دانييل برومبرج - المركز العربي واشنطن دي سي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد-
خلال الأعوام التي قضاها في إدارة الرئيس الأمريكي السابق "نيكسون" في سبعينيات القرن الماضي، سعى وزير الخارجية السابق "هنري كيسنجر" إلى إدارة التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من خلال خلق ساحات مشاركة كان يأمل أن تعزز الجهود الأمريكية لاحتواء طموحات موسكو الإقليمية والعالمية. ولم تكن أهداف الاتحاد السوفيتي مختلفة. فبالنسبة لكلا البلدين، كان الهدف من الانفراجة هو "تخفيف التوترات" مع الحفاظ على المنافسة.
ويشير سعي السعودية وإيران الأخير، وإن كان لا يزال ناشئا، للانتقال من الصراع البارد إلى انفراجة ما أيضا إلى استراتيجية دبلوماسية هدفها النهائي هو كسب الوقت وأقصى قدر من المزايا. ويمكن للرياض وطهران جني مزايا استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية، ليس فقط من إعادة العلاقات الدبلوماسية، ولكن أيضا من بدء محادثات تهدف إلى إيجاد أرضية مشتركة حول مجموعة من القضايا، ليس أقلها الحرب في اليمن والدور الذي يلعبه الحوثيون.
ولكن نظرا لموقفها الإقليمي، والتصور السائد، وإن كان خاطئا على الأرجح، بأنه بعد الانسحاب من أفغانستان أصبح خروج الولايات المتحدة من الخليج أمرا حتميا الآن، تبدو إيران في وضع جيد للمناورة في المحادثات مع الرياض لصالحها.
ويؤكد طلب إيران الأخير بأن يعيد البلدان فتح قنصليتيهما في مشهد وجدة "كبادرة حسن نية"، قبل أي تحرك لإنهاء الحرب في اليمن، ثقة طهران. كما يشير إلى أنه بالرغم من آمال بعض القادة الغربيين في أن المحادثات السعودية الإيرانية يمكن أن تغير قواعد اللعبة، فإن احتمالات إحراز تقدم دبلوماسي كبير ستظل متواضعة. ويمكن لهذه النتيجة أن تكون مقبولة في نهاية المطاف لكل من الرياض وطهران.
التكتيكات والاستراتيجيات
ويقود منطقان متناقضان على ما يبدو ولكنهما متوافقان في النهاية، الجهود الأخيرة لتعزيز الانفراجة بين السعودية وإيران. الأول هو منطق الارتجال، حيث يقرر زعماء البلدين الخطوة التالية وهم يمضون قدما. وفي ذلك فإن همهم الرئيسي هو بقاء النظام، حيث يجب عليهم إظهار القدرة على التكيف في الداخل والخارج.
وتضع مثل هذه المخاوف التكتيكية القادة الإيرانيين أمام مهمة تشكيل إجماع حول تحديات السياسة الخارجية الرئيسية. وهذا ليس بالأمر السهل؛ لأنه في العديد من القضايا الحيوية، ليس أقلها خطة العمل الشاملة المشتركة، يبدو أنه لا يوجد قدر ضئيل من المساحة للمناورة. لذلك من الحكمة لفريق القيادة الجديد وغير المختبَر إلى حد كبير في طهران أن يستمر في لعب عدة كرات، إحداها هي المسألة السعودية.
وبالنسبة للرياض، ربما يكون تكوين الإجماع أقل تعقيدا، لأنه لا يوجد سوى صوت واحد مهم حقا وهو صوت ولي العهد "محمد بن سلمان". لكن لديه مساحة سياسية وجيواستراتيجية أقل بكثير للمناورة من نظرائه الإيرانيين.
وفي الجوار المباشر، لا تزال السعودية تواجه عدوا حوثيا حازما، بينما في الساحة العالمية الأوسع، لم تكتشف الرياض بعد علاقاتها مع إدارة "بايدن" والعكس صحيح. على النقيض من ذلك، تمتلك طهران أصولا دبلوماسية واستراتيجية واقتصادية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
علاوة على ذلك، قد تكون طهران مستعدة للتخلي عن الجهود المبذولة لإنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة وتركيز أنظارها على تعزيز مجموعة علاقاتها في المنطقة الأوسع وخارجها. والحقيقة هي أن إيران لها اليد العليا. وحتى إذا عادت إلى طاولة المفاوضات، فقد عارضت ربط هذه المحادثات بموقفها الاستراتيجي الإقليمي، وسوف تواصل مقاومة ذلك باستمرار.
ويقودنا هذا الواقع الفاضح إلى المنطق الثاني، وهو المنطق الاستراتيجي. ولطالما تشارك قادة إيران الاقتناع بأن الهدف النهائي لأعداء طهران الإقليميين والعالميين هو فرض حصار اقتصادي ودبلوماسي وعسكري إذا لزم الأمر على الجمهورية الإسلامية.
ويحيي هذا التصور عزم طهران على إضعاف خطر "التطويق" من خلال إقامة مجموعة متنوعة من العلاقات التي تمنح إيران القدرة على فرض درجات متفاوتة من الألم على خصومها.
وتعتبر الرياض هذه الاستراتيجية هجومية وليست دفاعية. وفي محاولتها لردع ما تعتبره الرياض تطلعات إيران "التوسعية" أو الهيمنة الإيرانية، اعتمدت على المظلة العسكرية الأمريكية. ويشير تصعيد الرياض للحرب مع الحوثيين إلى محاولة من "محمد بن سلمان" للرد على إيران بضرب أقرب حليف إقليمي لها.
لكن هذه السياسة جاءت بنتائج عكسية، ما يشير ليس فقط إلى حدود القوة العسكرية للسعودية، ولكن أيضا إلى عدم وجود أي استراتيجية متماسكة للتعامل مع إيران. ويمنح قيام الرياض بالارتجال على المستويين التكتيكي والاستراتيجي إيران ميزة حقيقية من غير المرجح أن تعالجها السعودية، حتى لو حاولت التعويض عن طريق الانضمام إلى "اتفاقات إبراهيم" (اتفاقيات التطبيع) بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
المتشددون في إيران يحاولون اكتشاف الأمر
ومع وجود المرشد الأعلى آية الله "علي خامنئي" والرئيس "إبراهيم رئيسي" ووزير الخارجية "حسين أمير عبداللهيان" على رأس القيادة، من المنطقي أن نتوقع أن تعكس السياسة الخارجية الإيرانية خريطة مشتركة ومسار مشترك. ويبدو أن التصور بأن القادة الإيرانيين المتشددين متحدون، وبالتالي قادرون على الاستجابة بشكل أكثر تماسكا للتحديات الدبلوماسية، على عكس الحكومة المنقسمة للرئيس السابق "حسن روحاني"، قد لعب دورا في تحفيز القادة السعوديين على متابعة المحادثات مع طهران.
ومع ذلك، إذا توافق فريق السياسة الخارجية الإيرانية على الصورة الكبيرة، فيبدو أنهم كانوا يرتجلون، وربما يختلفون، فيما يتعلق بقرارات السياسة الخارجية الرئيسية، بما في ذلك مصير خطة العمل الشاملة المشتركة.
وعلى مدى الأسابيع الماضية، أثارت إشارات متعددة حول متى وما إذا كانت طهران ستنضم مجددا إلى محادثات فيينا انتقادات من جهات مختلفة، بما في ذلك صحيفة "أفتاب إي يزد" الإصلاحية، التي اشتكى رئيس تحريرها في 18 أكتوبر/تشرين الأول من "السياسة المربكة".
وقدمت الصحيفة الاقتصادية "جاهان إي سانات" تقييما مشابها عندما قالت إن الحكومة خلقت "ارتباكا نوويا". ومما زاد الطين بلة، أكد عضو بارز في المجلس الإيراني أن سياسة وزير الخارجية تكرر نهج "خطوة مقابل خطوة" الذي انتقده المتشددون الإيرانيون خلال الأشهر الأخيرة من حكومة "روحاني".
وخارج الساحة المحلية، ستشكل هذه الانتقادات لدبلوماسية طهران المرتجلة بالتأكيد تصورات اللاعبين الإقليميين والعالميين الرئيسيين. فبعد كل شيء، ما إذا كانت إيران ستقرر في نهاية المطاف متابعة محادثات الاتفاق النووي ليس له عواقب صغيرة على أصدقاء إيران وخصومها على حد سواء. وفي تأكيد لهذه النقطة، انتقد المبعوث الروسي إلى محادثات فيينا علنا القادة الإيرانيين لوعدهم بالعودة إلى المحادثات "قريبا". وتساءل عما يمكن أن "يعنيه ذلك من الناحية العملية؟"
وبالنسبة للسعودية، فإن الإجابة حاسمة. فإذا أدت العودة إلى المحادثات، التي يقول القادة الإيرانيون الآن إنها ممكنة، إلى إحياء الاتفاق النووي، الذي ينص على إزالة العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي، مع عدم تقديم أي بنود لمحادثات أوسع حول الأمن الإقليمي، فإن نفوذ طهران في أي محادثات مع الرياض سيكون أعلى بشكل كبير.
وبالتالي يمكن أن تتعرض السعودية لضغوط متزايدة لتقديم تنازلات في قضايا حيوية مثل حملتها على الحوثيين في اليمن. على النقيض من ذلك، إذا فشلت المحادثات النووية وزادت التوترات الأمريكية الإيرانية، فقد تتعرض الرياض لضغوط أقل من واشنطن لمتابعة الدبلوماسية مع طهران أو لإحياء المحادثات مع الحوثيين.
ومع ذلك، نظرا للوجود الاستراتيجي الإيراني في المنطقة والتقدم العسكري الحوثي الأخير في المناطق الغنية بالطاقة في اليمن في شبوة ومأرب، فإن فشل الدبلوماسية لن يكون بالضرورة لصالح الرياض.
