متابعات-
دعا الباحثان في جامعة إنديانا جمشيد وكارول إي تشوسكي الإدارة الأمريكية التحرك والحد من التأثير الإيراني في المنطقة، حيث قالا إن طهران خرجت من الصندوق.
وكتبا أنه في نيسان/إبريل نٌشرت صورة مثيرة للدهشة لكل من وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان وهما مبتسمان ويصافحان بعضهما البعض، في بيجين مع وزير الخارجية الصيني قين غانع. وقد أظهرت المشهد كيف انقلبت العلاقة المرة على مدى عقود رأسا على عقب. وأستأنف البلدان التعاون الأمني وأعاد الرحلات الجوية والتجارة الثنائية، وفي 6 حزيران/يونيو افتتحت السفارة الإيرانية في الرياض بعد إغلاق دام 7 أعوام. ولم يتوقف الحد عند إعادة العلاقات مع السعودية، فقد بدأت إيران حملة تهدف لتحسين العلاقات مع دول المنطقة من البحرين وعمان والإمارات العربية المتحدة ومصر ومناطق أخرى.
وبرأي الكاتبين فقد وجدت إيران نافذة للإستفادة من الطموحات المشوشة والمتراجعة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ويرى الكاتبان أن إيران وصلت إلى هذا المستوى من إعادة ضبط العلاقات عبر تبنيها سياسة خارجية ذات مسحة أيديولوجية قليلة وتتسم بالبراغماتية. وحذر الكاتبان الدول العربية والغربية من مغبة المضي في هذا الطريق الذي اختطته إيران وضرورة التعامل مع السياسة الخارجية الإقليمية هذه بنوع من الشك و”لا شيء في السياسة الإيرانية يشير إلى أنها تريد أن تكون جارا جيدا على المدى البعيد. وكل الأدلة تظهر أنها تهدف لاستعادة دورها كقوة ثورية تصحيحية وبنية الحصول على الهيمنة الإقليمية. وبالنسبة للسعودية وبقية الشرق الأوسط فالتسويات مع إيران هي مقامرة كبيرة. وبالنسبة للغرب فستكون كارثة”.
وكانت إيران وعلى مدى 37 عاما من حكم الشاه محمد رضا بهلوي القوة المهيمنة بالمنطقة حيث تفوقت على جيرانها في الخليج بدعم أمريكي، وحتى تجاوزت السعودية ومصر اللتان انتفعتها من الحماية الأمريكية، إلا أن ثورة 1979 الإسلامية أشرت على بداية تدهور سريع في موقف إيران. وشعرت الدول العربية السنية بالخوف من محاولات إيران تصدير الثورة ودفع حكوماتها نحو التشدد. وشكلت 6 دول خليجية في عام 1981 مجلس التعاون الخليجي لمواجهة إيران، وظلت العلاقات بين إيران وجيرانها متوترة خلال العقد الذي تلا الثورة.
فقد اصطدمت إيران مع السعودية حول من له حق السيطرة على مكة، وتوترت العلاقات بعد اشتباك مجموعة من الحجاج الإيرانيين مع الشرطة السعودية عام 1987. وعادت العلاقات في فترة التسعينات لتنقطع في 2011 بعد اتهام الحرس الثوري بمحاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن. وزاد الربيع العربي من مخاوف الدول العربية ومحاولات التدخل الإيراني، واعتقلت السعودية في 2012 الشيخ نمر باقر النمر، واتهمته بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلد نيابة عن إيران. وبعد إعدام النمر في 2016 هاجم محتجون البعثات الدبلوماسية في إيران، مما أدى لطرد السفير الإيراني من الرياض. وتبع هذا بقية دول الخليج وحتى السودان الذي قطع علاقاته مع طهران.
ويؤكد الكاتبان أنه في وقت شهدت فيه علاقات إيران تدهورا مع جيرانها، واجه حكامها احتجاجات في الداخل، أولا من الطلاب في 1999 الذين طالبوا بمزيد من الفرص. وبشكل تدريجي حصلت تظاهرات الطلبة على دعم من قاعدة شعبية غير راضية عن الوضع. وعاد التوتر من جديد بعد عقد احتجاجا على الإنتخابات المزورة في 2009، حيث تحدى أكثر من مئتي ألف محتج السلطات. وتم قمع الإحتجاجات إلا أن السخط زاد بسبب نقص المياه وزيادة معدلات التضخم. واندلعت تظاهرات في الفترة ما بين 2019- 2020 احتجاجا على زيادة الأسعار وانتشرت من طهران إلى 20 مدينة أخرى. وواجه النظام الإيراني في أيلول/سبتمبر أخطر مرحلة تظاهرات اندلعت احتجاجا على وفاة الشابة مهسا أميني التي ماتت أثناء احتجاز شرطة الأخلاق لها لعدم التزامها بالحجاب. وانتشرت المظاهرات في المدن والأرياف لدرجة شعر فيها نظام آية الله خامنئي ان المعركة تحولت لصراع بقاء.
