مبارك الفقيه- راصد الخليج-
قتل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، ليشعل عاصفة في السياسة والعسكر والإعلام، وحماوة المواقف والتهديدات تستحضر أجواء حرب شاملة في معركة تدفع ثمنها المنطقة العربية عموماً والخليجية خصوصاً ويلات وخسائر ودمار هائل.
استنفر العرب أسلحتهم الدبلوماسية باتجاه تهدئة الوضع، فطالبت دول مجلس التعاون الخليجي "بالتهدئة وعدم التصعيد" داعياً "المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته لوقف التصعيد في منطقة الشرق الأوسط"، وفيما نفت الرياض حصول أي تواصل مع واشنطن قبل تنفيذ الضربة الجوية، أوفد ولي العهد محمد بن سلمان أخاه خالد نائب وزير الدفاع إلى واشنطن ولندن سعياً للتهدئة و"درء كل ما يؤدي إلى تصاعد الأوضاع، وبما يكفل تعزيز أمن المنطقة واستقرارها"، بينما سارع وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى زيارة طهران سعياً "لاستيعاب الموقف"، ودعت وزارة خارجية الإمارات إلى "تغليب الحكمة والإتزان وتغليب الحلول السياسية على المواجهة والتصعيد"، فيما أكّدت الكويت عدم استخدام القاعدة الأمريكية على أراضيها لتنفيذ "هجمات ضد أهداف محدّدة بإحدى دول الجوار"، أما سلطنة عمان فدعت واشنطن وطهران للحوار والحل الدبلوماسي.
نائب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن لخّص غالبية المواقف بالقول إن "ترامب ألقى بإصبع ديناميت في برميل بارود متفجر"، فيما أجمعت معظم التحليلات السياسية الأمريكية والأوروبية على أن ما جرى يشكّل تهديداً خطيراً للاستقرار في المنطقة قد يتّسع بتأثيراته ليشمل العالم أجمع، فقبل أن تشتعل شرارة الحرب تراجعت البورصات العالمية خوفاً من ارتفاع أسعار الطاقة ومعها تكاليف الإنتاج والنقل، ما يعني تراجع التجارة العالمية، وتراجعت عوائد السندات الأمريكية والأوروبية واليابانية، وارتفعت أسعار النفط ليسجّل سعر البرميل الخام نحو 70 دولاراً، وأغلقت تعاملات الأسواق السبع في دول مجلس التعاون الخليجي على تراجع في أول يوم لها، كما ذكرت وكالة "رويترز" أن تكلفة التأمين على ديون السعودية من خطر التخلّف عن السداد قفزت الى أكثر من 16بالمئة، في حين حذّرت وكالة "ستاندرد آند بورز" من أن أي صدام عسكري محتمل سيؤدي إلى تراجع أكبر للثقة والاستثمار في منطقة الخليج، وإلى "زعزعة الاستقرار على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في عموم المنطقة، بمن فيها حلفاء الولايات المتحدة".
كان الكل ينتظر الضربة الإيرانية، لا سيّما بعد أن شاهد العالم بأسره آية الله علي خامنئي وهو يبكي في تأبين سليماني مؤكداً للأمريكيين: "قطعتم يد قاسم سليماني عن جسده وسنقطع أرجلكم عن المنطقة"، في المقابل هدّد ترامب في تغريدة له: "إذا هاجمتنا إيران مجددًا فستتعرض لضربة أكبر من أي ضربة سابقة تعرضت لها"، وهنا بات الخوف مزدوجاً من تدحرج الردود العسكرية الإيرانية - الأمريكية ودخول المنطقة في أتون حرب، وتركّزت الحسابات على مستقبل أسود ينتظر المنطقة التي يتهدّدها خطر العودة إلى العصر الحجري، وسط نيران اشتعال آبار النفط وفقدان العالم من نحو ربع استهلاكه اليومي من النفط، دون إغفال قدرة إيران على إغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي أمام السفن النفطية الخليجية والعالمية، لتحرم العالم من 30 % من الإمدادات النفطية إلى أسواق العالم.
