غزل أريحي- البيت الخليجي-
من النوادر في المشهد الإيراني، أن يقف التياران الأصولي والإصلاحي في صف واحد. أغرب من ذلك، أن هذا التوافق يأتي نتيجة الاتفاق الإيراني ـ السعودي في بكين، حيث رحب كلا التيارين بالاتفاق؛ الأصولي المحافظ الذي يحكم البلاد حاليًا على جميع المستويات بمعنى “تناسق السلطات” كما يطلق عليه في إيران، وذلك عندما تكون السلطات الثلاث أي التشريعية والتنفيذية والقضائية، فضلاً عن الحرس الثوري والإذاعة والتلفزيون تحت سيطرة تيار واحد. من الجانب الآخر، رحب التيار الإصلاحي بالاتفاق أيضًا، التيار الذي يعيش على صدى خلافات جذرية مع الأصوليين اتسعت بعد الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها إيران بعد وفاة الشابة مهسا أميني 16 أيلول/سبتمبر 2022 أثناء اعتقالها لدى شرطة الأخلاق والآداب في طهران. المراد بـ “الأغرب”، هو أن يصدر هذا الترحيب من قبل التيارين الأهم في إيران رغم اتساع الفجوة بينهما.
اندلعت الأزمة الإيرانية ـ السعودية عام 2016 بعد أن قامت السلطات السعودية بإعدام مواطنين بتهم تتعلق بالإرهاب أبرزهم نمر النمر وهو عالم دين شيعي سعودي مُعارض. ردًا على ذلك، هاجم متظاهرون إيرانيون مبنى القنصلية السعودية في مدينة مشهد، شمال شرقي إيران، كما تعرضت السفارة السعودية في العاصمة طهران للاقتحام. في اليوم التالي، الثالث من يناير 2016 أعلن وزير الخارجية السعودي آنذاك عادل الجبير قطع العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض وطالب أعضاء البعثة الدبلوماسية الإيرانية بمغادرة السعودية خلال 48 ساعة. بالنتيجة، ارتفعت وتيرة التوتر بين البلدين وبدأ الصراع بالوكالة في عدة دول داخل الشرق الأوسط وخارجها.
ولئن كان قطع العلاقات بين طهران والرياض قد تم في عهد الرئيس الإصلاحي حسن روحاني، فإن الاتفاق المعلن عنه في بكين تم في حكم الأصوليين في إيران. من هذا المنطلق، ورغم الترحيب الشامل، سرعان ما بدأ التيار الإصلاحي ـ على مستوى القيادات والمحللين المقربين منه ـ باستذكار والتأكيد على أن من تسبب بقطع العلاقات الإيرانية ـ السعودية من الجانب الإيراني هم الأصوليون الذين يتفاخرون اليوم بالاتفاق مع السعودية، ويتهمون الحكومة السابقة بالضعف.
الترحيب بالاتفاق يأتي نتيجة للعزلة الشاملة التي تخيم على إيران، يضاف لذلك أن ثمة انطباعاً لدى شريحة من الإيرانيين بأن بلادهم تمثل حالة شاذة، بمعنى أنها تأتي بسياسات وسلوك تنفرد بها ومخالفة للمألوف، ناهيك عن تأثير العقوبات السلبي على الاقتصاد ومعيشة المواطنين وانهيار العملة المحلية. اقتصاديًا، تتأثر الأسواق الإيرانية بالتطورات السياسية بشكل مباشر، وهذا ما حدث بالفعل صباح الإعلان عن اتفاق بكين، حيث تراجع الدولار الأميركي مقابل الريال الإيراني في الوقت الذي كان الشارع الإيراني يعيش إحباطًا اقتصاديًا بعد الارتفاع غير المسبوق للدولار قبل الاتفاق مع السعودية بأيام معدودة.
ما تتطلع له طهران من هذا الاتفاق، على الصعيد الداخلي، هو حالة الأمل التي شهدها المشهد الإيراني بعد الإحباط السياسي والاقتصادي الذي شهده الشارع على أثر ما يمكن وصفه بالموت السريري للمفاوضات النووية وظهور الاحتجاجات الأخيرة. يمكن وصف هذا الاتفاق بأنه خطوة في مسار احتواء شيء من الغضب الشعبي المهيمن على الشارع الإيراني على عدة مستويات سياسية، كذلك ما يتصل بالحريات والاقتصاد والمشاركة.
من جانب آخر، تشعر طهران بالقلق من الدعاية الخاصة بالرياض التي نجحت نسبيًا في التواصل المباشر مع الشعب الإيراني فيما يخص مزاعم طهران بدعم الرياض للمعارضة الإيرانية. ورغم التسويق الإعلامي من جانب إيران بأن السعودية تدعم المعارضة العربية في جنوب غربي إيران في منطقة الأهواز إلا أن طهران تعلم جيدًا أن تعداد المعارضة في الأهواز لا يشكل خطرًا مقارنة بالمعارضة الكردية مثلا. على الأغلب، التسويق لهذه الفكرة قد ينطلق من فكرة خلق عدو والتأكيد على وجود تهديد أمني بهدف توحيد الصف الداخلي.
حتى قبل الاحتجاجات الأخيرة كانت طهران تنظر إلى الرياض على أنها خصم سياسي لا يشكل تهديدًا أمنيًا أو عسكريًا مباشرًا. لكن بعد الدور النافذ الذي لعبته قناة فضائية – تتهم طهران الرياض بتمويلها – في الاحتجاجات ودعم المعارضة الإيرانية في الخارج، باتت طهران تعتقد أن الرياض أصبحت تهدد الأمن القومي فعلاً.
من المؤكد أن المعارضة الإيرانية في الخارج سوف تتأثر بهذا الاتفاق، كما أن القناة الفضائية المشار إليها أعلنت مؤخراً عن مغادرة مقرها من بريطانيا والانتقال إلى الولايات المتحدة، وتفيد أنباء غير رسمية بأن الانقطاع عن دعم القناة الفضائية اللندنية يأتي ضمن محاور الاتفاق بين طهران والرياض. في العموم، لا شك أن انقطاع الدعم السعودي سيضعف المعارضة الإيرانية ويقلص من امكانياتها داخل إيران وخارجها.
من المؤكد أن الرياض وطهران لن تصبحا حليفتان لبعضهما البعض، من المتوقع أن يتموضع هذا الاتفاق في هذه المرحلة باعتباره أشبه بسلام بارد بعد حرب باردة، خصوصاً وأن الحكومات في إيران ليست من تقرر مسار العلاقات الخارجية، بل عادة ما تكون السياسة الخارجية من اختصاص المرشد الأعلى للثورة، السيد علي خامنئي.
في حسابات الربح والخسارة الداخلية في التقارب مع السعودية، ستستمر دبلوماسية الحد الأدنى، لا شك بأن مصير الاتفاق سيُرسم في أربعة بلدان عربية إقليمية أخرى؛ اليمن ولبنان والعراق وسوريا. إذا ما توصل الإيرانيون والسعوديون إلى تسوية في كل من اليمن ولبنان سيستمر الاتفاق بمستوى أعلى من دبلوماسية الحد الأدنى، وهذا مرجح في هذه المرحلة. لكن بالنظر إلى تاريخ إيران في هكذا اتفاقات، وتحديدا الاتفاق النووي، يتضح أنها تعيش دائمًا دهشة البدايات، وهذا ما يأخذنا إلى احتمال في مسار آخر، إذ من الممكن أن يخفق الطرفان في التوصل إلى حل معقول في اليمن، ذلك أن التنازل الكامل عن دعم الحليف ليس سهلًا، أو أن تتعقد صراعات البلدين في لبنان والعراق، أو قد لا تنجح عملية “عودة سوريا إلى الحضن العربي”. هذه كلها عوامل قد تنسف الاتفاق وتعيد الرياض وطهران إلى نقطة الصفر.