ويشير الكاتبان إلى أن دول الخليج راقبت خلال العقد الثاني من القرن الحالي بقلق انحراف اهتمام أمريكا عن الشرق الأوسط، وأن الرياض في حرب لا يمكن الإنتصار فيها باليمن ضد الحوثيين. وخلال الحرب زودت إيران الحوثيين بالصواريخ والمسيرات التي ضربت عمق السعودية بما فيها المنشآت النفطية لأرامكو عام 2019. وشعرت دول الخليج انها لا تستطيع تحمل هجمات تدعمها إيران، ومن هنا بات منظور إعادة العلاقات مع طهران جذابا وكطريقة لتخفيف التوتر وحماية المواطنين وتامين الإقتصاد.
وبحسبهما فلهذا شهد عام 2021 و2022 محادثات مصالحة في بغداد عبدت الطريقة امام استئناف العلاقات الثنائية بين طهران والرياض. وحاولت السعودية طوال المحادثات الحصول على ضمانات من طهران بوقف الحرب في اليمن والتوقف عن تشجيع اضطرابات بالمنطقة الشرقية. وبعد محادثات مكثفة في بيجين عقدت بداية آذار/مارس واستمرت لمدة أربعة أيام، عبر الطرفان عن النية لاستئناف العلاقات الثنائية. وزار وزير الخارجية السعودي طهران في 17 حزيران/يونيو بشكل يعكس مدى التطبيع بين البلدين.
وتبع ذلك تحركات أخرى من دول الخليج، فبعد محادثات عبر الهاتف في منتصف 2022، أعلنت الإمارات عن عودة سفيرها إلى طهران. وبالترادف مع التقارب السعودي- الإيراني، التقى نائب وزير الخارجية للشؤون الدولية والقانونية في آذار/مارس مع وفد كويتي للتباحث في حل الخلافات حول الحدود البحرية.
وبحسب الكاتبين تريد وزارة الخارجية الإيرانية إستئناف العلاقات مع البحرين والتي ستنفع العائلة السنية الحاكمة التي تحاول تخفيف التوترات مع الشيعة في البلاد. وقادت إيران حملة دبلوماسية أبعد من الخليج، فقد التقى وزير الخارجية الإيرانية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من أجل إعادة فتح العلاقات مع مصر بعد انقطاعها عام 1980 بسبب استقبال القاهرة للشاه المعزول. وعقد محادثات مماثلة مع الأردن. وبرأي الكاتبين تأمل مصر في تعزيز مصالحها الإستراتيجية بالتعاون مع إيران، وبخاصة التأثير على الجماعات التي تدعمها إيران مثل حماس والجهاد الإسلامي في غزة. وأعلنت طرابلس في آذار عن افتتاح السفارة الإيرانية ولأول مرة منذ إغلاقها عام 2011. وفي نهاية تموز/يوليو الماضي التقى وزير الخارجية السوداني مع نظيره الإيراني على هامش قمة دول عدم الانحياز في أذربيجان وتباحثا في استئناف العلاقات بين البلدين بعد انقطاعها بناء على طلب من السعودية.
وبرأي الكاتبين يرى قادة إيران أن تخفيف الضغوط الاقتصادية قد يخفف من حركة الإحتجاج الداخلي. كما أن الجهود الدبلوماسية تعبد الطريق لمزيد من التجارة والتحايل على العقوبات الأمريكية الصارمة. وبعد أيام من اتفاق بيجين، قاد وزير التجارة وفدا لجدة لمناقشة الدفع بالعملات المحلية في تجاوز للدولار واليورو. ويتباحث المصرفان المركزيان في قطر وإيران في خطط للمساعدة على وصول الأموال الإيرانية المجمدة في دول آخرى إلى طهران.
وبعد أيام من اتفاق بيجين، وجهت الإمارات دعوة لوزير الطرق والتطوير الحضري الإيراني للمشاركة في المؤتمر السنوي قطار الشرق الأوسط الذي يعقد في أبو ظبي لمناقشة تحسين الروابط على طول ممر النقل الدولي شمال- جنوب. وفي أيار/مايو التقى وزيري الخارجية العماني والإيراني في جدة على هامش اجتماعات بنك التنمية الإسلامي للبدء بدمج الكيانات الإيرانية في المراكز التجارية لجنوب الخليج. ووقعت طهران ومسقط اتفاقا حول حقل النفط والغاز المشترك “هينغام”. وفي ليبيا وقعت إيران اتفاقية لإنشاء لجنة مشتركة للتعاون الإقتصادي والتي يسمح بموجبها للسفن الإيرانية الرسو بميناء مصراتة ولأول مرة منذ عشرة أعوام. وفي نيسان/إبريل وافق الرئيس التونسي على زيارات متبادلة مع نظيره الإيراني، وحول العلاقة من عسكرية إلى اقتصادية، تصبح بموجبها تونس بوابة للصادرات الإيرانية الجديدة لدول الساحل والصحراء. والتقى وزير المالية الإيراني مع نظيره الجزائري لتعزيز التجارة والإستثمار. وقالت مصادر قريبة من القيادة المغربية أن العلاقات الثنائية المغربية- الإيرانية ستعدل بشكل يفتح طرقا جديدة للتجارة في شمال أفريقيا. وأثمرت الجهود الإيرانية، حيث زاد حجم التجارة مع البحرين والعراق وقطر والسعودية والإمارات بنسبة 10% في 2022.
