الخليج الجديد-
قبل وصوله إلى البيت الأبيض، تعهد «دونالد ترامب» بإجبار دول الخليج على أن تدفع لبلاده، وهو تعهد أوفى به إلى حد كبير خلال العام الأول من توليه الحكم، 2017؛ حيث أغدقت خزائن الخليج على الخزينة الأمريكية في هذا العام مئات المليارات من الدولارات.
ولم يكن الرئيس الأمريكي، أو قل التاجر الشاطر صاحب الخبرة الطويلة في مجال الأعمال، ينجح في ذلك لولا معرفته الجيدة بشفرات خزائن الخليج، التي نجح في فكها عبر «فزاعة إيران»، العدو الأول لبعض دول الخليج، فضلا عن اللعب على وتر الخلافات الخليجية، والتماهي مع رغبات البعض في دول الخليج في توريث الحكم أو تدعيم أواصر حكمهم.
فـ«ترامب»، على خلاف سلفه «باراك أوباما»، اتخذ، بعد توليه الرئاسة الأمريكية في يناير/كانون الثاني 2017، موقفا متشددا من إيران ومن الاتفاق النووي وتعهد بحماية دول الخليج من تهديدات طهران؛ الأمر الذي أسعد بعض أنظمة الخليج كثيرا خاصة أنها وجدت في إدارته آذانا صاغية تتفاعل مع قلقها من تدخلات إيران.
وبينما ألمح، في بدايات الأزمة الخليجية، التي اندلعت في 5 يونيو/حزيران الماضي، إلى أنه له دور فيها، لم يسع إلى حلها سريعا، فربما إطالة أمد الأزمة يدر على بلاده المزيد من الأموال.
أما في الرياض حيث النجل المفضل للملك «محمد بن سلمان» يسعى لوراثة العرش، وفي أبوظبي حيث حاكمها يسعى «محمد بن زايد» إلى دعم نفوذه كحاكم فعلى للإمارات؛ كان نيل الرضا الأمريكي مهما بالنسبة لهما لتحقيق مآربهما، وهو ما تماهي معه «ترامب»، وفتح معه المزيد من شفرات خزائن الخليج.
ولم يغفل «ترامب» استغلال الظروف الحالية وحاجة دول بمجلس التعاون الخليجي إلى الإدارة الأمريكية في صراعات المنطقة مع إيران وفي سوريا وفي اليمن؛ ليحقق أكبر المكاسب التجارية من خلال صفقات ضخمة لبيع الأسلحة، ولاسيما إلى السعودية والإمارات.
كما تعهد «ترامب» بعلاقات رائعة مع الحلفاء في الخليج بعد أن شاب تلك العلاقات فتور وتوتر ملحوظان في عهد «أوباما» على خلفية موقف الأخير من إيران، وخاصة موافقته على الاتفاق النووي.
ويبدو أن سياسات «ترامب» أتت أكلها سريعا في صب الأموال من الخليج إلى الخزانة الأمريكية؛ فبعد أول جولة خارجية له كرئيس للولايات المتحدة، وكانت للسعودية، في مايو/أيار الماضي، تفاخر «ترامب» بأنه أحضر مئات المليارات من الدولارات من الشرق الأوسط.
وجل تلك الأموال كانت من السعودية؛ حيث وقع الجانبان عشرات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في المجالات العسكرية والتجارية والطاقة والبتروكيماويات، وكذلك توقيع مذكرة تفاهم لمراقبة مصادر تمويل الإرهاب.
صفقات أسلحة
وقُدرت قيمة تلك الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بحوالي 350 مليار دولار في 10 سنوات، فضلا عن اتفاقيات دفاعية تقدر قيمتها بحوالي 110 مليارات دولار.
وفي مايو/أيار أيضا، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أن الولايات المتحدة بصدد بيع الإمارات 160 صاروخ باتريوت، بقيمة إجمالية تقارب ملياري دولار.
