربية السعودية في ظل سعي الأولى لاستعادة موقعها في السوق بعد رفع العقوبات، ورغبة الثانية في الحفاظ على حصتها السوقية.
وأخيرا، يمكن للجانبين أن يقوما باحتواء الخصومة بينهما من خلال تقليص تدخلاتهما في الصراعات الإقليمية. السعودية تشعر بالقلق من صعود إيران كقوة إقليمية مهيمنة وقد قررت تسخير كل قدراتها في السياسة الخارجية من أجل منع ذلك من الحدوث. إيران يمكن أن تعالج هذا القلق من خلال تأكيد أنها تسعى للمشاركة في القيادة الإقليمية وليس الاستئثار بها. في الواقع، لقد أكد وزير الشؤون الخارجية الإيراني «جواد ظريف» مرارا وتكرارا على ضرورة أن تعمل كل من إيران والمملكة العربية السعودية معا على حل الأزمات السياسية في المنطقة، فضلا عن استعداد بلاده للقيام بذلك. ولكن المملكة العربية السعودية لم تقتنع بعد بمدى جديته. طهران يمكن أن تثبت جديتها باستخدام نفوذها مع المتمردين الحوثيين في اليمن، الذين يقاتلون ضد الحكومة اليمنية المدعومة من السعودية، من أجل التوصل إلى اتفاق سلام في البلاد. هذا من شأنه أن يكون بمثابة إثبات لحسن النية لا يتضمن الإضرار بأساسيات الأمن الإيراني.
عند هذه النقطة، فإن تدخل طرف ثالث ربما يكون مفيدا في تشجيع إيران على اتخاذ مثل هذه المبادرة ودفع السعودية إلى التجاوب معها، ربما عن طريق كبح جماح التحريض الإعلامي. المعاملة بالمثل هي أمر ضروري هنا كما أنها سوف تسمح بنمو الثقة في التحرك نحو المحادثات المباشرة. هذا الأمر أكثر قابلية للنجاح مما قد يبدو عليه. كلا البلدين محاصران الآن في دورة ضارة من التصعيد دون وجود أي حل سياسي يلوح في الأفق. يمكن لتبني تكتيكات إدارة الأزمات أن يمثل الخطة الأولى للخروج من تلك الخصومة المكلفة على نحو متزايد.
فورين أفيرز - ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-