متابعات-
من الطبيعي الترحيب بأي خطوة تحرك إيران وجيرانها العرب في الخليج، خاصة السعودية، بعيدا عن المواجهة، لأن خفض التوترات يقلل من فرص سوء التقدير والتصعيد، لذلك رحب كثيرون بالتحركات الأخيرة نحو انفراجة إيرانية خليجية، بالنظر إلى الأزمة الهائلة في العلاقات والتي بلغت ذروتها في الهجوم الإيراني على مرافق النفط السعودية في سبتمبر/أيلول 2019.
وفي أغسطس/آب الماضي، أعادت الإمارات إرسال سفيرها إلى طهران، وسط محادثات رفيعة المستوى بين الجانبين، كما توسط العراق في جولات حوار بين سعودية وإيران منذ أبريل/نيسان 2021.
لكن بغض النظر عما يبدو عليه هذا التطور في العلاقات، لا ينبغي أن نغفل العقبات الواسعة أمام خفض حقيقي ومستمر للتوترات. وبالرغم أن البعض يركز علي العقبات المتعلقة بالعداء الطائفي، لكن جوهر المشكلة لا يتعلق كثيرًا بمسألة السنة والشيعة، بقدر ما يتعلق بما يسميه أساتذة العلاقات الدولية "المعضلة الأمنية".
ويتم استخدام هذا المصطلح أحيانا بشكل فضفاض كمرادف لأي مشكلة جيوسياسية، لكن في الواقع هناك تعريف أكثر دقة يمكن أن يفسر صعوبة تحقيق التفاهم الإقليمي في الخليج.
صاغ "جون هيرز" مصطلح "المعضلة الأمنية" عام 1950 في كتابه "المثالية الدولية والمعضلة الأمنية". وأصبح هذا المصطلح حاضرا في كثير من الأعمال التأسيسية لنظرية العلاقات الدولية عند "روبرت جيرفيس" و"جلين سنايدر" و"تشارلز جلاسر" وآخرين.
ومن السهل فهم هذه المعضلة ولكن من الصعب للغاية التغلب عليها؛ فالدول تريد حماية نفسها لذلك تقوم بمراكمة قوتها - العسكرية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية - لردع الخصوم المحتملين، وقد يكون هذا التراكم دفاعيًا بحتًا من منظور الدولة. لكن جيرانها غالبا ما يكونون غير متأكدين من تلك النوايا الدفاعية، لذلك يتجه هؤلاء الجيران إلى مراكمة قوتهم لحماية أنفسهم من النوايا العدوانية للدولة الأولى، وعندما ترى الدولة الأولى بدورها أن جيرانها يتخذون مثل هذه الخطوات، فإنها تضاعف جهودها.
وتستمر هذه الدائرة المفرغة، ومن خلال هذه الديناميات، يتعمق العداء وقد يؤدي إلى الحرب.
الخليج مثال حيّ على المعضلة الأمنية
يعد وضع إيران ودول الخليج مثالا واضحا على المعضلة الأمنية، حيث ترى القيادة الإيرانية أن الولايات المتحدة وإسرائيل تهديد حيوي للنظام في طهران، لذلك تحاول امتلاك أسلحة نووية كخطوة دفاعية بحتة لردع العدوان الأمريكي الإسرائيلي.
وتبرر القيادة الإيرانية دعمها للجهات الفاعلة غير الحكومية في جميع أنحاء العالم العربي، مثل "حزب الله" والحوثيين، ومختلف الميليشيات الشيعية العراقية، باعتبارها "خط الدفاع الأمامي" ضد المكائد الأمريكية والإسرائيلية المحتملة.
علاوة على ذلك، فإنها ترى العلاقات الأمنية الأمريكية مع السعودية والممالك الخليجية الأخرى باعتبارها تهديدا لإيران، وليس من المهم هنا تقييم مدى صدق هذه النوايا الدفاعية، حيث تعمل جميع الدول من خلال مزيج من الدوافع الهجومية والدفاعية فيما يتعلق بسياساتها الخارجية.
في المقابل، هناك شعور بالتهديد لدى قادة السعودية والإمارات الذين يراقبون توسع نفوذ إيران في جميع أنحاء المنطقة وتطوير إيران لبرنامجها النووي، وقد أكد هجوم إيران على مرافق النفط السعودية في سبتمبر/أيلول 2019 هذا التهديد.
وأمام نمو القوة الإيرانية واستعداد إيران لاستخدامها ضد دول الخليج، تتجه هذه الدول إلى تعميق علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة، وفي بعض الحالات مع إسرائيل من خلال "اتفاقات إبراهيم"، لكن هذه الخطوات تؤكد ببساطة للقيادة الإيرانية صدق تصورهم عن التهديدات التي يواجهونها. وهكذا تتصاعد دوامة العداء في مثال حي على نظرية "المعضلة الأمنية".
طرق الحل الممكنة
لا يمكن حل المعضلة الأمنية، فهي مشكلة هيكلية في نظام توازن القوى الذي يشكل معظم المواقف الأمنية الدولية، ومع ذلك يمكن تحجيم آثارها عبر التواصل بهدف تخفيف المخاوف المتعلقة بالنوايا المعادية، وإن كان هذا التواصل لن يقضي على المخاوف بشكل كامل.
يمكن أن تشير المواقف الدفاعية القوية إلى تكاليف اندلاع الصراع، ويمكن للمصالح المشتركة أن تجمع الدول في أطر عمل تعاونية تقلل بشكل كبير من فرص الصراع المسلح.
ولسوء الحظ، لا يمكن العثور إلا على القليل من العوامل المهدئة في الخليج هذه الأيام، فقد أدى الانسحاب الأمريكي من خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2018 إلى توسع وتسريع البرنامج النووي الإيراني. كما إن الفشل الأخير في المفاوضات النووية يزيد من احتمال صدام مستقبلي يفاقم التوترات الإقليمية.
وفضلا عن ذلك، فإن الأزمة المستمرة في المشهد السياسي العراقي تعزز عدم اليقين الإقليمي، كما أن الصراع ما يزال مستمرا في اليمن بالرغم من وقف إطلاق النار الذي تم تجديده مؤخرًا. ومن الجيد بالطبع أن يتحاور السعوديون والإيرانيون، لكن هذه المحادثات لم تؤدِّ حتى الآن إلى أي اتفاقيات ملموسة حول القضايا الإقليمية الرئيسية.
ولا يوجد إلا أمثلة تاريخية قليلة في الشرق الأوسط الحديث فيما يتعلق بالتغلب على العقبات التي تطرحها المعضلة الأمنية. وتعد أهم حالة في هذا الصدد هي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وقد تطلب ذلك تحولًا جوهريًا في أهداف السياسة الخارجية المصرية وتغييرًا لدى القيادة المصرية، ولكن من غير المرجح أن تمر إيران بهذا النوع من التحول في أي وقت قريب.
وقد يكون المثال الأكثر صلة بالموضوع هو الانفراجة التي حققتها إيران في عهد الشاه وحزب "البعث" في العراق في عام 1975، عندما تم التوقيع على اتفاقية الجزائر. ففي هذه الحالة، تم تهدئة العداء العلني مع انتهاء دعم طهران للانفصاليين الأكراد في العراق مقابل تعديلات حدودية كانت إيران تسعى إليها في شط العرب.
ومع ذلك، لم يستمر خفض التوترات طويلاً، حيث أطاحت الثورة الإيرانية بالشاه من السلطة، وقام "صدام حسين" بتمزيق اتفاقية الجزائر أمام البرلمان العراقي مع اندلاع الحرب مع إيران في عام 1980.
ومن الممكن أن تعطي الحكومة الإيرانية إشارات ملموسة لدول الخليج العربية بأنها لا تنوي تهديد أمنها الداخلي أو الخارجي، ويمكن لخطوة بشأن الصراع في اليمن أن تقدم مثل هذه الإشارة، إذا ضغطت إيران على حلفائها الحوثيين للتوصل إلى تسوية، كما يمكن لإيران أن تقدم إشارة أخرى عبر التعاون مع الأطراف الإقليمية والمحلية في العراق للتغلب على الأزمة السياسية الحالية.
وحتى الآن، تتضاءل احتمالات قيام إيران بتحركات لطمأنة دول الخليج أو قيام الولايات المتحدة أو إسرائيل بتحركات لطمأنة طهران، لذلك فإن المعضلة الأمنية تترعرع في منطقة الخليج، ويعني هذا احتمال تصعيد التوترات وربما الصراع المباشر بين اللاعبين في المنطقة، بما في ذلك الولايات المتحدة.