الخليج أونلاين-
في مسلسل يمتد لأكثر من 5 عقود من الزمن، هدرت السعودية الكثير من الفرص مع ارتكاب أخطاء لا تغتفر في سياستها الخارجية، ودأبت على حصد نتائج عكسية على المستوى الدولي والإقليمي.
ويشير العديد من المراقبين لشؤون الشرق الأوسط إلى أن محاصرة السعودية وحلفائها لقطر قد تكون "القشة التي قصمت ظهر البعير"، وبداية غياب دور الرياض ونفوذها ومضيها في طريق اللاعودة.
ولا تزال السعودية تحصد المزيد من النتائج العكسية لسياستها الخارجية، بداية من اتفاقية النفط مقابل الدولار مع واشنطن في سبعينيات القرن الماضي، ثم العلاقات مع نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ضد النظام الإيراني، ثم التحالف مع طهران ضد نظام صدام، وبعدها دعم حزب الله في لبنان لمواجهة منافسيه ثم العكس.
كما برز ذلك في تحالفها مع الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح والحوثيين ضد حزب الإصلاح اليمني، ثم العكس، وإنشاء التحالف العربي لإعادة الشرعية في اليمن، وتخلي دول كانت حليفة عن دعمها، وتصاعد الخلافات مع الأردن، فضلاً عن محاصرة دولة قطر، وكذلك التخلي عن باكستان.
- السعودية وأمريكا
منذ اتفاق "البترودولار" بين السعودية وأمريكا على التعامل ببيع المشتقات النفطية بالدولار بدل نظام "برتن وودز"، في يونيو 1974، ساعدت الرياض على تزعم أمريكا للنظام العالمي مالياً وسياسياً، مقابل حماية أسرة "آل سعود" من الأخطار الجانبية، لكن هذه العلاقة شابها الكثير من الشد والجذب بين الطرفين.
اعتبر النظام السعودي اتفاقية "البترودولار" أنها "مدهشة"؛ لأن أمريكا لن تطلب من الرياض النفط ولا الأموال، إنما بيع النفط بالعملة التي تحددها واشنطن، وبذلك ستفتح لهم أبواب الغنى والرفاهية، لكن أمريكا كانت "ماكرة" ببراعة في نسج بنود تلك الاتفاقية؛ لضرب خصومها، والسيطرة على مقدرات السعودية ودول العالم، بحسب ما تذكر الكاتبة التركية مروة شبنام أوروج، في مقال لها بصحيفة "يني شفق" عام 2016.
وتقول شبنام أوروج إن السعودية ضربت ببقية دول العالم، خصوصاً أعضاء منظمة "أوبك"، عُرض الحائط بهذا الاتفاق، وبالدول الفقيرة أيضاً، على حساب مصالحها، وأجبرت دول العالم على بيع مواردها النفطية وتعاملاتها بالعملة الأمريكية، لكن بالسعر الذي تحدده واشنطن، وفي حال لم تستطع فبإمكانها الاستدانة من صندوق النقد أو البنك الدولي مقابل فوائد.
أدى ذلك إلى إغراق أكثر من 100 دولة نامية بديون فاقت نسبتها 150% بين عامي 1973- 1977، ومنذ ذلك الوقت رسخت الرياض صورة سيئة عن سياستها "الانتهازية" في أذهان معظم دول العالم.
بعد سيطرة أمريكا فعلياً على الاقتصاد العالمي وتعقبها لمناجم النفط الأحفوري وإمكانية الاستغناء على النفط التقليدي، بدا شهر العسل بين "الغريمين" على حافة النهاية، ووصلت العلاقات بينهما إلى طريق مسدود مر بالعديد من العقبات، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمر وتوجيه واشنطن أصابع الاتهام إلى الرياض، وينتهي هذا المشهد بإقرار الكونغرس قانوناً يعاقب السعودية ويفتح المجال لمقاضاتها، ويحملها مسؤولية تفجيرات نيويورك، قبيل انتهاء فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي عرف بقانون "جاستا".
