علاقات » ايراني

تركيا وسيطا مستبعدا بين السعودية وإيران

في 2016/01/19

سمير صالحة- العربي الجديد- الخليج الجديد-

ثبت، منذ شهر يوليو/ تموز الماضي، أن التفاهم النووي بين الغرب وإيران منح الأخيرة فرصة إقليمية جديدة للانتشار والتوسع والهيمنة، أقلقت كثيرين، وخصوصاً بعدما بدأت طهران المساومة نيابةً عن العواصم الغربية في ملفات سياسية وأمنية حساسة، وأخذت وسائل إعلامها تردد أن الحروب بالوكالة التي كانت تدور في المنطقة تحولت إلى حرب مباشرة بإشرافها هي، وبتفويض غربي منح لها بعد المصالحة الإيرانية الأميركية.

كانت الرسالة الإيرانية، كما تلقتها تركيا في مسألة الاعتداء على البعثات الدبلوماسية السعودية، أن كل البعثات والشخصيات الدبلوماسية عرضة للهجوم إذا ما أصدرت الإرادة الدينية أو السياسية الإيرانية أوامرها، أو أغضبت مواقف حكومات دول المنطقة الشارع الإيراني.

الموقف الحيادي الذي تبناه الناطق باسم الحكومة التركية، «نعمان قورتولموش»، حول الاعتدال والتهدئة بين إيران والسعودية صححه، في اليوم التالي، رئيس الوزراء، «أحمد داود أوغلو» بقوله إن الاعتداء على مباني البعثات الدبلوماسية عمل لا يمكن قبوله.

ثم جاء الرئيس التركي، «رجب طيب أردوغان»، ليحسم الموقف الرسمي لبلاده على الشكل التالي «من التزموا الصمت إزاء قتلى سورية يحدثون جلبة الآن لإعدام سجين واحد في السعودية، .. والإعدامات في السعودية مسألة داخلية بحتة».

«أردوغان» الذي يقول إننا نعرف أن سبب ما يجري في العراق وسورية ولبنان الفتن الطائفية، وإن بعضهم يحاول أن يلعب الورقة المذهبية لصالح حساباته الإقليمية، وإنه لا يكفي الإعلان عن عدم تصويب حادثة الاعتداء على مقرات البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، بل كان ينبغي اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع وقوع هذه الاعتداءات. ويتساءل عن أسباب تحريك العامل الشيعي في قرارات الإعدام، مع أن الغالبية العظمى من المحكومين هم من السنة، حدد «أردوغان» بذلك كله موقف تركيا النهائي لصالح السعودية، من دون لف ودوران.

يريد الأتراك اليوم معرفة إذا ما كانت محاولات وضع بلادهم على مسافة واحدة مع إيران، تحت سقف جامعة الدول العربية وبعض المنظمات الفكرية والاقتصادية والمؤسسات البحثية في العالم العربي ستستمر أم لا. ويريدون أن يعرفوا ما إذا كانت السعودية وقطر ستقبلان باستمرار هذا التوجه لدى بعضهم، وتبنّيه كما حدث في مؤتمر جامعة الدول العربية الاستثنائي الذي عُقد بطلب من العراق، للتنديد بما وُصف في بيان القمة بانتهاك تركيا سيادة العراق.

وكذلك كيف ستقبل هذه العواصم العربية التي تنسق مع تركيا استراتيجياً اليوم مطلب وضع إيران وتركيا في سلة واحدة، لناحية مسألة العلاقات العربية مع الدولتين، خصوصاً بعدما عرضت بغداد والقاهرة وساطتهما بين طهران والرياض، فيما يتوحد العالم العربي وراء السعودية، في دفاعها عن قراراتها ومواقفها التي يساندها العالم العربي فيها.

وهل سنشاهد في المرحلة المقبلة، وعلى ضوء تطور الأزمة السعودية الإيرانية من يغرد خارج السرب السعودي عربياً، كما حدث بشأن مسألة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية، الأمر الذي نددت به وانتقدته عواصم عربية.

