متابعات-
هناك بيئة لكل حدث سياسي كبير، والاتفاق الإيراني- السعودي لم يكن رعداً في سماء صافية، حيث كان هناك التوتر المعلن، وأحياناً المكتوم، بين الرياض وواشنطن، والذي بدأ عام 2015 وكان سببه الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، وكان أحد ترجماته حرب السعودية على الحوثيين باليمن، والتي لم يكن الرئيس الأميركي باراك أوباما موافقاً عليها. حيث شعر السعوديون عامذاك بأن الأميركان، مع انزياحهم عن منطقة الشرق الأوسط باتجاه التركيز على الشرق الأقصى لمواجهة الصعود الصيني، يريدون تهدئة الشرق الأوسط عبر الاتفاق مع طهران التي تركوها بصمت أميركي تتمدد في المنطقة بالترافق في ما قبل وما بعد الاتفاق النووي، ومن ثم ثانياً عبر الاتفاق الأميركي أيضاً عام 2015 على مجيء الروس العسكري إلى سوريا لمواجهة صعود الإسلاميين العسكري، الذين كانوا عام 2015 يحظون بدعم أنقرة والرياض معاً. وهذه حالة لم تتكرر لا بعد ولا قبل عندما اتفق الأتراك والسعوديون على دعم المسلحين السوريين المعارضين، الذين اجتاحوا في ربيع وصيف 2015 محافظة إدلب ثم منطقة الغاب، فيما قام «جيش الإسلام»، المدعوم من السعودية في دوما، بقطع طريق دمشق-حمص في أيلول 2015. هذا الاتفاق الأميركي-الروسي الذي أنتج القرار 2254 بعد شهرين ونصف من الدخول العسكري الروسي إلى الأراضي السورية.
هنا، يجب ملاحظة كيف أن السعوديين، بالتزامن مع محادثات إحياء الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن في فيينا بشهر نيسان 2021، قد بدأوا محادثات موازية مع الإيرانيين، وبالتأكيد هي وقائية، معاكسة وليست فرعية عن محادثات فيينا، في بغداد بالشهر نفسه، على مستوى استخباراتي، وهو ما استمر في جولات عدة لعامين. ويبدو أن الرياض، التي كانت في عيد عندما سحب الرئيس الأميركي ترامب عام 2018 توقيع واشنطن على الاتفاق مع طهران ثم كانت مهجوسة من بايدن الذي أراد إحياء الاتفاق، قد تعلمت من درس عام 2015 بأن يكون لها اتفاقها الخاص مع طهران وأن لا تترك الأميركان بأن يكون لهم اتفاقهم المنفرد وحدهم مع إيران. هذا الاتفاق الذي كان عام 2015 محدداً لتطورات المنطقة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، كما أن خروج ترامب منه عام 2018 قد قلقل المنطقة وكان من المتوقع أن عودة بايدن له ستكون لها تأثيرات مفصلية على عموم المنطقة. في هذا الصدد، يجب ملاحظة كيف أن محادثات فيينا قد سبقتها حركات أميركية أزعجت الرياض، مثل رفع الحوثيين من قائمة الإرهاب الأميركية ثم نشر تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عن مقتل خاشقجي عام 2018 والذي وضعه ترامب في الأدراج ثم نشره بايدن بعد أسابيع من دخوله البيت الأبيض في يوم 20 كانون الثاني 2021، وفيه اتهام ضمني لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالضلوع في تلك المقتلة التي جرت في القنصلية السعودية في إسطنبول.
أيضاً، كان من بيئة الاتفاق الإيراني-السعودي هو التنسيق بين الرياض وموسكو في «أوبك+» لرفع أسعار النفط، والذي دفع بايدن لمهاجمة السعودية بالخريف الماضي علناً. وكذلك كان من بنية وعناصر هذه البيئة هو تغيير السعودية لسياستها العامة في الأزمة السورية، والذي هو في الواقع قد بدأ عام 2017 عندما تم إبلاغ معارضين سوريين بأن الرياض ستركز على الموضوع اليمني وأن هناك نأياً سعودياً عن الموضوع السوري، ثم ترجم هذا بالعامين الماضيين عندما دعمت الرياض، ولو من الخلف مبادرات إماراتية-أردنية-مصرية-جزائرية، التطبيع مع السلطة السورية، وهو ما أعطى إشارات سعودية ودية تجاه طهران وكذلك موسكو. ثم كان من هذه العناصر لبيئة الاتفاق زيارة الرئيس الصيني للرياض العام الماضي والتي كانت أنجح من زيارة للسعودية قبل أشهر قام بها الرئيس الأميركي.
