متابعات-
سقطت سريعاً محاولة أميركا لتصوير النظام في إيران على أنه نظام مأزوم يسعى إلى تصدير أزمته إلى الخارج، عبر الحديث عن «هجوم وشيك» مزعوم على منشآت النفط السعودية. والغريب أن هذه المحاولة التي لا تصلح سيناريو لفيلم هوليوودي فاشل، من النوع الذي لا ينفد مخزون الرصاص أبداً في رشاشات أبطاله، يأتي بعد محاولات حثيثة، كانت فاشلة هي الأخرى، لاستمالة طهران بغرض إقامة توازن مع التمرّد السعودي عليها، حين اختارت الأخيرة، كما يَفرض المنطق، البقاء داخل الحلف المعادي لأميركا، الذي تتصدّره روسيا راهناً
عصفوران بحجر واحد، أرادت أميركا إصابتهما من خلال التسريب الذي نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» نقلاً عن الاستخبارات السعودية حول «هجوم إيراني وشيك» على المنشآت النفطية في المملكة. الأوّل هو إظهار أن النظام الإيراني مأزوم، ويسعى إلى تصدير أزمته، بعدما انقلب سحر التظاهرات على ساحرها، منذ الهجوم «الداعشي» في شيراز، والذي كان يندرج في السياق نفسه، وإنما أعطى مفعولاً عكسيّاً. والثاني هو العودة إلى التكتيك المعروف باستخدام إيران فزّاعة للسعودية لإعادتها إلى بيت الطاعة الأميركي.
ويمكن للاستدلال، تسجيل مجموعة ملاحظات:
أولاً: التسريب، في الواقع، أميركي وليس سعودياً، على رغم أن «وول ستريت جورنال» نسَبته إلى الاستخبارات السعودية. فالمتحدثون باسم مجلس الأمن القومي و«البنتاغون»، أتْبعوه بسَيْل من التصريحات التي تتضمّن تهديداً بالتدخّل لحماية المملكة، فيما تعامل معه السعوديون على مستوى الإعلام الذي نقله عن الصحيفة الأميركية، في حين كان يفترض، لو أن السعودية تتبنّى رسميّاً هذا الاتهام، أن يَصدر في شأنه بيان رسمي، أو أن يتجاهله الإعلام السعودي تماماً، كما هو معهود في وسائل الإعلام في المملكة التي لا تملك أيّ هامش حريّة.
ثانياً: عندما وقع هجوم فعلي على منشآت «أرامكو»، في أيلول 2019، واتهمت كلٌّ من الرياض وواشنطن، طهران بالوقوف خلفه، تركت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، السعودية وحيدة في المواجهة، ولم تهبّ لنجدتها، على رغم الصداقة التي جمعت ترامب بولي العهد السعودي، محمد بن سلمان. بل إنها عَمَدت، بعد أشهر من ذلك الهجوم، إلى سحْب أربع بطاريّات «باتريوت» منها، وعدد من الطائرات الحربية، فضلاً عن عشرات الجنود الذين كانوا قد تمركزوا على الأراضي السعودية. فلماذا ستتدخّل اليوم في ظلّ علاقة سيئة بين ابن سلمان والرئيس الأميركي، جو بايدان، الذي تقوم سياسته على تخفيف الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، ولا يقبل، كما لا يقبل الرأي الأميركي منه، أيّ تورّط في الدفاع عن السعودية التي كان وصفها في حملته الانتخابية بأنها «دولة مارقة»؟ فأغلب الظنّ أنه لو كان على يقين بأن طهران مستعدّة لضرب المملكة، لكان صمت وشمت بها.
ثالثاً: من الأهداف الرئيسة للتسريب، تخويف ابن سلمان من الدولة الجارة لإعادته إلى بيت الطاعة، وهو ما يفسّر التعامل السعودي معه عبر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي فقط، من دون تبنّيه رسمياً. وذلك يدلّ على أن الرياض لم «تشترِ» التسريب الأميركي، وإنّما أرادت فقط المشاركة في الحملة على إيران، كجزء من محاولة اللعب على قضيّة التظاهرات التي تقوم بها عبر التحريض الإعلامي.
