بعد عامين ونصف من الفراغ، تم شغل منصب الرئاسة اللبنانية أخيرًا بموجب تصويت البرلمان اليوم. وتعكس هذه الخطوة حالة التقاء مؤقتة ونادرة في المصالح بين أغلبية الأقليات، وهي خطوة هامة للمضي قدمًا في جلب بعض الحياة إلى المؤسسات الدستورية في البلاد. لكنّ السياسة في البلاد ستبقى متوترة ومنقسمة ولا يظهر في الأفق أي تحسن ملحوظ في الحكم.
والفائز بمقعد الرئاسة هو «ميشيل عون» (81 عامًا) زعيم كتلة الإصلاح والتغيير المسيحية ذات الأغلبية، وحليف حزب الله، وعضو تحالف 8 مارس/ آذار، المتحالف مع إيران والنظام السوري والرئيس «بشار الأسد». وانتزع عون الترشيح إلى حد كبير قبل أسبوعين حينما أعلن «سعد الحريري» زعيم المعارضة وزعيم التحالف بين تيار الاستقلال وأحزاب 14 مارس/ آذار، دعمه لـ«عون». في المقابل، يتوقع أن يشغل «الحريري» منصب رئيس الوزراء الذي شغله من قبل من عام 2009 إلى 2011. وعلى الرغم من معارضة ترشيحه من قبل رئيس البرلمان «نبيه بري» والمرشح الرئاسي المنافس «سليمان فرنجيه»، وكلاهما عضو في تحالف 8 مارس/ آذار، خرج «حسن نصر الله» زعيم حزب الله في خطاب إبرام الاتفاق وأعلن تأييده لـ«عون».
ظل منصب الرئاسة شاغرًا منذ مايو/ أيار عام 2014، عندما انتهت الفترة الرئاسية للرئيس «ميشيل سليمان» التي امتدت لـ 6 سنوات. وفي البداية، دخل كل من تحالف 14 مارس/ آذار وتحالف 8 مارس/ آذار المتنافسين بمرشحيهم، لكن لم يحظ أي منهما بالدعم الكافي. ولم يتفق الطرفان على مرشح من طرف ثالث. استمرت إدارة الحكومة في هذه الفترة، وإن كان ذلك على مستوى منخفض من الكفاءة، في ظل حكومة ائتلاف وطنية برئاسة رئيس الوزراء «تمام سلام».
أزمة «الحريري»
دعا العديد من الساسة والأحزاب لسرعة ملئ الفراغ الرئاسي، لكنّ «الحريري» كان متعجلًا بشكل أكبر. وفي الانتخابات المحلية الأخيرة، خسر حزبه في مدينة طرابلس السنية، وفاز فقط بفارق ضئيل في الانتخابات المحلية الحاسمة في العاصمة بيروت. ويواجه «الحريري» مشاكل مالية كذلك مع الشركة التي بناها والده الراحل، سعودي أوجيه، التي تواجه تدهورًا خطيرًا في المملكة العربية السعودية. وأثّر هذا كثيرًا على تمويل الحزب، وذكر أنّ تيار المستقبل لم يستطع دفع رواتب موظفيه في بعض مؤسساته، مثل قناة المستقبل التلفزيونية. ويحتاج «الحريري» لملء فراغ كرسي الرئاسة ليعود لمنصب رئيس الوزراء. في العام الماضي، دعم «الحريري» ترشيح «سليمان فرنجيه»، لكنّ هذا الاختيار تسبب في تقارب «عون» مع منافس الحريري القديم «سمير جعجع». ونجح الإثنان، «عون» و«جعجع»، في حشد معارضة كبيرة لترشيح «فرنجيه» في المجتمع المسيحي وأفسدا عليه ترشيحه.
وأثار اختيار «الحريري» الأخير لعون الانقسامات أيضًا داخل تحالف 8 مارس/ آذار. «فرنجيه» هو المنافس الطبيعي، و«برّي» لديه اختلافات وصدامات سياسية طويلة وقديمة مع عون وابن أخيه «جبران باسيل»، وزير الخارجية الحالي. ويواجه تحالف 8 مارس/ آذار موقفًا لا يختلف عن موقف الحزب الجمهوري الأمريكي ومرشّحه «دونالد ترامب»، فبعد أن خلق الظروف لصعوده، أصبح قلقًا الآن حول ما إذا كان يملك الحس الكافي ليصبح رئيسًا. وبالمثل، فإنّ تحالف 8 مارس/ آذار قلق إزاء «عون» المعروف بتقلبه. ولقد كان متحالفًا مع حزب الله منذ 2005، لكن عندما كان في السلطة كرئيس للوزراء من عام 1988 إلى 1990، قاد حملة ضد التنظيمات المسلحة غير التابعة للدولة، بما فيها حزب الله، وأعلن الحرب على والد بشار، «حافظ الأسد». كما ينظر إلى عون من قبل أناس مثل «بري» وآخرين على أنّه صعب التعامل معه كرئيس، لأنّه سيكون الرئيس الأول الذي يجمع بين قوة القاعدة المسيحية والمجتمع معًا إلى حد كبير منذ عام 1970. ولم يتمتع الررؤساء الخمسة السابقين سواء بعدد كاف من التابعين الداعمين، وانتهوا بالتالي كقادة ضعفاء.
