محمود زراع- البيت الخليجي للدراسات والنشر-
ظلّت علاقات عمان بإيران ثابتة وارتقت إلى علاقة إستراتيجيّة تخدم البلدين وتؤثّر بشكل مباشر على أمن المنطقة والعالم.
لن تتخلى إيران عن عُمان باعتبارها البوّابة الوحيدة لها للعالم من النّاحية السّياسية والاقتصادية في ظلّ العزلة الدّولية التّي تعيشها.
تستند العلاقة الإيرانيةـ العمانية على مصالح مشتركة، فعُمان تدرك جيداً حجم وثقل إيران الإقليمي وأن التّعايش معها الحلّ الأنسب لها، بدلاً من عداء جارتها الدّائمة.
رسمت العلاقات الإيرانية ـ العمّانية أولى ملامحها، بعد دخول أوّل مروحيّة عسكريّة إيرانيّة إلى سلطنة عمان في خريف 1972، دعماً من الشّاه الإيراني محمد رضا بهلوي للسّلطان قابوس بن سعيد في مواجهته لزحف الانفصاليّين في محافظة ظفار.
منذ ذلك الحين حافظ البلدان على رونق العلاقات الثّنائية من التّآكل، والتّي عرفت بتمايزها عن بقية بلدان دول الخليج. ورغم كل التغييرات السّياسية واشتداد الأزمات التّي عصفت بالمنطقة، إضافة إلى الضغوطات التّي مارستها بعض الدّول الخليجية لإنزلاق العلاقة الثّنائية، ظلّت الأخيرة ثابتة وارتقت إلى علاقة إستراتيجيّة تخدم البلدين وتؤثّر بشكل مباشر على أمن المنطقة والعالم.
وهو ما جعلها مثالاً فريداً في تاريخ العلاقات الثّنائية في المنطقة، الأمر الذي دفعنا لتسليط الضّوء على أهمّ المعطيات والأسس التي ساهمت في تعزيز هذه العلاقة الحميمة.
شّاه إيران ينقذ حكومة السّلطان قابوس
شعر السلطان الراحل قابوس بن سعيد بخطر الثّورة في محافظة ظفار على حكومته الوليدة، فطلب من الدول العربية المساندة، لكن أكثر شيء قدموه له كان التّعاطف باستثناء الدّعم العسكري الأردني والبريطاني الذّي دام لمدّة قصيرة، ما اضطر الأخير لطلب الدّعم من شاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي.
لاقى الطّلب العماني انتقادات واسعة من دول الخليج، باعتبار أن السلطنة سمحت لإيران بالتّدخل في الشؤون العربية، ليعلق السلطان بقوله “يحق لسلطنة عمان تلقي المساعدة من إيران، لأنها دولة مسلمة وجارة وصديقة، وكان قبول المساعدة من إيران حكيماً ومنطقياً للغاية”.
أما شاه إيران فرأى دعمه العسكري لعمان دفاعاً عن أمن بلاده وصرَّح “تخيّلوا لو أنّ هؤلاء المتوحّشين سيطروا على الضّفة الأخرى لمضيق هرمز.. فحياتنا رهينة لذلك.
شكَّل الإنتصار العماني المدعوم من إيران والأردن وبريطانيا، حقبة جديدة في تاريخ العلاقات الإيرانيّة مع سلطنة عمان، فكانت إيران البلد الثّالث الذّي يعترف بحكومة السّلطان قابوس بعد أميركا وبريطانيا، أي قبل أي دولة عربيّة.
لم يتوان السّلطان قابوس عن ذكر وقوف إيران إلى جانبه في أكحل فترات حكمه للبلاد واستمر هذا الوفاء حتى بعد انتصار الثّورة الإيرانية، التي آلت لخلع الشّاه الإيراني عام 1979.
سياسة الحياد العمانية
سارعت سلطنة عمان لتأييد الثّورة الإيرانية، خلافاً للإجماع الخليجي المعادي لإيران. فكان وزير الخارجيّة العماني السّابق يوسف بن علوي ثاني مسئول عربي يقابل الإمام الخميني في طهران ويسافر إلى إيران بعد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورحّبت طهران بهذه الزّيارة واعتبرتها بمثابة أولى دعائم العلاقة الإيرانيّة مع عمان.