نجح كسب تركيا الود الايراني في إطار حاجة تركيا إلى الغاز الإيراني، وتسهيل فك الحصار الدولي على طهران في در المليارات على أنقرة تجارياً، وكان بديله تحرك تركيا للعب دور الوسيط بين طهران والغرب في الملف النووي، مع أنها نادمة اليوم على ما قدمته لإيران من خدماتٍ جيّرتها الأخيرة إلى نفوذ ضدها في سورية والعراق، وإلى التحالف مع روسيا.

أنقرة تقف علناً إلى جانب السعودية في أزمتها الحالية مع إيران، وهي تشعر اليوم أن حلفاءها في الغرب تركوها وحيدة في مسألة المنطقة الآمنة، وتخلو عنها، بترجيح كفة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، بتسليحه والتغاضي عن وصول هذا السلاح مباشرة إلى حزب العمال الكردستاني في تركيا، وتجاهل التصعيد العراقي ضدها في قضية وجود مدربين عسكريين منها في شمال العراق، بتوصيات إيرانية، والتردد الغربي في مواجهة عمليات تضييق الخناق الروسي، بعد حادثة إسقاط المقاتلة فوق الحدود التركية السورية.

ويعكس دفاع تركيا عن شعار منع الاحتراب المذهبي، المرفوع في خطوة تأسيس الحلف الاستراتيجي مع الرياض، والتحاق أنقرة بالتحالف الإسلامي، المعلن في منتصف شهر ديسمبر/كانون أول الماضي في العاصمة السعودية، يعكس حقيقة أنه لا يمكن لأنقرة أن تكون وسيطاً أو عاملاً مسهلاً في حل الأزمة السعودية الإيرانية، كما فعلت قبل سنوات عندما دخلت على خطوط النزاع السوري الإسرائيلي والأفغاني الباكستاني والإيراني الغربي، بعدما اتهمها الإعلام الإيراني، أو المقرب منه، بالتنسيق المباشر مع الرياض، في مسألة تحريك قرارات الإعدام وتسريعها، في أثناء زيارة الرئيس التركي أخيراً المملكة العربية السعودية.

المشهد، وكما يبدو من العاصمة التركية أنقرة، أن إيران سعت إلى تقليد روسيا التي حصلت على فرصة التصعيد ضد تركيا، ومحاولة محاصرتها وعزلها في الملف السوري، بعد إسقاط مقاتلتها في مناطق الحدود التركية السورية، من خلال لعب ورقة إعدام رجل الدين السعودي الشيعي، «نمر باقر النمر»، لتأليب شيعة المنطقة ضد الرياض.

فوقعت في حفرة إشعال الفتن المذهبية، والخروج عن مبادئ القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية وردود الفعل العالمية والعربية والإسلامية التي وقفت إلى جانب المملكة العربية السعودية، وحقها في اتخاذ التدابير القانونية والأمنية لحماية الدولة، واتهام القيادة الإيرانية بتحمل مسؤولية إضرام النار في بعثاتها الدبلوماسية، وتحريض الشارع ضدها.

وما تقوله قيادات «العدالة والتنمية» إن طهران تتحمل المسؤولية المباشرة عن ردود الفعل المتواصلة ضدها، عربياً وإسلامياً، كونها هي من صبت الزيت فوق نار التوتر السعودي الإيراني، ومحاولة لعب ورقة «النمر» الذي يكاد يحولها إلى نمر من ورق، في نظر كثيرين، بعد استقوائها بالإنجاز الاستراتيجي الذي حصلت عليه في أواخر الصيف المنصرم، والمتمثل بالاتفاق النووي الذي أرادته جرعة أخرى قوية، في مشروع الهلال الشيعي، والتمدد الإيراني في الخليج والشرق الأوسط.

