يعود موضوع العلاقات العربية ـ الإيرانية الى حيز النقاش في ظل تحرّر إيران من العقوبات وتصاعد التوتر السعودي ـ الإيراني. حلقات نقاش ومؤتمرات عدة شهدتها الساحة الاكاديمية والسياسية مؤخراً حول هذه العلاقات، وكان آخرها مؤتمراً نُظم في بيروت بمبادرة من «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق». تنم أجواء المؤتمر والتحضيرات التي سبقته عن اطلاق الايرانيين «لديبلوماسية استماع» لإنضاج تصوراتهم وفهمهم لتضاريس المجال السياسي العربي وتعقيداته، وهذا تحولٌ في غاية الأهمية من حيث الدلالة والتبعات.
الجمهورية الإسلامية في إيران، وكما توحي التسمية، هي كائن هجين يطبق نموذجاً خاصاً من الجمع بين الدولة (الجمهورية) والدين (الإسلام) حيث يلعب المرشد الأعلى (الولي الفقيه) دوراً مفصلياً في رعاية التوازن بين مُثل الثورة واندفاعتها وحاجات الجمهورية واستقرارها، بما يحقق ثورة دائمة وجمهورية صاعدة. ولذا من الطبيعي ان تشهد ايران بين حقبة واخرى مستوى من التوتر بين ضروريات الثورة وحاجات الجمهورية، إلا أن تركيبة النظام وتوازناته ونضجه أتاحت خلق مجموعة آليات وأدوات نجحت الى حد يثير الإعجاب في ضبط هذا التوتر ودفع المكوّنين نحو علاقة من التكامل او المساكنة بالحد الادنى.
بناء على هذه التركيبة، يمكن تصنيف مصالح ايران في المنطقة وفق الآتي: مصالح جيو ـ استراتيجية (جيوبوليتك ـ جيو ايكونومي)، مصالح ثقافية ـ هوياتية (الوحدة الإسلامية، دعم حركات الإسلام السياسي، حماية الشيعة، نهوض الامة الاسلامية المقتدرة) ومصالح ثورية ـ ايديولوجية (معاداة الهيمنة الأميركية والاحتلال الصهيوني). لا نفترض هنا أن هذه المجالات الثلاثة منعزلة عن بعضها، فالمصالح المادية والمعنوية تدخل في علاقات معقدة من التأثر والتأثير، فالمجال الثقافي يُشكل المجال الثوري الذي بدوره يعطي معنى ويرسم أبعاد المجال الجيو استراتيجي. فيما تؤدي التوازنات الجيو استراتيجية الى ترتيب اولويات المجال الثوري بما قد يترك على المدى البعيد تأثيرات ثقافية.
كما أن هذه المصالح يمكن أن تتزاحم في لحظة ما، فهل الاولوية هي التحالف مع الاسلامي ولو لم يكن ثوريا ام للعلماني الثوري؟ أو كما هي حالة العراق بعد الاحتلال الاميركي، حيث ان ايران وانطلاقاً من التهديد الجيو ـ استراتيجي الذي يمكن أن يشكله صعود «صدام حسين» آخر في العراق او استقرار الاحتلال الأميركي والخوف على مصير الشيعة فيه، اندفعت الى تبني مسار مزدوج داخل المجال العراقي، دعم المقاومة العراقية بالتوازي مع فتح قناة تفاوض جانبية مع الأميركيين حول العملية السياسية في العراق؟ هذا التفاوض وما تلاه كان من أبرز اسباب التوتر بين إيران وجملة من التيار القومي العربي بسبب ما اعتبره الأخير تراجعاً للدور الثوري لايران في القطيعة التامة مع الاحتلال الاميركي.
يُشكل هذا التقسيم لمصالح ايران مدخلاً لفهم تعرجات العلاقة بين العرب وإيران. العرب هنا هم أنظمة، شعوب، قوى سياسية، حركات مقاومة، ومجتمع أهلي ونخب. يمكن أن تأخذ هذه العلاقة شكلاً من العداء، المنافسة، الحياد، المساكنة والتفاهم، التحالف أو الشراكة. إن القوى العربية التي تتشارك مع ايران في المجال الثوري قادرة على صياغة نوع من «المساكنة والتفاهم» معها في حال غياب تصادم هوياتي. وهذا ما يفسر علاقة أغلب التيار القومي ـ العروبي مع إيران. لا يشكل المجال «الجيو ـ استراتيجي» مبرراً لأي دولة عربية للعداء مع ايران، فالأمر قد يلامس التنافس المفتوح على تسويات وتفاهمات، هذا إن افترضنا عقلانية اللاعب العربي.
أما اللاعب العربي الذي يتشارك مع إيران في بعض المصالح الثقافية والثورية، فهو شريك لها ـ شراكة كاملة أو ناقصة ـ إن كان المجال الجيو ـ استراتيجي المشترك يشهد بعض التنافس (العراق)، وإلا فإنه يرقى لمستوى الحليف (سوريا). وعليه تنحصر حالة العداء لإيران بالأطراف العربية التي تعادي المصالح الثورية لإيران (السعودية مثلاً) أو التي تتناقض تماماً مع مصالحها الثقافية ـ الهوياتية (التكفيريون مثلاً)، او التي تجمع كلاً الأمرين. فيما نلاحظ أن القوى العربية التي لا تشعر بتهديد ثقافي ـ ثوري مباشر من إيران ولا يجمعها تنافس جيوبولتيكي حاد معها، فإنها اما اختارت المساكنة والتفاهم (الجزائر) أو الحياد تفادياً لأثمان التقارب مع ايران (الكويت) او استجلاباً لمنفعة (مصر حالياً).