وشملت اختيارات «الحريري» الحالية والماضية زعماء متحالفين مع حزب الله والأسد وإيران، لكنّ «فرنجيه »الذي كان طويلًا حليفًا موثوقًا من قبل عائلة الأسد وحزب الله وإيران، كان خيارًا أكثر أمانا لتحالف 8 مارس/ آذار. على أي حال، فإنّ دعم حزب الله حاسم داخل التحالف، في حين أنّ معارضة «بري» الحالية مفيدة كورقة مساومة. وبعد انتخاب «عون»، سيكون هناك تفوضات أكبر حول تشكيل الحكومة القادمة، وإعادة انتخاب «بري» في البرلمان، وتنمية القطاعات المربحة كحقول الغاز البحرية.
ومن غير المثير للدهشة، أنّ كلًا من مرشحي حزب الله لا يتمتعون بكثير من القبول لدى قاعدة «الحريري» السنية. وقد أحدث ذلك صدعًا في حزب تيار الاستقلال صاحب الأغلبية السنية وتحالف 14 مارس / آذار المعادي للأسد. وإذا نجح «الحريري» في رئاسة الحكومة القادمة، سيسمح له تأثير منصبه كرئيس للوزراء في إعادة بناء بعض من قاعدة السلطة التي فقدها منذ عام 2011.
انتصار لإيران
إقليميًا، فإنّ انتصار «عون» في الانتخابات سيكون انتصارًا لنفوذ إيران في الشام، وضربة للسعودية. وقد خفضت الرياض من مصالحها في لبنان. في فبراير/ شباط، ألغت السعودية حزمة مساعدات تبلغ قيمتها 4 مليار دولار لقوات الأمن اللبنانية بعد رفض وزير الخارجية اللبناني «باسيل» دعم قرار الجامعة العربية بإدانة اقتحام السفارة السعودية في طهران. وقد أظهرت الإدارة السعودية فتورًا نحو «الحريري». ولا يعرف بدقة هل شطبت السعودية لبنان من أجندتها كدولة تحت سيطرة حزب الله، أو أنّها لا تقوى على متابعتها مع المشاكل الداخلية والحرب في اليمن، أو أنّها قد فقدت الثقة في القدرات القيادية للحريري.
وسيعقب انتخاب «عون» مشاورات رئاسية مع البرلمان لتعيين رئيس للوزراء, وعلى الأرجح سيكون «الحريرى». ثمّ سيبدأ «الحريرى» بتشكيل حكومة جديدة. لا يوجد شئ يدعو للتسرع في هذه العملية؛ فالمفاوضات الأخيرة لتشكيل حكومة استمرت 10 أشهر. فالأقليات المختلفة كل منها يريد قطعة من الكعة، وستشمل التفاوضات مناقشات صعبة حول قانون انتخاب برلمان جديد، ومساومات على صفقات الغاز البحرية، والعديد من المسائل الخلافية الأخرى.
من ناحية، فإنّ انتخاب «عون» للرئاسة مثال مرحب به للتحول السلمي والدستوري للسلطة في منطقة يندر فيها هذا الأمر، حيث أنّ السؤال فقط حول من يخلف الرئيس في الجارة سوريا قد خلّف مئات الآلاف من القتلى وملايين النازحين. ومن ناحية أخرى، فإنّ اختيار «عون» للرئاسة من قبل الأوليغارشية (الأقلية) في البلاد، يديم إلى حدٍ كبير النظام السياسي المختل ومن غير المرجح أن يفضي إلى التغييرات أو التحسينات الحكومية التي يتوق لها كثير من شباب ومواطني لبنان غير المنحازين. وتبقى لبنان مثالًا بارزًا للاستقرار النسبي والعيش المشترك وتقاسم السلطة في منطقة تشتعل بالحروب الطائفية الأهلية، لكنّ حكومتها تستمر في السقوط بعيدًا عن آمال الأغلبية العظمى من شعبها.
فورين أفيرز- ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد-