خليل حرب- جورنال-
تمضي الفكرة الاميركية لتشكيل “ناتو عربي” قدما من خلال القمة المقررة في كانون الثاني 2019. ورغم انها تبدو جذابة بالنسبة الى البعض، الا انها تعكس مشهدا قاتما لمستقبل الشرق الاوسط الذي لا يزال يحاول الخروج من حمامات الدم التي خلفتها المعارك مع “داعش واخواتها” والحرب القائمة في اليمن والخلافات العربية – العربية المستمر.
من غير الواضح حتى الان طبيعة هذا التشكيل العسكري الذي تقترحه واشنطن منذ العام 2017، وما اذا كان سيكون مشابها لحلف شمال الاطلسي الذي تاسس في العام 1949. لكن المعلن حتى الان، ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب يدفع باتجاه الفكرة، ويلقى حماسة سعودية، على ان يضم الناتو العربي المفترض، دول مجلس التعاون الخليجي بالاضافة الى مصر والاردن.
واشارت اربعة مصادر لوكالة “رويترز” الى ان البيت الابيض يريد تعزيز التعاون مع تلك البلدان بخصوص الدفاع الصاروخي والتدريب العسكري ومكافحة الارهاب وقضايا اخرى، مثل: دعم العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الاقليمية.
وسبق لادارتي الرئيسين الاميركي جورج بوش وباراك اوباما، ان حاولت لم شمل هذه الدول، في اطار تحالفات غير رسمية، تستهدف مواجهة “النفوذ الايراني”، لكن ادارة ترامب تحاول نقل الفكرة الى مرحلة اكثر نضوجا، بماسسة الطرح، بتمويل من الخزائن العربية، وذخائر مستودعات الصناعات العسكرية الاميركية.
وقال متحدث باسم مجلس الامن القومي الاميركي ان “تحالف الشرق الاوسط الاستراتيجي سيشكل حصنا في مواجهة العدوان والارهاب والتطرف الايراني، وسوف يرسي السلام في الشرق الاوسط”.
ويستعيد العديد من المراقبين فكرة حلف بغداد الذي اقيم خلال الخمسينات من القرن الماضي، بدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا، لمواجهة مد القومية العربية والشيوعية، وانتهى الى الفشل بسقوط نظام نوري السعيد في العراق.
والان، تاتي فكرة الناتو العربي في ظل مخاوف من السنوات الطويلة من المد والجزر في التوتر مع ايران، ومن المحاولات الاميركية لقضم مواقع نفوذها الاقليمية، وهو ما ينذر حتى بحسب كتاب ومحللين غربيين، من عسكرة الشرق الاوسط، وزعزعة ما تبقى من استقراره.
مبدئيا، تحمل الفكرة اسم التحالف الاستراتيجي للشرق الاوسط، وهي تاتي في ما بعد مرحلة الفوضى الدموية التي عصفت بالمنطقة، واكثرها تضررا العراق وسوريا، وتحاول خلالها واشنطن اداء دورها التقليدي المكرر للمرة الالف، كشرطي المنطقة الذي ينظم ادوارا لا يكتب لها النجاح دائما.
في هذا الاطار، جاء اللقاء الذي عقده وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو في 28 ايلول 2018 في نيويورك، مع نظرائه الخليجيين ومن مصر والاردن. وعلى الرغم من انه شدد على اهمية وقف نشاط ايران المؤذي في المنطقة، الا ان الوزير الاميركي تحدث ايضا عن اهمية الحاق الهزيمة بداعش وغيرها من التنظيمات الارهابية، بالاضافة الى انهاء الازمات في سوريا واليمن وتامين العراق.
مع ذلك، تصدم فكرة ضد جيوش الدول الثماني، بوقائع معاكسة. مثلا، بعيد انتهاء اجتماع نيويورك، خرج وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن ال ثاني ليقول ان “التحدي الحقيقي الذي يواجه التحالف بقيادة الولايات المتحدة، هو تسوية الازمة الخليجية”، وذلك في اشارة الى المقاطعة التي تفرضها السعودية والبحرين والامارات ومصر على الدوحة منذ اكثر من عام.
لم يظهر ان محاولة التدخل الاميركي لرأب الصدع بين السعودية وقطر، اعطت نتائج مؤثرة، باستثناء لجم حدود التصعيد، وما زال التوتر سيد الموقف بينهما، ما يطرح تساؤلات عن السبل التي يسعى من خلالها ترامب الى لم شمل دول التحالف المزمع، فيما العلاقات الداخلية بين اركانه الاساسية تفتقر الى الثقة. كما انه من غير الواضح ما اذا كانت دول مثل مصر والاردن وعمان وقطر والكويت، ستكون مستعدة للانخراط في حلف النيات السيئة تجاه ايران.
المفارقة التي توقف عندها كثيرون، ان ترامب الذي يسوق لفكرة الناتو العربي بحماسة لتعزيز الضغط على ايران، كان حتى اسابيع قليلة مضت، يلوح بالخروج من حلف شمال الاطلسي (الناتو)، بكل ما يمثله من مصالح وعلاقات تاريخية بين ضفتي الاطلسي، فيما بعد الحرب العالمية الثانية، باعتباره اداة تكبد الخزينة الاميركية الكثير من الاموال، بل انه ذهب الى حد توجيه رسائل توبيخ لزعماء اوروبيين قبل قمة الناتو الاخيرة في بروكسل في تموز 2018، منتقدا عدم انفاقهم المزيد من الاموال على ميزانية الحلف، وتحديدا لدم التزامهم رفع سقف مساهماتهم ليصل الى نسبة 2 في المئة من الدخل القومي لكل دولة.
وتحدثت صحيفة “اندبندنت” البريطانية عن ان الرسائل جرى توجيهها الى زعماء المانيا واسبانيا وهولندا بالاضافة الى كندا، فيما يدور جدل داخل هذه الدول عن السبب الذي يجعلها تخصص المزيد من الاموال للنفقات العسكرية، فيما لا توجد نية لاستخدام ترسانتها في حروب وصراعات مثلما تفعل واشنطن.
بينما تكتم البيت الابيض حول تفاصيل هذه الرسائل، تولى مستشار الامن القومي جون بولتون الحديث بشكل اكثر صراحة، حين قال “عندما يتحدث الناس عن تقويض حلف الناتو، عليك ان تنظر الى هؤلاء الذين يتخذون خطوات تجعل الناتو اقل فعالية عسكريا”، مضيفا “اذا كنتم تعتبرون روسيا تهديدا فاسألوا انفسكم هذا السؤال: لماذا تنفق المانيا اقل من 1.2 في المئة من دخلها القومي على ميزانيتها العسكرية”.
وبحسب انطوني بلينكن في صحيفة “نيويورك تايمز”، فان تحالفا عسكريا عربيا كهذا، لن يساهم سوى في تاجيج النيران المذهبية، ويؤدي الى تفاقم الارهاب لا الى تقهقره، معتبرا انه بدلا من ان تعمد واشنطن الى الانحياز الى طرف ما، عليها ان تضغط على الرياض وطهران، لوقف تغذية النزاع.
يلحظ بلينكن، الذي كان اول مسؤول اميركي (مساعد وزير الخارجية السابق في عهد باراك اوباما) يلتقي ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان بعد بدء الحرب على اليمن، انه في الوقت الذي ربما تتوقع ادارة ترامب ان الفكرة ستجعل العرب يقومون بالمزيد في مواجهة التطرف، الا ان بعض العرب يراهنون على تعميق انخراط الولايات المتحدة عسكريا في الشرق الاوسط.
ونقلت “نيويورك بوست” عن الباحث في مركز التقدم الاميركي بريان كاتوليس قوله انها “مبادرة من النوع الذي يتطلع اليها العديد من شركاء الولايات المتحدة منذ سنوات”، معتبرا ان قيمتها تكمن في طبيعة نتائجها، من خلال تحقيق استقرار اكبر، والمساهمة في تسوية نزاعات مثل اليمن وسوريا، وتقدم المواجهة مع التنظيمات الارهابية في المنطقة.
الباحثان في معهد كارنيغي اندرو ميلر وريتشارد سوكولسكي كتبا ان خطة الناتو العربي تشكل خطرا جديا على المنطقة، الا انه لحسن الحظ، فان الانقسامات ومحدودية شركاء اميركا العرب، ستنقذ القلقين من هذه الفكرة الغريبة. واعتبر الباحثان ان الفكرة ليست جديدة، فادارة اوباما عملت سابقا مع السعودية لانشاء القوة الاسلامية، ومع مصر القوة العربية، وحاولت ايضا العمل عبثا مع جامعة الدول العربية لجعلها تنخرط في عمليات حفظ السلام والاغاثة في الشرق الاوسط.
الاشارة المهمة في خلاصة الباحثين في “كارنيغي”، انهما اكدا ان دوافع ادارتي اوباما وترامب تتمحور حول فكرة مركزية تتمثل في تخفيف العبء الامني والمالي الملقى على عاتق الولايات المتحدة في الشرق الاوسط خلال العقود الماضية، باشراك دول المنطقة لتحمل مسؤوليات اكبر، في وقت تعيد واشنطن ترتيب اولوياتها الاستراتيجية على مستوى العالم، والتركيز على مكامن الخطر المستقبلي الاتي من شرق اسيا.
وكان من الواضح ان ادارة اوباما تعاملت بحذر مع محاولات بعض الاطراف العربية في هذه التحالفات لتشجيع مواجهة مع ايران، فان الامر يبدو مختلفا مع ادارة ترامب التي ترى نفسها في مهمة لمواجهة طهران وتطرب اذنيها لسماعها بعض الاطراف العربية تنادي بتلك المواجهة، من دون ان يعني ذلك بالضرورة ان واشنطن ستستخدم قوات اميركية في مثل هذه المواجهة.
ولوضع تصور للمشكلات التي يمكن ان يتسبب بها الناتو العربي في هذه الحماسة التي تشجعها ادارة ترامب، بالامكان النظر الى اليمن بحسب الباحثين الاميركيين، والتي تتعثر اهداف الحرب عليها، مشيرين الى انه ليس من الصعب تصور ان “يندفع هؤلاء الى السقوط في مستنقعات في لبنان والبحرين وسوريا”، والرهان على ان بامكانهم استدراج الولايات المتحدة للقتال الى جانبهم، في وقت يؤيد مستشارا الرئيس، وزير الخارجية مارك بومبيو ومستشار الامن القومي جون بولتون، انخراطا عسكريا اميركيا اكبر في الشرق الاوسط، بخلاف رئيسهم المتردد.
نقطة اساسية، يتوقف عندها كثيرون. ان حلف شمال الاطلسي نجح في التماسك الى حد كبير بفضل انظمته السياسية الديموقراطية التي قادت لحظات صعبة في تاريخ اوروبا والعالم فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصا في الايام السوداء لمرحلة الحرب الباردة، لتجنب الانزلاق الى حرب كونية جديدة. ان الوضعية التي تنشا هنا، في حالة الناتو العربي، شبيهة ، بحسب معهد كارنيغي، الى حد كبير بنسخة عربية من تحالفات ما قبل الحرب العالمية الاولى التي جرت القارة الاوروبية الى جنون من العنف لم تعهد مثله من قبل.
لكن الفكرة تمضي قدما بحسب الظاهر حتى الان. في ايلول 2018، امضى مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الخليج تيم لينديركينغ الكثير من الوقت يجول بين عواصم الدول العربية المعنية لوضع الاسس للقمة المقررة في كانون الثاني 2019، وهي جولة اثمرت اللقاء الذي استضافه وزير الخارجية بومبيو لبعض نظرائه العرب، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك، بحسب صحيفة “واشنطن تايمز” الاميركية. لينديركينغ اقر بالحاجة الى العمل على نزع فتيل ازمات بين بعض الدول المنضوية، مشيرا الى الخلاف مع قطر تحديدا.
قد تبدو فكرة الناتو العربي جذابة اذا اكتفى المرء بالنظر اليها على انها توحيد لقوى عربية، ولو كانت مجرد محاولة. لكن الوقائع السياسية والامنية والاقتصادية في المنطقة، وطبيعة العلاقات القائمة، تعني في احسن الاحوال ان الخطوة قفزة في المجهول، وربما بداية لقرع طبول حروب، عانت وما زالت البلاد العربية تعاني منه، وتستنزف من دمها واموالها. وقديما قالوا: من يزرع الريح، يحصد العاصفة.