د. صادق الطائي- القدس العربي-
أعداء الأمس الذين كانوا يتوعدون بعضهم بالويل والثبور، يحتضنون ويقبلون بعضهم بعضاً، حتى بدا المشهد مدعاة للاستغراب والحيرة. العداء المستحكم والتهديدات بين إيران والإمارات، تحولا فجأة إلى اتفاقات تجارية استراتيجية، وربط موانئ على أعلى مستوى اقتصادي في العالم.
أبوظبي التي اعتبرت تركيا أردوغان والإخوان المسلمين الشيطان الأكبر الذي لا يمكن التعايش معه، بل دعت وسعت لاجتثاث هذا الفكر أينما وجد في المنطقة، وترجمت ذلك إلى سياسات وتدخلات عسكرية، على مدار سنوات العقد الأخير في كل البؤر الساخنة في الشرق الأوسط: في سوريا واليمن وليبيا والصومال.
بل إن الأزمة الخليجية والحصار الذي فرضته الدول الأربع (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) على قطر، لم يكن محركه الأساس إلا عداء محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي لوجود الإخوان في الدوحة.
فـ(شو عدا مما بدا) كما يقول اللبنانيون، ليتغير كل شيء في مشهد الشرق الأوسط وبشكل متسارع، فنجد عبدالله بن زايد وزير خارجية الإمارات يقوم بزيارة لدمشق في أيلول/سبتمبر الماضي، ويحتضن الرئيس بشار الأسد، ويؤكد له:
«حرص دولة الإمارات على أمن واستقرار ووحدة سوريا الشقيقة ودعمها لكل الجهود المبذولة لإنهاء الأزمة السورية، وترسيخ دعائم الاستقرار في البلاد، وتلبية تطلعات الشعب السوري الشقيق في التنمية والتطور والرخاء».
والعجيب في الأمر رد الفعل السوري، إذ ذكرت الرئاسة السورية في بيان رسمي، أن الجانب السوري والوفد الإماراتي «بحثا العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، وتطوير التعاون الثنائي في مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك، وتكثيف الجهود لاستكشاف آفاق جديدة لهذا التعاون».
وبعد سعي دول مجلس التعاون وبضمنها الإمارات على مدى عقد من الزمان لإطاحة نظام الأسد، عبر دعم مختلف التيارات المعتدلة والراديكالية في الحرب السورية، نجد الرئيس الأسد يؤكد قوة العلاقات بين البلدين وينوه بـ«المواقف الموضوعية والصائبة التي تتخذها الإمارات، مشددا على أن الإمارات وقفت دائما إلى جانب الشعب السوري!!».
أما دفء العلاقات الإماراتية الإيرانية، الذي ساد فجأة فهو يثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب، فبعد كل ما حصل بين الجارين من تهديدات إيرانية بحرية، واتهامات إماراتية موجهة للحرس الثوري الإيراني، بمهاجمة السفن والمنشآت الإماراتية، وتحريض أبوظبي لأميركا وإسرائيل لإطلاق عمليات عسكرية ضد إيران، يطوى كل ذلك فجأة!
وتفتح صفحة تعاون استراتيجي بانت بوادره باتفاق تجارة بحري استراتيجي هو مشروع خط (الشارقة – بوشهر- مارسين) الذي سيمثل بديلا لخط النقل التجاري المنطلق من الشارقة والمار بمضيق باب المندب، ثم قناة السويس ليصل موانئ البحر المتوسط.
الإيرانيون من جانبهم عبروا عن فرحتهم بهذا التغير في مواقف الإمارات، وجاء ذلك في زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني، وكبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني، إلى دولة الإمارات يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، حيث التقى المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات أنور قرقاش.
وفي سياق التهدئة بين إيران والإمارات، بحث هاتفيا وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، العلاقات الثنائية ومجالات التعاون المشترك بين البلدين.
وكان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، قد أكّد عدم وجود عقبات في طريق توسيع العلاقات بين إيران والإمارات في مختلف المجالات، خصوصاً المجال الاقتصادي. وفي زيارته الاخيرة لأنقرة يوم 24 نوفمبر الجاري احتضن محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي والحاكم الفعلي لدولة الإمارات عدوه اللدود الرئيس رجب طيب أردوغان.
وبعد كل التوتر والحرب الباردة بين الدولتين، طويت صفحة الخلافات، وابتدأت صفحة التعاون تحت يافطة الشعار البراغماتي الشهير: في السياسة لا توجد عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة، لكن هنالك مصالح دائمة.
المصالح التركية تمثلت في خطوات رأت فيها أنقرة إنقاذا لاقتصادها المتدهور، ومعالجة لتدهور سعر صرف الليرة التركية، الذي وصل مراحل غير مسبوقة في التراجع، إذ تم الاتفاق على استثمار الإمارات 10 مليارات دولار في تركيا، وتوقيع 10 اتفاقيات ومذكرات تعاون بين البلدين.
