بشكلٍ أو بآخر، اختار آل سعود الخليفيين لأداء الإستراتيجيّة الأكثر تهوراً في التعامل مع الإيرانيين، وهي إستراتيجيّة “التعامل بالمثل”. يظن السعوديون أنهم قادرون على إيقاع أشدّ الضربات ضد إيران من خلال “إثارة القلاقل” الداخلية، واللّعب على التوترات ذات الطابع العرقي والمذهبي. بالنسبة لآل سعود؛ فإن كلّ حيل الإزعاج والإفشال التي يمكن أن تضغط على طهران باءت بالفشل الذريع، وخاصة تلك الضغوط التي يتم تحريكها في “إقليم المحاور”. هذا الأمر بات “حقيقة” بعد أن وجد النظام السعودي نفسه في مأزق متكرر، وفي سلسلة مستمرة من الفشل الإقليمي، وخاصة بعد تجريب السياسة “الخبيثة” التي عُرف بها بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات السعودي الأسبق، والذي يُعرف في الأروقة المغلقة ب”المستر إكس”، أو “القط إكس”، في إشارة إلى اضطلاعه بالملفات ذات الطابع الأمني والمخابراتي، واستعانته بالجماعات الإرهابية لتنفيذ “أقذر المهمات”.
ولكن السعوديين لم يكونوا يستبعدون، منذ البداية، سياسة “التدخل المباشر” في الشأن الإيراني. وكان هناك جهد لافت، ومتدرج، في هذا السياق، وظهر على الأقل منذ العام ٢٠١١م، ولاسيما من خلال الأدوات السعودية في البحرين، وعلى رأسها آل خليفة. في تلك الفترة، حل الإخواني الكويتي القديم عبد الله النفيسي البلاد، والتقى بمسؤولين عسكريين وأمنيين خليفيين، وبينهم وزير الدفاع الخليفي، وطرح النفيسي “المشروع” الذي طالما كان يدعو إليه، والذي اختصره في إحدى مقابلاته التلفزيونية بعبارة “اشغلوهم بأنفسهم”، في إشارة إلى الإيرانيين. تلقف المشير الخليفي هذه الفكرة، وحينما تأكد بأن آل سعود مؤيدون لها، وأبدوا الحماسة لها، فقد سارع إلى الإعداد لها، وجمع عددا من المرتزقة، ومن خلال ضباطه وبعض عساكر المخابرات الخليفية، للتخطيط لهذا المشروع.
كان السعوديون يراقبون ردود أفعال إيران حيال “التجربة الخليفية” في الهجوم على إيران، وفي إثارتها للملفات الداخلية الخاصة بها. كان واضحا أن طهران “غير معنية” بكل ما كان يصدر عن آل خليفة، ولم يغير المسؤولون الإيرانيون سياستهم حيال الملف البحراني، بل كان هناك تأكيد أكثر على التنديد بالجرائم الخليفية، والوقوف مع المطالب الشعبية. ولم تذهب إيران أكثر من هذا الحد في التعليق على “الاستفزاز الخليفي”، وكان لافتا أن الدبلوماسية الإيرانية اختارت أحيانا كثيرة أسلوب “السخرية” في الرد على هذا الاستفزاز، وقد أضفت المتحدثة السابقة باسم الخارجية، مرضية أفخم، طابعا من الجدل “الناقض” ردا على الاتهامات الخليفية لبلادها، في حين كان زميلها أمير عبد اللهيان، حريصا على أسلوب دبلوماسي آخر يجمع بين الاستخفاف بتلك الاتهامات، ودعوة الخليفيين للإنشغال بأوضاعهم الداخلية والاستجابة لمطالب الناس.
قرأ آل سعود هذا المنحى الدبلوماسي الإيراني بطريقة خاطئة، وظنوا بأن الإيرانيين في “وضع ضعيف” أمام الاستحقاق النووي، وأنهم “غير قادرين” على الذهاب بعيداً في ردود الأفعال خشية على “الوضع الداخلي الهش”. مرر “الخبراء” السعوديون هذا التحليل إلى “غرف القرار السعودي”، وأقنعوا المسؤولين هناك بأنّ الفرصة قد حانت للمضي في الخطوة التالية، أي “التدخل العلني” في شؤون إيران الداخلية، والتبني الكامل ل”المعارضات الإيرانية” والملفات “المتأزمة” في داخلها. وكانت البداية عبر تحريك ملف الأهواز، حيث موّل آل سعود مؤتمرات واجتماعات لمعارضين إيرانيين انفصاليين، وجندوا عددا من الشخصيات من البحرين والسعودية والكويت وباكستان ومصر لتولي مهمة “توتير” هذا الملف، ونقله من عاصمة لأخرى، ومن قناة إلى أخرى. وعلى مدى أكثر من سنوات، وجد آل سعود وآل خليفة بأن شيئا لم يحصل في منطقة الأهواز الإيرانية، ولم يتحقق السيناريو الذي كان يُخطط له، وهو ما دفعهم إلى الانتقال إلى ملف آخر، أكثر خطورة، وهو ملف “المعارضة الإيرانية المسلحة”، والذي انكشف مع مشاركة الأمير السعودي تركي الفيصل في مؤتمر منظمة “مجاهدي خلق” في باريس قبل نحو شهرين، وإعلان الفيصل تبنيه لأجندة هذه المنظمة المتهمة بالإرهاب.