وانتفضت السعودية حينها، وبدت كأن حالة الطلاق مع أمريكا قائمة لا محالة، وهددت الرياض بسحب أموالها في أمريكا (750 مليار دولار)، وجال المسؤولون دول العالم؛ لاستجداء تصريحات من هنا وهناك تستنكر إقرار القانون، وبلغت حالة "الهستيريا" فيها إلى مستوى لم تصل إليه من قبل؛ لتأتي الانتخابات الأمريكية بالرئيس دونالد ترامب، ويصبح المنقذ لها ويبدد مخاوفها، وترجع العلاقات كأن شيئاً لم يحدث، بل زادت من استثماراتها في الخزانة الأمريكية بعد أن عزمت على سحبها.
- التحالف وصواريخ إيران
وبالإضافة إلى تراجع الدور السعودي إقليمياً ودولياً خلال العقود الماضية، أصبحت الصواريخ الإيرانية التي يطلقها الحوثيون، تستهدف مطاري الرياض وجدة غربي مكة، فضلاً عن قصف المناطق المأهولة بالسكان، مصدر إزعاج بالنسبة لها، في حين يصف مراقبون للشؤون الإقليمية هذه الأحداث بأنها ليست سوى حصاد ما زرعته السعودية، من إهمال وتخبط سياسي يتمثل في عدم الوقوف إلى جانب القضايا العادلة في دول الشرق الأوسط.
ومثَّل انتخاب ميشال عون رئيساً للبنان، في أكتوبر عام 2016، بضمانة الدعم الذي قدمه له سعد الحريري، رجل الأعمال الذي طالما أغدق عليه السعوديون بسخاء، ضربة مرتدة وصفعة بالنسبة للمملكة، لا سيما أن عون مدعوم من قبل حزب الله ونظام بشار الأسد، رغم أنه قاتله عندما كان جنرالاً في الجيش، بحسب ما يذكر الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، في مقال نشره موقع "ميدل إيست آي" عام 2016.
ويسرد الكاتب البريطاني في مقاله عدداً من "الخطايا الاستراتيجية"، ويقول: "ما من دولة عربية مجاورة إلا ولها حكاية يمكن أن تسردها حول التأرجح والمزاج المضطرب الذي تعبر عنه الرياض بعبارة "السياسة الخارجية"، لا سيما العلاقة مع العراق".
فقد منح السعوديون نظام صدام حسين 25 مليار دولار على شكل قروض منخفضة الفائدة ليخوض حربه مع إيران على مدى ثمانية أعوام. وفي عام 1990، بعد عامين من انتهاء الحرب، كان صدام يغرق في الدين، وسعت الرياض والكويت إلى النيل منه وتقويض نظامه من خلال رفضهما تخفيض إنتاج النفط، وكان ذلك واحداً من الأسباب التي دفعته إلى غزو الكويت. بعد ذلك، دفع البلدان، السعودية والكويت، ما مقداره 30 مليار دولار إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتشن ما بات يعرف بحرب الخليج الأولى في عام 1991، بحسب "هيرست".
وفي عام 2003، ورغم تحذير ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز، حينها، الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش من عواقب غزو العراق، وإعلان الخارجية السعودية عدم السماح باستخدام قواعدها، لكن الذي حصل كان العكس تماماً، وأصبحت الأراضي السعودية والقواعد العسكرية فيها مرافق أساسية لا غنى لقوات التحالف عنها، ثم أطيح بصدام حسين، وخلَّف فراغاً في السلطة، ليشكل غزو العراق هدية تقدم لإيران على طبق من فضة، ومن ثم أصبحت تهيمن على البلد وتنطلق منه مليشياتها إلى البلدان الأخرى، بحسب صحيفة "ميدل إيست آي".
وبعد سلسلة متعاقبة من الزيارات لمسؤولين- من الشيعة حصراً- في حكومة حيدر العبادي، أعادت الرياض مؤخراً بناء علاقاتها مع بغداد، وعرض وزير الداخلية العراقي، قاسم الأعرجي، على السعوديين القيام بدور الوساطة مع إيران، رغم أن الأعرجي يُعد مسؤولاً كبيراً في منظمة بدر المقربة من قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع لقوات الحرس الثوري الإيراني، الذي بات يلقب بنابليون التدخل العسكري الإيراني في سوريا والعراق، وذلك في تحوُّل مفاجئ في السياسة الخارجية السعودية، سبقتها تصريحات نارية بين البلدين.