ليبقى السؤال المركزي في كل التغيرات التي يشهدها الشرق الأوسط؛ ما هي الأسباب والدوافع التي جعلت أبو ظبي تتحرك في هذا الاتجاه وبهذا الاندفاع؟
وللإجابة نجد أن هناك تباينا في وجهات النظر، وتنوعا في قراءات الموقف الإماراتي، وربما يمكننا إجمال الآراء في عدد من المحاور، أهمها:
يرى بعض المحللين أن دولة الإمارات أرادت الدخول في الخطة الصينية المعرفة باسم «مبادرة الحزام والطريق»، أو التي تعرف إعلاميا باسم طريق الحرير الجديد، والمعروف أن إيران وتركيا تلعبان أدوارا مهمة في هذه الخطة، وبالتالي سعت أبوظبي لموازنة مواقفها، وعدم وضع كل البيض في سلة الولايات المتحدة، العدو اللدود للصين؛
ويرى البعض أن التحول الإماراتي، ابتدأ مع بداية العهدة الرئاسية للرئيس جو بايدن، إذ تبنت الإمارات سياسات خفض التصعيد في الإقليم مع خسارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية.
كما يمكننا قراءة بعض السيناريوهات المعتمدة على نمط من نظرية المؤامرة في تحليل سياسات الإمارات الجديدة، مثال ذلك بعض المحللين الذين رأوا في التحركات الإماراتية الأخيرة نوعا من السعي لتحييد السعودية، وبالتالي لعب الدور المركزي في توازنات واستراتيجيات الشرق الأوسط الجديد.
وقد رسخت هذه الاعتقادات المساعي الطموحة للتوسع الإقليمي، التي تبناها محمد بن زايد طوال العقد المنصرم، والتي قادت أحيانا إلى التصادم مع سياسات محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، يقابل ذلك الصمت السعودي الرسمي حيال الخطوات الإماراتية، وعدم إظهار الرياض لردود فعلها بوضوح تجاه سياسات أبوظبي الجديدة.
لكن البعض جمع المعطيات التي دخلت كمتغيرات على الموقف الإماراتي في محاولة لقراءة المشهد وفقا لذلك، وأبرز التغيرات في الموقف الإماراتي هو لعبها دورا محوريا في التطبيع مع إسرائيل، واعتبر من تبنى وجهة النظر هذه، أن خطوات أبوظبي الأخيرة في السعي للتقارب مع إيران وتركيا، إنما حركها الترويج لسياسات التطبيع مع إسرائيل.
إذ كتب بعض المحللين عما سموه «البصمة الإسرائيلية في الانفتاح التركي الإماراتي المفاجئ»، وإن «الحديث عن استثمارات اقتصادية وضخّ المال الإماراتي تجاه أنقرة، لا يمثل سوى غطاء ونافذة لتثبيت أو كسب مواقف وتغيير في التوجهات».
أما موقف الرئيس أردوغان فقد ظهر متذبذبا تجاه الإمارات، إذ شن هجوماً عنيفاً على سياسة محمد بن زايد عندما وقّع اتفاقية التطبيع مع «تل أبيب» في آب/أغسطس 2020، وهدَّد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
لكن وفي تغيير ملحوظ نجد الرئيس أردوغان قد تحدث مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ يوم 24 نوفمبر الجاري وقال له؛ «إن العلاقات التركية الإسرائيلية مهمة وضرورية من أجل الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط»، وأكد «ضرورة التحرّك المشترك في إطار التفاهم المتبادل، ليساهم ذلك في تجاوز الخلافات في وجهات النظر حيال القضايا الثنائية والإقليمية، كما أن استمرار الحوار بين تل أبيب وأنقرة يصبّ في مصلحة الطرفين».
وفي خضم هذه التداعيات يمكن أن تبقى نقطة عصية على الفهم، وهي موقف إيران وحلفائها في الإقليم، الذين سوقوا أنفسهم كمحور للمقاومة ومواجهة السياسات الإسرائيلية الاستعمارية في المنطقة، والذين هاجموا الإمارات باعتبارها قد تحولت إلى مخلب إسرائيلي ينفذ سياسات وأجندات التطبيع في الشرق الأوسط، ولا بد من انهم سيواجهون سؤالا محوريا هو:
كيف ستتعاونون اقتصاديا مع دولة تقود سياسات التطبيع مع إسرائيل في الشرق الأوسط؟ فهل ستتعاطى إيران وحلفاؤها ببراغماتية مع أبوظبي في مسعى لإنقاذ الاقتصاد الإيراني، وتغمض عينيها عن اتهاماتها السابقة للإماراتيين؟ هذا ما ستظهره الأحداث المقبلة.