إذا كان الشاعر الكبير نزار قبّاني نظم "إني أتنفس تحت الماء.. إنّي أغرق.. أغرق" بسبب الحب، فإنّ حال الشعوب والمجتمعات العربية التي تتسابق اليوم إلى حافّة الانهيار والتوجه نحو الانتحار الجماعي، دولاً ومجتمعات، تتنفّس تحت الماء، في اللحظات الأخيرة، ستغرق في بحور أخرى من الدم والخراب، بلا أي جدوى ولا أي منتصر في النهاية.
بدلاً من التفكير اليوم في التوقف عن "هستيريا" الحروب الداخلية والتناحر المجتمعي والإقليمي، تتسابق دول المنطقة على إنفاق المزيد والمزيد من المليارات على سياقات العسكرة والتسلّح، في الوقت الذي تحذّر فيه المنظمات الإنسانية الطبية الدولية من كوارث كبيرة نتجه نحوها، في المنطقة هنالك قرابة 13 مليون طفل في الشرق الأوسط (طبعاً عرب) لا يتلقون تعليماً، ومليون طفل سوري خارج المدارس، وانتشار لوباء الكوليرا في اليمن حصد في الأسابيع الماضية أكثر من مائتي شخص، يهدد بكارثة إنسانية حقيقية!
أنهى الرئيس الأميركي دونالد ترامب زيارته للسعودية ولقاءه بالزعماء العرب والمسلمين، بعد أن حقّق الهدف الحقيقي لزيارته ووقع عقوداً بـ300 مليار، منها أكثر من 100 مليار لصفقة التسلّح، لمواجهة إيران بدرجة رئيسة!
على الطرف الآخر، تنفق إيران أكثر من نصف عائداتها النفطية من أجل مشروعها للهيمنة على المنطقة العربية، في تأسيس الميليشيات وشراء وصناعة الأسلحة، بدلاً من أن تفكّر بطريقة مختلفة في التعامل مع العالم، بعد توقيع الاتفاقية النووية، وإعطاء مؤشرات على استعدادها لإنفاق الأموال المجمّدة على مشروعات تنموية واقتصادية لخدمة الشعب الإيراني، فضلاً عن شعوب المنطقة.
المفارقة أنّ الشعب الإيراني أرسل رسالة واضحة للداخل والخارج معاً، عندما قرّر التصويت لمنطق الاعتدال والانفتاح والحوار. وبينما يصرّ سدنة المؤسسة المحافظة على منطقهم الحالي المصبوغ بالطائفية وحلم الهيمنة، في حين طغى على الشعارات الانتخابية والخطابات والمناظرات الوعود بإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية وقضايا الفساد السياسي، فيما "غاب الإسلام عن الانتخابات"، على حدّ تعبير المختص في الشأن الإيراني مهدي خلجي.
من الواضح، إذاً، من مجريات الأمور والتطورات الراهنة أنّ المنطقة تسير نحو "العسكرة"، سباقات التسلّح وتقاسم النفوذ والأحلاف الإقليمية والدولية، وإنفاق مئات المليارات على الحروب والذخائر والجيوش.
في العقود الماضية كانت "العسكرة" بدلاً من التنمية تتم لمواجهة إسرائيل، من قبل الأنظمة العربية، فأُنفقت المليارات على شراء الأسلحة وبناء الجيوش، وخسرنا الحروب الرئيسة. وبعد عقود من هذا المسار اكتشفت المجتمعات أنّ كل تلك المليارات تبخّرت بلا أي عائد حقيقي، فبمئات الأفراد هزم داعش الجيش العراقي، الذي هرب قادته مخلّفين وراءهم الأسلحة الأميركية ليغتنمها التنظيم، وفي سورية لولا تدخل إيران وحزب الله والميليشيات الأخرى، وبعد ذلك روسيا، لسقط النظام في شهور، والحال نفسها تنطبق على الحوثيين والميليشيات الأخرى!
أمّا اليوم فالوضع أصبح أكثر خطورة وسوءاً والمعادلة تتجه إلى الزوايا الحادّة أكثر، فالعسكرة طاولت الشعوب نفسها، وتحوّل الأطفال والشباب إلى محاربين يقاتلون بعضهم، وأخذت طابعاً أهلياً وداخلياً، من زاوية، ومن زاوية ثانية بدأت إشارات وعلامات الخراب تظهر في الأفق، مع ملايين الأطفال المشردين وانتشار الأوبئة، مع ازدياد ضغوط البطالة والفقر والأزمات الاقتصادية والفشل التنموي وعجز الأنظمة العربية عن مواجهة التحديات، بالتزامن مع انخفاض أسعار النفط بصورة ملموسة، ما قد يؤثّر على مجمل التفكير في مستقبل هذه المنطقة من العالم!
بالنتيجة داعش هو ابن شرعي لهذا الواقع الموبوء، ومواجهته تتم عبر أفق جديد، سياسي اقتصادي وثقافي، مغاير تماماً للسياق الراهن!
د. محمد أبورمان- الغد الأردنية-