ويسمح فتح العلاقات مع الشرق الأوسط لفصل العملة الإيرانية عن الدولار واليورو، مما يفتح المجال أمام تدفق السلع الإيرانية بعيدا عن العقوبات الأمريكية والأوروبية. ويمكن للدول العربية الإستفادة من تصدير المنتجات التي تضم أحيانا تكنولوجيا غربية تحظرها الولايات المتحدة والإتحاد الاوروبي. وسيكون السوق الإيراني بسكانه المتعلمين محلا للشركات التكنولوجية الناشئة من دول الخليج.
يؤكد الكاتبان أن كل هذه التطورات هي نتاج سياسة أمريكية متشوشة وتراجع في الشرق الأوسط، فالدول العربية لم يعد لديها أي خيار بل والتعاون مع طهران. فقد كانت الولايات المتحدة مرة تقدم لها السياج الحامي ضد العدوان الإيراني، إلا أن هذه الدول ترى أن الإلتزام الأمريكي هذا قد تلاشى. واستطاعت إيران بناء تحالفات مع الصين وروسيا وحاولت اعتراض ناقلات للنفط، نجحت في بعضها.
ويذكر الكاتبان أنه عندما التقى المسؤولون السعوديون مع الإيرانيين في بيجين، قبلت السعودية وبشكل تكتيكي بالتأثير الإيراني في سوريا ولبنان واليمن وحضورها في الدوائر الدبلوماسية الخليجية. وتوصلت الإمارات لنتيجة أن الدعم الأمريكي العسكري ليس مجديا، رغم وجود الأسطول الأمريكي الخامس في البحرين. وفي آذار/مارس خرجت أبو ظبي من القوات البحرية المشتركة. وباختيار التصالح مع إيران عبر بوابة الصين، فقد تراجعت الدول الخليجية خطوة عن علاقتها الخاصة مع واشنطن. وقررت السعودية والإمارات الإعلان عن اتفاقياتها مع إيران حتى قبل إعلام واشنطن. وبرأي الكاتبين فالأكثر خوفا هو الاجتماع الذي استضافته الصين في أيار/مايو بحضور عمان والإمارات والسعودية وإيران لمناقشة بناء اسطول بحري مشترك للقيام بعمليات أمنية في الخليج. وفي ظل التدافع العربي نحو طهران، فإن ادوات الولايات المتحدة الدبلوماسية، بما فيها العقوبات الإقتصادية والمصادرة والقيود العسكرية بلا قيمة.
وبحس الكاتبين فقد قررت إدارة بايدن أن التقليل من هذه التطورات هي استراتيجية ذكية. وفي حزيران/يونيو قال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، وبطريقة غير مبالية إنه لو تحقق الإندماج داخل المنطقة وزاد الحوار والشفافية فهذا جيد. وهذا نهج غير صحيح، فرئيس إيران يتحدث عن علاقات واندماج اقتصادي فقط، مع ان تاريخ البلد يقول العكس.
ويشدد الكاتبان على أنه لا يوجد ما يشي بأن الجهود الدبلوماسية الإيرانية تشير لتحول في جوهر السياسة الخارجية الإيرانية أو عقيدة خامنئي التي حددها عام 2010 وهي أن “شواطئ الخليج ومعظم خليج عمان ليست إيرانية فقط، بل ويجب أن تظهر القوة”. في كل المنطقة لأن “هذا واجب تاريخي وجغرافي وإقليمي”.
وبرأيهما يجب على الولايات المتحدة فهم أن هوية الهيمنة الإيرانية والطموحات عمرها عقود وعاشت أكثر من تغير الأنظمة وأن زعمها بلعب دور سلمي وجوار طيب لم يمض عليه سوى عدة أشهر.
ويلفت الكاتبان إلى أنه مع كل هذا أكدت إيران أنها ستواصل سيطرتها على الجزر الإماراتية الثلاث: أبو موسى وطنب الكبرى والصغري التي ضمتها عام 1971 مما يعني خنق طرق الملاحة ونقل الطاقة. وبرأي الكاتبين ففي هذا السياق ترتكب الدول العربية خطأ ومقامرة في التقارب الدبلوماسي مع إيران، وبدلا من ذلك كان عليها الطلب منها أن ثبتت حسن نيتها وأنه يمكن الوثوق بها. ويمكن البدء من خلال وقفها تهديد ناقلات النفط من الدول العربية والتوقف عن تزويد الحوثيين بالأسلحة التي يستخدمونها ضد السعودية. ويؤكدان على أنه في غياب أي دليل، يجب على دول الخليج ونظيراتها في الشرق الأوسط عدم التخلي عن واشنطن التي يجب أن تقدم أيضا. فمن خلال التأكيد على التزاماتها الأمنية ورفض التهديدات الإيرانية في الخليج وخليج عمان، يمكن لواشنطن إعادة قوتها العسكرية والدبلوماسية والإقتصادية مع الدول السنية وتطمينها أنها لم تتخلى عنهم.