اليمن وخطة العمل الشاملة المشتركة ولعبة الانتظار الدبلوماسي
وتأكيدا على ثقة إيران، صرح "عباس نيل فروشان"، الذي يعمل كمساعد للشؤون العملياتية في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، في 14 أكتوبر/تشرين الأول، أن السعودية ليس لديها خيار سوى التفاوض على إنهاء حرب اليمن. وأعلن أنه "لأن العدو لا يستطيع هزيمة جبهة المقاومة اليمنية"، فإن "الطريقة الأكثر حكمة هي التوصل إلى اتفاق سلمي". وليس من المستغرب أن ينص الموقف السعودي على أنه يجب على إيران أولا إنهاء دعمها الحوثيين قبل أن تتقدم أي محادثات ذات مغزى بين طهران والرياض.
ومن المفترض أن الجانبين بدآ في التمسك بهذه المواقف خلال اجتماعهما في 21 سبتمبر/أيلول في مطار بغداد الدولي. ومع استمرار العراق في أداء دور الوسيط الحاسم، تشير التقارير إلى أن الدبلوماسيين السعوديين والإيرانيين أنشأؤوا إطارا مؤقتا لمعالجة الصراع في اليمن. لكن كما يقول أحد المحللين، "لا يزال يتعين على إيران إثبات أن لها تأثيرا حقيقيا على الحوثيين، على الأقل بما يكفي لجعلهم يجلسون في محادثات السلام".
وإذا كانت قدرة طهران على دفع قوات الحوثيين إلى طاولة المفاوضات محدودة في الواقع، فقد تكون قدرتها على الاستفادة من الصراع اليمني لصالحها الاستراتيجي مقيدة أيضا. ومن المؤكد أن هذا الاحتمال سيؤثر على حسابات القادة السعوديين، الذين سيتساءلون عما إذا كانت لدى طهران الإرادة السياسية أو حتى الوسائل للضغط على الحوثيين.
وستعتمد أهمية هذه الحسابات المتنافسة في نهاية المطاف على مسار العلاقات الأمريكية الإيرانية ومصير خطة العمل الشاملة المشتركة. وقد تشير التصريحات الأخيرة للمفاوضين الإيرانيين بأن المحادثات ستستأنف في فيينا بحلول نهاية نوفمبر/تشرين الثاني إلى رغبة حقيقية في العودة إلى طاولة المفاوضات.
وربما تكون أيضا مناورة تكتيكية مصممة لكسب وقت لطهران، بعد أن تعرضت الآن لانتقادات شديدة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتوسيعها برنامج التخصيب بطرق حذر رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أنها قد تؤدي إلى انهيار كامل لآلية مراقبة الأمم المتحدة لمنشآت إيران النووية.
ومن المؤكد أن هذا الاحتمال يساعد في تفسير رد البيت الأبيض الحذر، إن لم يكن المتشكك، على التصريح الأخير للمسؤولين الإيرانيين. وكما ذُكر أعلاه، لا يزال القادة الإيرانيون يحاولون تحديد موقفهم النهائي بشأن هذه المسألة الحاسمة.
المشي على الماء
وفي نهاية المطاف، ستستفيد كل من إيران والسعودية من عملية الانفراجة، التي، إذا ما تقدمت، يمكن أن توفر فوائد اقتصادية كبيرة. ومن المفارقات، أن العودة إلى محادثات الاتفاق النووي، وإلى جانب ذلك آفاق زيادة صادرات النفط الإيرانية، قد تضع حدا لارتفاعات أسعار النفط الأخيرة حيث وصل سعر النفط الخام إلى 85 دولارا للبرميل.
وفي الوقت نفسه، إذا استؤنفت المحادثات وتقدمت، فقد تزيد إيران أيضا من صادراتها. ومع ذلك، إذا كان من الممكن أن تكسب إيران الكثير من الجهد المستمر للمضي قدما في محادثات فيينا، فإن حكومتها المتشددة لا تزال متشككة بعمق في أن تفي إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" بأي التزامات تتعهد بها على طاولة المفاوضات.
وبالتالي، سواء عن قصد أو بشكل افتراضي، فإن الارتباك الناجم عن الوعود والتصريحات المختلفة التي أدلى بها القادة الإيرانيون بشأن محادثات خطة العمل الشاملة المشتركة يعمل لصالح طهران أكثر من الرياض. وبينما يحاولون اتخاذ قراراتهم وإبقاء خياراتهم مفتوحة، يمكن للمتشددين في إيران خلق مساحة أكبر للمناورة من خلال السعي لتحقيق انفراجة مع السعودية قد لا تحدث خلال وقت كبير.
وعلى أمل إنهاء الصراع في اليمن، ولكنهم غير متأكدين مما إذا كان هذا سيحدث بالفعل، فإن القادة السعوديين لديهم أيضا مصلحة في تهدئة العلاقات مع طهران. على أقل تقدير، قد تؤدي عملية الانفراجة المتزايدة إلى خفض درجات الحرارة السياسية والاستراتيجية في الخليج مع كسب قدر من الدعم من القادة الغربيين. وفي الخليج، كما في أي مكان آخر، تتعلق الانفراجة بإدارة الصراعات بدلا من تجاوزها.