- السعودية ونزيفها في اليمن
على مدى عقود كان رجل السعودية في اليمن هو علي عبد الله صالح، وأنقذ حياته الأطباء السعوديون إثر تعرضه لهجوم بالقنابل وإصابته بحروق بليغة، واتفقت السعودية مع الإمارات على دعم الحوثيين وصالح، وشجعوهم على الزحف باتجاه العاصمة اليمنية صنعاء ضد حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي فاز بالانتخابات بعد ثورة فبراير 2011، بحسب ما ذكر الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي، في مقابلة بثتها قناة "روسيا اليوم" مؤخراً.
وكانت خطة محور الرياض-أبوظبي تقضي بإشعال حرب مع الإصلاح، إلا أن الخطة جاءت بنتائج عكسية مذهلة؛ ذلك أن محور الحوثيين-صالح دخلوا صنعاء دون مقاومة، ثم بدؤوا الزحف نحو عدن، ليدرك السعوديون خطأ ما ارتكبوه، إذ وفروا لإيران مدخلاً جديداً في المنطقة، ولم تكن لديهم خطة بديلة أو خيارات تذكر، لتلجأ الرياض إلى إنشاء تحالف عسكري وشن حملة قصف جوي أحرقت الأخضر واليابس، وأدت إلى تشويه صورتها في المجتمع الدولي ولدى المنظمات الحقوقية.
- السعودية ومصر
لم يلجأ ملك السعودية الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، إلى خيار استراتيجي "موفق" حينما قرر الوقوف في وجه الثورة المصرية، لتسجل أكبر خطيئة ارتكبتها المملكة العربية السعودية على الإطلاق.
وأنفقت الإمارات والسعودية ما يزيد على 50 مليار دولار على رجل فشل فشلاً ذريعاً في جلب الاستقرار إلى مصر، وانتهى به المطاف أن يغازل عدو السعودية؛ إيران، لا سيما في مجلس الأمن الدولي، ووقوفها إلى جانب نظام الأسد ضد الرياض وحلفائها، وإقامة علاقات مع حزب الله والحوثيين في اليمن؛ ذلك لأن علاقة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تقوم على الدفع "المسبق"، بحسب الصحفي البريطاني ديفيد هيرست؛ لتعلق السعودية تزويد مصر بـ700 ألف طن من منتجات البترول شهرياً.
وفي الوقت الذي كانت فيه إيران تبدو معزولة قبل حرب العراق عام 2003، وكانت السعودية تتمتع بنفوذ واسع إقليمياً ودولياً، ها هي المملكة اليوم محاطة بالصراعات وبالدول المتهاوية، تخوض الآن حرباً في الشمال وأخرى في الجنوب، ويتساقط حلفاؤها تباعاً بسبب سياستها الخارجية "المضطربة"، مقابل حضور فعلي إيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتتفاخر بفرض هيمنتها على أربع عواصم عربية.
ورغم إنفاق السعودية عشرات المليارات على مشاريع نفوذها الخارجية، فالمنطقة اليوم أقل استقراراً من أي وقت مضى.
ورغم أنها تعتبر نفسها قائدة في العالم العربي السني، لم يعد ثمة شك في أن المملكة عاجزة عن تقديم رؤية واضحة لسياستها الخارجية.
- قطر والأردن
وفي موقف مفاجئ ومن دون مقدمات، شنت الرياض وأبوظبي والمنامة، في 5 يونيو 2017، حرباً إعلامية شرسة، وأعقبها فرض حصار اقتصادي وسياسي وإغلاق الحدود البرية والجوية والبحرية على دولة قطر، بزعم دعم الإرهاب، وهو ما تنفيه الدوحة، رغم أن القوات القطرية كانت تحرس حدود السعودية الجنوبية، ليضاف ذلك إلى سجل السعودية في "التهور" وعدم ضبط بوصلة سياستها الخارجية.
على الرغم من إعلان الأردن رسمياً انحيازه إلى التحالف الذي تقوده السعودية ضد قطر، فإنها اكتفت بتخفيض التمثيل الدبلوماسي ولم تأخذ موقفاً قاطعاً كما فعل التكتل السعودي الذي قطع جميع العلاقات الدبلوماسية.