برّر السّلطان قابوس التّقارب السّريع مع إيران، لامتنان السلطنة الدّائم لإيران، بسبب دعمها التّاريخي له الذي حُفر بذاكرة الشعب العماني، بالإضافة لنهج بلاده الحيادي المبني على أساس النأي عن الصراعات الدولية والإقليمية، وإقامة علاقات جيّدة مع جميع الدول على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الدّاخلية.
حافظت عمان على موقفها الحيادي تجاه طهران، رغم الضّغوطات المستمرّة عليها من بعض دول الخليج بحجة توحيد الصّف الخليجي ضد إيران، ونأت بنفسها عن نهج القطيعة الخليجي تجاه إيران، خلال الحرب الإيرانية- العراقية 1980، ورفضت عُمان إستخدام العراق لأراضيها لاستهداف الجزر الثّلاث المتنازع عليها بين إيران والإمارات (أبو موسى، طنب الصغرى وطنب الكبرى) كما احتضنت محادثات سرّية بين طهران وبغداد لوقف الحرب عام 1987 إلّا أنها فشلت.
وبعد انتهاء الحرب العراقية، لعبت عمان دوراً هاماً في إعادة العلاقات بين طهران والرياض وكذلك بين طهران ولندن عام 1990.
مسقط: أكثر من وسيط
ساهمت المواقف العمّانية الإيجابيّة تجاه إيران في تعزيز الثّقة المتبادلة، حتّى رأت طهران بمقسط أنها وسيط نزيه يُعتمد عليه في إبقاء باب الحوار مفتوحاً مع دول عربيّة وغربيّة.
نجحت عمان عبر الوساطة في الإفراج عن سجناء عرب وغربيين لدى طهران. فخلال الحرب العراقية- الإيرانية توسّطت مسقط للإفراج عن البحّارة والصّيادين المصريين لدى طهرن، وكذلك استطاعت تحرير15 بحاراً بريطانياً احتجزتهم طهران بعد اختراقهم مياهها الإقليميّة عام 2007.
ثمّ في عام 2011، أشرفت مسقط على إعادة ثلاثة سجناء أمريكيين لدى طهران لبلادهم، بعد اعتقالهم في طهران بتهمة التّجسس عليها خلال الانتخابات الرئاسيّة عام 2009.
لم تكتف عمان بذلك، بل ذهبت إلى أبعد من الوساطة، ووافقت على تمثيل المصالح الإيرانيّة لدى الدول التّي لا تملك تمثيلاً دبلوماسيا فيها. فعقب اقتحام السفارة البريطانية في طهران عام 2011، خفّضت لندن علاقاتها الدّبلوماسية مع طهران، ومثّلت عمان مصالح إيران في لندن حتى استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 2014، كذلك الأمر مع كندا عقب إغلاق سفارتها في طهران عام 2012.
واجهت عمان العقوبات الغربيّة على طهران بسبب برنامجها النّووي بالرفض الحازم، ولعبت بعدها دوراً بارزاً في فتح باب المحادثات النّووية وإبعاد شبح الحرب عن المنطقة باستضافتها محادثات سرّية بين إيران وأميركا قبل الإعلان عنها رسمياً، التي أفضت إلى الإتّفاق النّووي الدّولي عام 2015، فشكل الإتفاق منعطفاً تاريخياً، ورسّخ دورعمان الدبلوماسي في حل الأزمات الدولية طويلة المدى وكأنها تحمل مفتاح الحلول للأزمات الدّولية.
في اليمن تعصَّمت عمان بسياسة النّأي بالنفس ورفضت المشاركة “بعاصفة الحزم” العسكرية عام 2015 التّي قادتها السعودية ودول عربيّة أخرى، لمواجهة تقدم قوات أنصار الله “الحوثيون” المدعومين إيرانياً في العاصمة صنعاء. لم ترغب عُمان بأن تكون طرفاً في صراع ضدّ حلفاء طهران واتبعت سياستها الخارجيّة المتّسمة بالحياد.