هو اتفاق نوايا يجب انتظار ترجمتها في ملفات متعددة أولها اليمن، حيث طهران والرياض هما اللاعبان الكبيران هناك، وهو شيء غير موجود في الأزمة اللبنانية
هنا، يبدو أن ولي العهد السعودي كان يفكر جدياً في كلام قاله هو ولمّح له بعد قليل من أزمة خاشقجي بأن السعودية تملك خيارات وأبواباً عدة غير الباب الأميركي الذي ظن الأميركان منذ عام 1945 مع لقاء الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود في السويس، بأن السعودية هي «بئر نفطي أميركي» والأسرة السعودية المالكة هي «الحارس له» مقابل «ضمانة أميركية بحماية الأسرة واستمرارها».
إذا أتينا إلى عوامل تدفع إيران إلى هذا الاتفاق مع الرياض، فيجب التسجيل، هنا في أولها، واقعة فشل وانهيار مفاوضات فيينا في آب الماضي عندما رفضت طهران صيغة الوسيط الأوروبي جوزيب بوريل والتي سمّاها بـ«الصيغة النهائية» من أجل إحياء الاتفاق النووي، فيما وافقت واشنطن. ثم رأينا بعد ذلك كيف زاد التعاون العسكري الإيراني-الروسي وأيضاً كيف تعمّقت العلاقات الاقتصادية بين طهران وبكين، في ظرف دولي أنشأته وربما أعلنته الحرب الأوكرانية عن انقسام عالمي جديد سمّاه أخيراً وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن بأنه «انتهاء لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وبدء منافسة عالمية»، أصبح فيه التحالف الصيني-الروسي في مواجهة تحالف حلف الأطلسي-اليابان-كوريا الجنوبية-أستراليا. يمكن هنا قراءة دوافع صيغة بوريل «النهائية» بأنها دفع لطهران للزاوية الضيقة من أجل إجبارها على الاتفاق في ظرف الحرب الأوكرانية فيما يبدو أن الرفض الإيراني قد أتى من قراءة في طهران بأن مجالات المناورة الإيرانية قد أصبحت أوسع مع تلك الحرب الأوكرانية وأن الجو العالمي يتيح ذلك.
هنا، يمكن قراءة الاتفاق الإيراني-السعودي بأنه أحد ترجمات المجالات الأوسع التي أصبحت عليها مجالات المناورة الإيرانية. وفي الوقت نفسه بأنه تحصين إقليمي لوضع إيران أمام العواصف المقبلة والمتوقعة عن فشل مفاوضات فيينا، بكل ما يعنيه هذا من احتمالات حرب مقبلة أميركية-إسرائيلية على إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، الذي يبدو وفق تصريحات أميركية أو إسرائيلية أنها هي على قاب قوسين أو أدنى من ذلك. لتحييد للسعودية عن تلك الحرب تريده إيران، وهو تحييد يرغبه كذلك ولي العهد السعودي الذي يريد أن يكون خارج تلك النار المقبلة، فهذا الاتفاق هو يحوي ضمنياً إعلاناً عن قرب تلك الحرب المقبلة، والتي غيومها وطبولها لا تخفى في تل أبيب وواشنطن.
من جانب آخر، هو اتفاق نوايا يجب انتظار ترجمتها في ملفات متعددة أولها اليمن، حيث طهران والرياض هما اللاعبان الكبيران هناك، وهو شيء غير موجود في الأزمة اللبنانية حيث طهران وواشنطن هما اللاعبان الكبيران، وأيضاً في الأزمة السورية حيث واشنطن وموسكو هما اللاعبان الكبيران (وهما في حالة تصارع الآن)، فيما أنقرة وطهران لاعبان أقل تأثيراً وفاعلية بينما العرب هم الأقل تأثيراً الآن في الأزمة السورية، ولا يمكن للعرب أن يكونوا مفتاح حل هذه الأزمة.
أخيراً، كما أن واشنطن هي في تفكير طهران والرياض في الاتفاق الإيراني-السعودي فإن راعي هذا الاتفاق وصاحب مكانه، أي الصين، تريد أن تعلن من خلاله أن منافستها العالمية مع الأميركان قد أصبحت ممتدة إلى منطقة الشرق الأوسط، وأنها لم تعد مقتصرة على منطقة المحيطين الهادئ-الهندي.