كذلك، استطاعت شركات الدفاع الأمريكية تحقيق أرقام قياسية في العقود التي وقعتها مع الإمارات في معرض ومؤتمر إيدكس 2017 (الذي انعقد في فبراير/شباط)؛ حيث استحوذت الشركات الأمريكية على الجزء الأكبر من العقود التي بلغت 90 عقدًا بقيمة إجمالية بلغت 5.6 مليارات دولار.
كما منح البنتاغون الأمريكي شركة «أوربيتال إيه تي كيه» للدفاع التقني عقدًا لتزويد كل من البحرين ومصر بمحركات دافعة لصواريخ سايد وايندر، وبلغت قيمة العقد 67 مليون دولار.
وتعاقدت قطر مع شركة رايثيون الأمريكية، رابع أكبر شركة مقاولات دفاعية في العالم، لتزويد القوات المسلحة القطرية برادار للإنذار المبكر، بعقد بلغت قيمته مليار دولار، وذلك بعد أن تلقت الشركة الأمريكية الضوء الأخضر من البنتاغون للمضي في الصفقة.
وجاء هذا في إطار الرؤية الاستراتيجية لإدارة «ترامب» في الحاجة إلى تقوية دفاعات دول الخليج العربي، في محاولة لفرض التوازن أمام طموحات إيران التوسعية.
السندات والبنية التحتية
وخلال هذا العام، رفعت دول مجلس التعاون الخليجي من رصيد استثماراتها في أذون وسندات الخزانة الأمريكية، ووصلت قيمة استثمارات الدول الخليجية الست في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 257.1 مليار دولار محققة زيادة نسبتها 5.1% مقارنة بالشهر السابق.
ويكفي كي نعرف حجم الزيادة الكبيرة لرصيد الخليج من أذون الخزانة أن نعرف أن السعودية فقط رفعت رصديها منها بنسبة 50.2 في المائة، وقيمة 48.5 مليار دولار، خلال عام واحد، وذلك مقارنة برصيدها بنهاية أكتوبر/تشرين الأول 2016، البالغ نحو 96.7 مليار دولار.
ولا تشمل هذه الأرقام الاستثمارات الأخرى لدول الخليج في الولايات المتحدة، سواء كانت حكومية أو خاصة.
وأعلنت دول خليجية الاستثمار في خطة «ترامب» للبنية التحتية في الولايات المتحدة التي تقدر بقيمة تريليون دولار.
وتتولى الصفقة السيطرة على مشاريع إعادة بناء الطرق والجسور الأمريكية عن طريق القطاع الخاص وبلدٍ أجنبي.
وتعتزم الدوحة استثمار 30 مليار دولار في مشروع تطوير البنية التحتية في الولايات المتحدة.
كما انضمت السعودية إلى مستشار كبير في الخارج لـ«ترامب» لبناء صندوق استثمار بقيمة 40 مليار دولار لخصخصة البنية التحتية الأمريكية.
وتسعى صناديق سيادية أخرى في الخليج، مثل الهيئة العامة للاستثمار الكويتية، أيضا، إلى الاستثمار في مشروعات البنية التحتية الأمريكية.
الأزمة الخليجية
وكشفت الأزمة الخليجية، التي وقعت في يونيو/حزيران الماضي عندما قطعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها بقطر بدعوى دعمها للإرهاب وهو ما نفته الأخيرة، عن ارتباك الإدارة الأمريكية إزاء الحصار حسمته وزارتا الخارجية والدفاع (البنتاغون).
وكتب «ترامب» بعد بدء الأزمة مباشرة على حسابه في «تويتر»: «من الجيّد رؤية أن زيارتي للسعودية مع الملك، العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، و50 دولة، تؤتي ثمارها، قالوا إنهم سيتخذون نهجاً صارماً ضد تمويل الإرهاب، وكل المؤشرات كانت تشير إلى قطر، ربما سيكون هذا بداية النهاية لرعب الإرهاب».