التحالف الاستراتيجي بين مسقط وطهران
لم يقتصر التقارب الإيراني العُماني على الساحة السّياسية والدبلوماسية فقط، إنما امتد للتّعاون العسكري، فوقع البلدان مذكرات تفاهم عدة لتعزيز التعاون العسكري بينهما كان آخرها عام 2019. فضلًا عن إقامة العديد من المناورات البحرية المشتركة في مضيق هرمز، الذي يشارك البلدان في إدارته من خلال تسيير دوريات مشتركة تهدف لترسيخ الأمن والاستقرار، بموجب اتفاقية مشتركة عام 1974.
يعتبر مضيق هرمز أهم شريان نفط بالعالم، يمرّ عبره أكثر من 35 بالمائة من إمدادات النّفط العالميّة، لوجود أكبر الدّول المصدّرة للذهب الأسود على ضفّتي الخليج، الأمر الذي يجعل أمنه محطّ أنظار العالم.
سرعان ما استبدلت هذه النعمة بنقمة عالميّة، خلال الحرب الإيرانيةـ العراقية 1980_1988 من خلال إستهداف مئات ناقلات النّفط والسّفن التّجارية من مختلف الجنسيّات في المضيق، ما أدّى لشبه انعدام حركة السّفن التّجارية في شريان الغرب النفطي. الأمر الذي دعا لتشديد التّدخل الأجنبي في مياه الخليج لحماية مصالحها النّفطية.
عاد مشهد صراع النّاقلات مرّة أخرى عام 2019 بعد احتجاز بريطانيا ناقلتي نفط إيرانيتين في مضيق جبل طارق، لتردّ طهران باحتجاز ناقلة نفط تحمل العلم البريطاني في مضيق هرمز. عندها برز الدّور العماني في خفض منسوب التّوتر في مياه الخليج.
وقال وزير الخارجيّة العماني السّابق يوسف بن علوي خلال زيارته لطهران بالتّزامن مع أزمة النّاقلات “نحن لا نتوسّط، ولكننا في هذه الحالة معنيون أكثر من غيرنا بضمان استقرار الملاحة في مضيق هرمز، ولذلك نجري اتّصالات مع جميع الأطراف، والكل عبّر عن رغبته في تجاوز هذه الأزمة والحفاظ على الاستقرار”.
كل هذا يدلّ على أنّ إيران وعمان يتشاركان ذات المصالح في مياه الخليج، وليس من مصلحة الطّرفان تدهور الأوضاع هناك، لما تحمله من تبعات سلبيّة على التّجارة العالميّة والأمن القومي الدّاخلي للبلدين، لذلك يشارك البلدان في إدارة المضيق ويسيران دوريات أمنيّة لحفظ أمنه.
بموازاة التّقارب العسكري العماني مع إيران، توثّق مسقط علاقتها مع الولايات المتحدة باعتبارها حليف دولي، ووقعت إتّفاقيّة عسكريّة تسمح بموجبها للقوّات الأمريكيّة بالإستفادة من التّسهيلات المقدّمة من بعض الموانئ ومطارات السّلطنة أثناء زيارتها البلاد.
وعلى غير المتوقّع إعلامياً، لم تصدر طهران أي تعليق رسمي على الإتّفاقية العسكريّة الأمريكية مع عمان، باعتبار القوّات الأمريكية أصبحت على مرمى حجر من حدودها البحريّة، والتّي تصنفها “العدو الأول” لها بعد إسرائيل واكتفت طهران بالصّمت رسميا وشعبياً.
على ذكر إسرائيل التّي زار رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو مسقط عام 2018، إنتقدت الخارجيّة الإيرانية هذه الزّيارة وأوصت بالإمتناع عن مثل هذه الزيارات التّي تهدف لزرع الفتن بين الدّول الإسلامية.
تسعى طهران لتجنّب العديد من القضايا التي لا تحمدها من قِبل عمان، وتسعى للحفاظ على العلاقة مع مسقط لما تحمله من إيجابيّات على بلادها.