هشاشة التسريب تجلّت في سرعة انتقال إدارة بايدن من تهديد السعودية إلى ادّعاء الحرص على حمايتها
رابعاً: تريد الولايات المتحدة معاقبة إيران على تأييدها روسيا في حرب أوكرانيا، بعدما خلصت طهران إلى أن توقيع اتفاق نووي في هذا التوقيت، من دون تحقيق شروط معيّنة، سيُصرف، بشكل أو آخر، من قِبَل الأميركيين في الموازين الدولية في لحظة حسّاسة. ولهذا، كان الخيار الإيراني موجعاً للأميركيين، وهو خيار من طبيعة استراتيجية تنظر إليه طهران كفرصة تاريخية، إذ كيف يمكن لدولة واجهت النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط في ذروته، أن تغيّر تموضعها في زمن التراجع الأميركي في هذه المنطقة؟
خامساً: فَلْنتخيّل أن هجوماً من إيران أو ممَّن يحسبهم الغرب والرياض عليها، وقع في السعودية، فهل أميركا مستعدّة للانخراط في حرب مع دولة إقليمية كبرى كإيران، فيما لم يمضِ سوى عام ونيّف على فرارها من أفغانستان واختباء جنودها خلف الجيش العراقي في بعض القواعد في بلاد الرافدَين، وفيما هي تحارب بالأوكرانيين والأوروبيين وتجاهر بأنها لا تريد أيّ حرب أخرى حتى لا تتشتّت الجهود ضدّ روسيا في أوكرانيا؟
سادساً: إيران شنّت هجوماً صاروخياً تبنّته علناً، على قنصلية الولايات المتحدة في أربيل التي تؤوي قاعدة لـ«الموساد» الإسرائيلي في 13 آذار الماضي؛ وحينها، لم تدافع أميركا عن قنصليتها، بل إن قائد القيادة الوسطى، الجنرال كينيث ماكنزي، الذي انتهت ولايته في نيسان الماضي، وبّخ إسرائيل، مشتكياً من أن تصعيدها المواجهة مع إيران يضع الجنود الأميركيين على تقاطع النيران.
سابعاً: أصل المشكلة في العلاقات الأميركية - السعودية، وتحديداً في العلاقة بين بايدن وابن سلمان، هو أن النظام السعودي لا يطمئنّ إلى مستقبله من دون حماية أميركية، ويَعتبر أن تلك الحماية وفّرت له أسباب البقاء والازدهار على مدى ثمانين عاماً، بكلّ ما شهده الجوار العربي والشرق أوسطي خلالها من اضطرابات عنيفة، بما فيها الانقلابات العسكرية التي أطاحت، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، الكثير من الأنظمة المماثلة، وما سمي بـ«الربيع العربي».
لا يعدو أمر التسريب كونه محاولة لإثارة البلبلة، ضمن استهداف الجمهورية الإسلامية على المستوى النفسي، أي من خلال إرسال رسالة إلى المتظاهرين بأن الولايات المتحدة تؤازرهم. ما تقدَّم، قاله بايدن علناً، حين صرّح أخيراً بأنه يسعى إلى «تحرير» إيران، وهي من الزلّات التي عملت الإدارة على التخفيف من حدّتها، وتوضيحها للإيرانيين بعد ذلك. ولذلك، جاء ردّ طهران سريعاً وحازماً بنَفْي وجود أساس لهذا التسريب، لتفويت الفرصة على الأميركيين. على أن أكثر ما يُظهر هشاشة التسريب، انتقال الإدارة الأميركية، في غضون أيام قليلة، من تهديد النظام السعودي بالعقوبات بسبب قرار «أوبك بلس» خفض إنتاج النفط، الذي لسع الأميركيين بإطلاق موجة تضخّم مجنونة لا سابق لها منذ أربعة عقود، إلى ادّعاء الحرص على حماية هذا النظام نفسه من التهديدات الإيرانية المزعومة.