هدّدت إيران بالردّ، وبعد أقل من أسبوع قصفت بصواريخها الباليستية التجمّعات الأمريكية في قاعدتي "عين الأسد" وأربيل في العراق ملحقة دماراً هائلاً في منشآتها، وحّذرت من أن القواعد الأمريكية العسكرية على أراضي جيرانها من دول الخليج، ولا سيما في السعودية والإمارات، ستتعرّض للقصف إذا أتت بأي حركة عسكرية ضد إيران. إذن، لم تكن التهديدات الإيرانية مجرّد مواقف انفعالية، وهي المرّة الأولى التي يتلقّى فيها الأمريكيون ضربة مباشرة بعد واقعة "بيرل هاربر" في ديسمبر عام 1941 حين هاجم الكاميكاز الياباني الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ، ولم يصدّق أحد للوهلة الأولى أن دولة في العالم سوف تتجرأ مرة جديدة على كسر الخطوط الحمر الأمريكية بعد عشرات السنين من تسيّد الولايات المتحدة للمبادرات العسكرية في شتى أنحاء العالم.
حبس العالم أنفاسه بانتظار الردّ الأميركي على الردّ الإيراني، وبعد خمسة أيام من سيل تهديدات أطلقها ترامب أعلن موقفه الأول بالقول: "كل شيء على ما يرام"!! ولم يتضّح مضمون هذا التصريح إلا في خطاب متأخر ألقاه بعد لقائه أركان قياداته العسكرية والأمنية والسياسية، حيث توصّلوا إلى ابتداع المخرج الذي يتيح لواشنطن التنصّل من الردّ بالقول: "لا إصابات بين الأمريكيين"، وأعلن فرض عقوبات جديدة على إيران، مطالباً قوات حلف "الناتو" أن "تكون حاضرة وبشكل أكبر" في الشرق الأوسط، والانسحاب من الاتفاق النووي، إلا أن الملفت في خطاب ترامب هو تأكيده بأنه لا يريد "تصعيداً عسكرياً في الشرق الأوسط ضد إيران"، وهنا محور القضية.
لم يأتِ هذا الموقف التراجعي للإدارة الأمريكية إلا لقناعة مسؤوليها أن المضي في تحدّي إيران لن يجرّ على المنطقة والعالم إلا المزيد من الخراب والدمار، لا سيما مع إعلان طهران أن ضربة "عين الأسد" ما هي إلا خطوة في سلسلة إجراءات ستقدم عليها وصولاً إلى إخراج الأمريكيين من الخليج والشرق الأوسط، وهذه القناعة لم تأتِ فقط كخلاصة لتقديرات دوائر القرار الأمريكي، التي توقفت مطوّلاً عند جرأة الإيرانيين في كسر قواعد اللعبة وتجاوز الخطوط الحمر باستهداف قواعد عسكرية أمريكية، بل أيضاً لمواقف الدول العربية والخليجية التي هرعت للعل على نزع فتيل التوتر الناري، بعد أن كانت لفترة من الزمن تدفع الولايات المتحدة باتجاه استهداف إيران عسكرياً، وتبيّن لها أخيراً أن القول في مسار التصعيد الإعلامي شيء والفعل في الميدان شيء آخر.
وهذه الخلاصة في بعديها الأمريكي والعربي تشكّل في حد ذاتها منعطفاً في النظر إلى معادلة الاستقرار في المنطقة على المستويين السياسي والاقتصادي، فضلاً عن البعد الجيوسياسي ممّا يفرض على كل من واشنطن ودول الخليج وأوروبا إعادة حساباتها، وانتهاج سياسة التعقّل والواقعية في التعامل مع إيران، بعيداً عن العنتريات في المواقف التي تبخّرت مع سقوط أول صاروخ على قاعدة "عين الأسد"، لا سيّما أن إيران - شئنا أم أبينا - جار تاريخي فرضه التاريخ والجغرافيا وفي ظهرانينا، ولا يمكن للولايات المتحدة أو غيرها من إزالتها من على وجه الخارطة في المنطقة والعالم، واستطاعت تغيير المعادلة بحيث أطلقت يدها في ضرب أي هدف تعتبره تهديداً لها، على الرغم من حصارها على مد أربعين عاماً، فيما يبدو أن العقوبات الأمريكية لم تؤد حتى اليوم من ثنيها عن تطوير قدراتها العسكرية، فضلاً عن انفتاحها المقلق لأمريكا وأوروبا على الشرق، الذي تجسّد بالأمس القريب عن مناورات بحرية ضخمة بالاشتراك مع روسيا والصين، فإلى متى نبقى وحدنا ندفن رؤوسنا في الرمل رفضاً لمعادلة الواقع؟!