عُمان شريانا اقتصاديا لإيران
لم تقتصر الدّبلوماسية العمّانية على دعم طهران سياسيّاُ فقط، بل كانت الدّبلوماسية الإقتصاديّة فعّالة في دعم الإقتصاد الإيراني وكانت عمان بمثابة بوابة إيران الإقتصادية في ظلّ العقوبات المفروضة على طهران.
فأعلن مدير الغرفة التّجارية الإيرانيةـ العمانية محسن ضرابي، أنّ بعد فرض أميركا العقوبات الاقتصاديّة على بلاده، قررت العديد من الدّول قطع العلاقات الإقتصادية مع طهران، وأضاف أنه لم يعد لإيران خيار آخر لاستمرار المعاملات التّجارية سوى الاستفادة من الموانئ العمانية والتّي استخدمتها بالفعل.
رغم كل هذا الدّعم السّياسي والإقتصادي العماني لإيران، إلا أن التّبادل الاقتصادي يتواضع أمام حجم التّقارب بين البلدين، لكنه آخذ بالصّعود خلال السنوات الأخيرة، حسب الأرقام والإحصاءات الرّسميّة الإيرانية.
يعقد البلدان صفقات تجاريّة واقتصادية عدة، لكن إيران لا تعتمد على السّوق العماني بشكل خاص، بل ترى فيه جسراً للوصول للأسواق التّي لا تربطها بها علاقات سياسيّة جيّدة، أو للوصول للأسواق الإفريقية وإيجاد تجارة جديدة هناك.
السّياحة بين البلدين
ازدهرت السّياحة بين إيران وعمان بعد إلغاء طهران تأشيرة الدّخول للعمانيين من طرف واحد عام 2018، لتتبعها مسقط بعد عامين بالسّماح لمواطني 103 دول من ضمنهم إيران البقاء في عمان لمدة عشرة أيام دون الحاجة للحصول على تأشيرة الدّخول.
تعتبر مدينة شيراز الإيرانية الوجهة الأولى للعمانيين لتنوع الخدمات الطبية منخفضة السّعر فيها كجراحة العيون وعمليات التّجميل وزراعة الشّعر، بالإضافة للأماكن التاريخية فيها.
ويرى وزير الصّحة العماني أحمد السعيدي، أنّ الثّقافة والحضارة الإيرانية والعمانية متأصلة تاريخياً وأن المدن الإيرانية تحظى بمعالم تاريخية وسياحية، فضلاً عن امتلاك إيران التقنية الطبية المتطورة، لذلك يقصد السّياح العمانيون إيران.
ترتبط زيارة العمانيين لإيران أيضاً بالسياحة الدينية، حيث يقصد العمانيون الذين معظمهم من المذهب الأباضي لزيارة المعالم الدينية في مدينة مشهد الإيرانية.
مستقبل العلاقات الثنائية
بعد رحيل السّلطان قابوس بن سعيد العام الماضي واختيار ديوان السّلطنة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد خلفاً له، كثرت التّكهنات حول مصير العلاقات الإيرانية_العمانية، لكن سرعان ما أعلن السّلطان هيثم خلال مراسم تنصيبه عن الحفاظ على إرث سلفه والسّير على نهجه بالحفاظ على ثوابت بلاده القائمة على التّعايش السّلمي وحسن الجوار.. والحفاظ على العلاقات الودّيّة مع كل الدّول.
وزار وزير الخارجيّة الإيراني محمد جواد ظريف السّلطنة في نيسان/ إبريل الماضي، وأكد أن مباحثاته مع كبار المسؤولين في عمان كانت إيجابية وتمحورت حول الإرتقاء بالتّعاون الإقليمي والعالمي.
تستند العلاقة الإيرانيةـ العمانية على مبدأ المصالح المشتركة، فتعي عمان جيداً حجم وثقل إيران الإقليمي وأدركت منذ البداية أن التّعايش معها هو الحلّ الأنسب لها، بدلاً من عداء جارتها الدّائمة. في المقابل لن تتخلى إيران عن عُمان باعتبارها البوّابة الوحيدة لها للعالم من النّاحية السّياسية والاقتصادية في ظلّ العزلة الدّولية التّي تعيشها.