لكن يبدو أن الأردن قد حسم خياراته السياسية، بالاستدارة المطلقة نحو المحور "التركي – القطري" المتوازن، وسط دفء غير مسبوق بالعلاقات، ترجمه ملك الأردن أيضاً بتهنئة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، بالعيد الوطني لبلاده، رغم خلاف الدوحة مع الرياض، الجار الأقرب إلى الأردن، بحسب مراقبين تحدثوا لـ"الخليج أونلاين".
ويؤكد الكاتب والمحلل السياسي وليد زيادين لـ"الخليج أونلاين"، أن "الأردن قرر الخروج من حالة العزلة التي يعيشها؛ بل حالة التجاهل التام من قِبل السعودية والإمارات، أبرز حلفاء عمان، أحد أسباب هذه العزلة يتمثل في تجاوز دوره باعتباره وسيطاً للاتصالات مع إسرائيل، أو في محدودية دوره في القضية الفلسطينية بشكل عام".
- تشاد وباكستان والسنغال
وبعد فشل الحصار الذي فرضته الدول الأربع، في يونيو من 2017، في الضغط على الدوحة، ونجاح الأخيرة في التحليق فوقه على الصعد كافة؛ السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، بدأت بعض الدول مراجعة حساباتها، وأعادت العلاقات مجدداً، في حين فشلت ضغوط سعودية وإماراتية في حمل دول عربية وأفريقية وآسيوية على تبنّي موقفيهما.
وفي مسلسل تراجع حلفاء الرياض، انضمت دولة تشاد إلى قافلة المنقلبين على دول حصار قطر، بعدما وقّعت مذكرة تفاهم مع الحكومة القطرية، تقضي باستئناف العلاقات بين البلدين وعودة سفيريهما، وذلك بعد 7 أشهر من قطع العلاقات.
وكانت تشاد من بين عدد قليل من الدول الأفريقية التي تجاوبت، العام الماضي، مع مساعٍ بذلتها دول حصار قطر وقطعت علاقاتها مع الدوحة، في 28 أغسطس 2017، وأعلنت إغلاق سفارة دولة قطر في إنجمينا، وأغلقت بعثتها بالدوحة واستدعت جميع دبلوماسييها، وأمهلت أفراد البعثة الدبلوماسية القطرية عشرة أيام لمغادرة أراضيها.
كما خسرت السعودية موقف جمهورية السنغال بتراجعها عن قرار قطع العلاقات مع الدوحة في أغسطس 2017، وإعادة سفيرها إليها بعد نحو شهرين من استدعائه للتشاور، وهو القرار الذي اتخذته في ذلك الحين كإجراء تضامني مع دول الحصار.
وإسلام آباد قد تكون آخر الحلفاء التي "غدرت" الرياض بها دولياً، ففي 24 فبراير 2018، أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية أن الولايات المتحدة نجحت في إدراج باكستان في قائمة لتمويل الإرهاب؛ وذلك بعد تخلي السعودية عن دعمها لإسلام آباد عقب ضغوط من واشنطن، وهو ما قد يدعو باكستان إلى مراجعة تحالفها وعلاقاتها مع الرياض، لا سيما أن باكستان قد أكدت أنها تعرضت لـ"الغدر"، في اتخاذ واشنطن لهذا الموقف.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين مطلعين أن الرياض أذعنت لضغوط واشنطن بعد أن كانت تقف ضد قرار إدراج إسلام آباد في قائمة تمويل الإرهاب.
وأشارت الصحيفة إلى أنه "قبل أن تتخلى الرياض عن إسلام آباد انضمت السعودية إلى كل من الصين وتركيا في تصويت أولي، أجري الأربعاء 21 فبراير 2018، ضد مقترح أمريكي لوضع باكستان في قائمة الدول التي لا تحارب تمويل الإرهاب وتبييض الأموال"، إلا أنها سرعان ما تراجعت في موقفها، الذي يحسب ضمن مسلسل الرياض بالتخلي عن الحلفاء، فضلاً عن ضبابية سياستها الخارجية وتخلخل خريطة تحالفاتها.