في هذا السياق، هناك أكثر من مشروع وخطة يدفع آل سعود باتجاهها، وهم يجدون الخليفيين “العبيد” الأكثر إتقانا في تنفيذ معظم هذه الخطط، وبوسائل يراها مراقبون “مبتذلة” و”مكشوفة”، ومن ذلك البرنامج “المثير للسخرية” التي يُنظم في البحرين اليوم السبت، ٦ أغسطس، من قبل ما تُسمى ب”الفيدرالية العربية لحقوق الإنسان”، وهي إحدى المنظمات الحكومية (الممولة سعوديا)، والتي ستعلن اليوم عن ما وصفته ب”المبادرة العربية لوقف التدخلات الإيرانية في الوطن العربي”، وهو ذات “الاهتمام” الذي فرضته الرياض على الجامعة العربية في اجتماعها الأخير في موريتانا، والذي سيأخذ حيزا أكبر في أداء الجامعة مع أمينها العام الجديد أحمد أبوالغيظ، المعروف بعلاقته الوطيدة مع إسرائيل.
حتى الآن، لا يبدو أن التنفيذ السعودي والخليفي لهذا المخطط يحظى بأية احترافية أو بمستوى ممكن من إقناع الرأي العام، وخاصة أن الأدوات التي تتولى هذا المخطط لا تحظى بأي احترام شعبي، وهي معروفة بكونها موالية لأنظمة الخليج “القمعية”، كما هو الحال مع المؤتمر المشار إليه الذي ينطلق اليوم في البحرين بفندق الخليج، والذي يرعاه رئيس البرلمان الخليفي، أحمد الملا، الذي ظهر في أكثر من مناسبة ولقاء باعتباره داعماً لسياسة الاضطهاد الطائفي التي يطبقها آل خليفة، وسوّق الملا العديد من “العبارات العنصرية” التي أسسها الإعلام والصحافة الموالية ضد إيران. وهو ما يجعل من المؤتمر المذكور “نسخة طبق الأصل” من “الأكاذيب” الرسمية التي تطبع الخطاب والسلوك في دول الخليج، وخاصة في البحرين والسعودية، وهي أكاذيب تتعزز مع اختيار وجوه “متطرفة” وغير مؤمنة بالديمقراطية وحقوق الإنسان لإدارة محاور المؤتمر، مثل الكويتي فهد الشليمي، المعروف بدعواته لاستعمال العنف ضد المعارضين في الخليج.
اختيار البحرين لهذا المؤتمر له أكثر من هدف بالنسبة لآل سعود، ومن بينها تعزيز الدور “الوظيفي” لآل خليفة باعتبارهم أداة سعودية خالصة لتنفيذ أجندة النظام السعودي في مواجهة إيران، إضافة إلى محاولة “إضفاء” حراك “حقوقي مصطنع” في البلاد التي تشهد أعلى مستويات الاضطهاد والانتهاكات والجرائم لحقوق الإنسان، ويموج فيها على مدى خمس سنوات حراك ثوري وشعبي واسع، في حين يأمل آل خليفة وداعموهم النجاح في التغطية على ذلك عبر الاستمرار في “إثارة” إيران واستفزازها، وتخضيم البعبع الإيراني على مستوى العالم العربي، وفي المسافة ذاتها التي يعمل فيها السعوديون على تقليص مسافة التلاقي مع الإسرائيليين.
في المجمل، لم ينجح هذا المشروع في تأدية أهدافه المركبة، حيث تبدو إيران أقوى في مواجهة الاستفزاز وتوتير داخلها، كما أن الأهداف المتعلقة بتخريب الثورة البحرانية، وخلق أجواء مكذوبة عن طبيعة الثورة ومنطلقاتها؛ تصطدم دوماً بحائط الصمود الشعبي، والذي أثبت على مدى السنوات الماضية؛ قدرته “الذكية” على تفريغ هذه المشاريع من محتواها، وتحويلها إلى مادة إضافية في السخرية منها وقلْب نتائجها السلبية على أصحابها، المعروفين وغير المعروفين.
البحرين اليوم-