جوهر الازمة العربية ـ الايرانية يعود الى فشل المشروع العربي بالدرجة الأولى، استبداد، جهل وأمية، تهميش اقتصادي ـ اجتماعي، رجعيات دينية، وتبعية وخضوع، ما علاقة ايران بكل ذلك؟ واقعاً، تستثمر السعودية في هذا الفشل لإنتاج خطاب ومشاريع مذهبية وتكفيرية، فتوظف النخب وترتهن الدول وتستقطب الشباب المهمش والفاقد للخيارات، وتزج كل ذلك بوجه ايران. لا تصعد دولة كالسعودية في محيط سليم ومستقر وعصري، بل تحتاج لمحيط من سنخيتها، محيط رجعي استبدادي متهالك قابل للاستلحاق.
فشل المشروع العربي دفع بأنظمته الرسمية الى التموضع في خدمة المشروع الاميركي، فكانت معاداة ايران بالوكالة عن الأميركي وليس بالاصالة عن مصالح العرب. الفشل العربي أتاح صعود السعودية وفرض أولوياتها وأهمها بناء الجدران الإثنية ـ المذهبية بوجه ايران وحولها. فشل النظام الرسمي العربي دفعه لمعاداة مشروع المقاومة والاستقلال في ما يتمثل الفشل الايراني في غياب اي مشروع جدي خارج المقاومة المسلحة.
النقد المبالغ به لإيران يشكل مخرجاً للرافضين او العاجزين عن خوض علاقة تفاهم وتكامل مع ايران، العربي الذي يخشى إحراج القاهرة او إغضاب الخليج سيرمي كل مصائب العراق وسوريا والاقتتال الطائفي على السياسات الايرانية وفي افضل الاحوال سيُعادل بينها وبين السعودية متناسياً تموضع الدولتين في قضايا المنطقة. أزمة العرب أكبر من ايران التي تدفع اليوم مع حلفائها ثمن هذه الأزمة. فأزمة العراق سببها صدام حسين ومن دعم حربه وموّلها على ايران وما تركه ذلك من انحلال في المجتمع والهوية العراقية، ثم الاحتلال الاميركي ومن فتح له الحدود، فيما تأتي ايران في آخر سُلم المتهمين.
ارتكبت ايران العديد من الأخطاء السياسية في الاقليم ولم توفق في تقدير طبيعة تحولات ما بعد 2011، إلا انها عانت من هذا القصور وهي تتموضع بمواجهة الاميركيين والصهاينة الى جانب قوى المقاومة العربية، حيث أتاحت لها تحقيق توازن ردع غير مسبوق في تاريخ الصراع على جبهات غزة ولبنان وسوريا. المصالح الإيرانية ـ العربية جلية، إيران قوة اقتصادية صاعدة، قوة إسلامية ـ حضارية معاصرة، عمق جيو ـ استراتيجي، وعقدة اتصال برية مع العمق الآسيوي حيث يتحدد مستقبل العالم. تحتاج إيران لتقديم مشروع رؤيوي لمستقبل المنطقة تفاوض وتحاور العرب من خلاله، مشروع عمدته الاستقلال والمقاومة ولكن مع رافعات أخرى تلامس الهم اليومي للمواطنين العرب. بالمقابل يحتاج العرب لاستعادة توازنهم، للخروج من هيمنة السعودية، وتعزيز الاتجاهات العقلانية داخل المنطقة.
إيران ليست الحل لفشل العرب، ومن غير المنطقي ان تسعى ايران لتكون الحل والمخلّص، ومن المجحف مطالبتها بذلك، ومن الافتراء نسبة هذا الفشل لها. العرب هم المسؤولون عن الخروج من هذا العبث. السعودية ذاتها ستتحطم على المدى البعيد ان حاولت استلحاق المشروع العربي المتداعي نظراً للكلفة الباهظة لذلك. في النهاية ستتكفل سياسات «توازن القوى» بوجه السعودية من داخل المجال العربي مدعومة بالتأثيرات الإقليمية ـ الدولية بعودة قوى عربية وازنة نحو الحوار والنقاش مع ايران من منطلق المصالح المتبادلة.
لحينها تحتاج إيران لتعميق ونمذجة تحالفاتها الحالية، الانفتاح والاستماع للنقديين ممن يؤمنون بالشراكة معها، وبناء جسور مع المحايدين بقدر ما يحتملون. في هذا السياق، الديبلوماسية العامة الإيرانية بحاجة لإعادة نظر شاملة، مثل تعزيز مجالات «السياسات المنخفضة» (كالتعاون الأكاديمي، الأهلي، والبحثي، الطبي وقضايا البيئة والتنمية المحلية) وإبراز عناصر الغنى والتنوع الثقافية المحلية في الديبلوماسية الإيرانية وتقوية الديبلوماسية الشعبية والديبلوماسية الرقمية. في الخلاصة تبدو المعضلة الأبرز في علاقات العرب بإيران هي في سعي «أنظمة وقوى الفشل» العربي إلى «تصدير الأزمة» إلى إيران أكثر من «تصدير الثورة» إلى العرب.
حسام مطر- السفير اللبنانية-