غير أن موقف «ترامب» خلق خلطاً في مواقف السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث صرح وزير الخارجية، «ريكس تيلرسون»، في ذلك الوقت، بأن الحصار يعيق العمليات العسكرية في المنطقة، ومنها الحملة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، داعياً جميع أطراف الأزمة إلى الحل الدبلوماسي، كما أبدى استغرابه من الطريقة التي انتهجتها دول الحصار في اختلاق الأزمة مع قطر.
وتساءل المتابعون للأزمة الخليجية عن حقيقة الموقف الأمريكي منها؛ فهل هناك فعلاً تباين طبيعي غير مقصود في المواقف بين أقطاب الإدارة الأمريكية؟ أم أن المصالح الاقتصادية لواشنطن في المنطقة تملي عليهم تبادل أدوار معيّنة بين من يدعم هذا الطرف ومن يؤيد الطرف الآخر؟، بينما ذهب البعض إلى واشنطن تهدف لإطالة أمد الأزمة لعل ذلك يصب في خزائنها المزيد من الأموال.
وظل وزير الخارجية «تليرسون» متمسكاً بالحياد، وشجع عواصم المنطقة على الحوار وتجاوز الخلاف.
وأمام حالة التناقض في المواقف داخل الإدارة الأمريكية من الأزمة الخليجية، هاجمت وسائل إعلام أمريكية سياسة «ترامب» تجاه الأزمة، معتبرة أنها تساهم في تصعيد الأمور أكثر ولا تراعي مصالح واشنطن.
وكان موقف «تليرسون» ووزير الدفاع «جيمس ماتيس» متطابق حيال الأزمة، وهما يقولان إن الولايات المتحدة ليس بمقدورها تحمّل حالة التمزق بين المملكة وحلفائها في الشرق الأوسط من جهة، وبين قطر من جهة ثانية.
مجلة «فورين بوليسي» قالت إن بعد أقل من أسبوع على تفاخر واحتفال إدارة «ترامب» بعزل دول خليجية وعربية لقطر، اكتشف المسؤولون الأمريكيون أن عليهم السعي الآن لحماية خطة الولايات المتحدة في تشكيل صياغة سياسية متماسكة تجاه المنطقة، بحيث لا تتم عرقلة جهود مكافحة الإرهاب، أو نفور الحلفاء القدامى.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن وزارة الخارجية ووزارة الدفاع تداركتا الموقف وأصدرتا مواقف متناسقة، واعتبرت ان الحصار الذي تقوده السعودية والإمارات على قطر تقابله حملة لمحاصرته وتخفيف أضراره من قبل الولايات المتحدة.
وبالتوازي مع ذلك، نشطت دول الحصار في تنظيم المؤتمرات والندوات واللقاءات الرسمية مع الجانب الأمريكي، لـ«شيطنة» قطر وإثبات أنها تدعم الإرهاب.
وتشهد واشنطن الآن تأسيس مكاتب جديدة لجماعات الضغط لصالح دول مجلس التعاون، وأصبح هناك نهضة اقتصادية من وراء الأزمة، وهناك قاعات يتم تأجيرها للقاءات أو لندوات.
وأنعشت أزمة الخليج سوق العلاقات العامة والضغط السياسي؛ بفضل تحويل مبالغ مالية خليجية إلى العشرات من مكاتب استشارات العلاقات العامة في واشنطن، على أمل المناورة السياسية لصالحها لدى وزارة الخارجية والكونغرس، وتحسين صورتها لدى الرأي العام الأمريكي.
فقد حصل معهد الشرق الأوسط على مبلغ 20 مليون دولار خلال عامي 2016 و2017 من الإمارات، وخصصت السعودية 5.4 ملايين دولار لثلاث شركات علاقات عامة أمريكية لتحسين صورتها، في حين أبرمت قطر اتفاقاً بـ 2.5 مليون دولار مع شركة علاقات عامة يديرها وزير العدل الأمريكي الأسبق، «جون أشكروفت».