كانت رسائل التهديد والوعيد التي لوحت بها القيادات الدينية والسياسية الإيرانية في رثاء النمر «سيحل الانتقام الإلهي على القيادات السعودية بلا أدنى شك» الفرصة التي يبحث عنها العالم العربي، ودول إسلامية كثيرة بينها تركيا، لتسارع في أخذ مكانها إلى جانب الرياض، حليفها الاستراتيجي الجديد، وشريكها في التحالف الإسلامي المعلن، من دون أي تردد أو تريث وترقب لما قد تؤول إليه الأمور في المستقبل القريب.

أنقرة على قناعة أن الجانب غير المعلن في المواجهة السعودية الإيرانية يتجاوز كلياً مسألة أن تكون مجرد أزمة سياسية بين البلدين. القضية أبعد وأعمق من ذلك، ومرتبطة مباشرة بغطاء المشروع المذهبي في العلن، بينما هي في الخفاء تمدد النفوذ الفارسي الذي سيتحول إلى مواجهة مباشرة، تستعرض فيها طهران عضلاتها العسكرية، وتستقوي بحليفها الجديد روسيا.

وتستنكر أقلام تركية كثيرة مقربة من الحكم والمعارضة، اليوم، رد الفعل الإيراني على «إعدام النمر»، وتقول إن النظام الإيراني الذي أعدم عشرات من العلماء والدعاة آخر من يحق له الحديث عن إدانة تنفيذ أحكام الإعدام السياسية، لكنها ترى أيضاً أن تركيا يجب أن تنأى بنفسها عن هذه الأزمة، ولا تصطف مع أي طرف. وقد يكون سبب هذه المواقف حسابات بعض الدول العربية في إبقاء تركيا خارج أي تحالف استراتيجي مع السعودية، ومحاولة الربط بين الاستفزازات الإيرانية، وما وصفوه بالتهديد التركي السيادتين، العراقية والسورية.

وهذا هو السؤال الذي تنتظر تركيا رداً سعودياً عليه، لأنه لا يمكن أن تكون هناك شراكة استراتيجية بين البلدين، وأن يكون بعضهم في العالم العربي والخليجي، ينحت في المدماك الجديد باسم الدفاع والذود عن راية الوحدة العربية.

مسألة أخرى لا يمكن تجاهلها، هي أن معظم الأتراك يرون أن الخاسر الأكبر والرئيسي في قطع الرياض علاقاتها مع طهران هي روسيا، حيث تتعدّى حدود خسارتها نفوذها في المنطقة أكثر من إيران نفسها، وهي خدمة قد تكون الرياض قدمتها لتركيا عن قصد أو من دون قصد، لكنه، في النهاية، الحافز الأهم الذي يدفع تركيا إلى الالتزام بالوقوف إلى جانب السعودية، بعيداً عن الحيادية، أو فكرة التوسط بين الطرفين.

التقارب الروسي الإيراني هو الذي دفع أنقرة إلى البحث عن أصدقاء استراتيجيين، مثل السعودية وقطر، ونقاش فرص إعادة العلاقات مع إسرائيل، وعدم التعليق على خبر لقاء أردوغان بوزير خارجية مصر، سامح شكري، على هامش زيارته الرياض.

العلاقات بين إيران وتركيا، ودعم تركيا الواضح لمشروع الطاقة النووية السلمية في إيران، تعرضت لهزة قوية مع بدء الحرب الأهلية في سورية، كما أن تمسك إيران الثابت والمستمر بنظام الأسد سيجعل الأمور أكثر سهولة على الأتراك، هذا إذا لم نتوقف مطولاً عند مسألة التحالفات التركية السعودية الاستراتيجية، واستعداد المملكة لصفقة السلاح مع أنقرة بقيمة 10 مليارات دولار على الأقل.

دعا بعضهم تركيا للتعامل بواقعية وحيادية مع الأزمة السعودية الإيرانية، وعدم التصعيد مع إيران، لأن ردة فعل الأخيرة سترتفع وتتزايد في الفترة المقبلة، وسينتقل التحرك الشيعي في إيران والعراق ولبنان واليمن إلى مرحلة جديدة، ما يترك الرياض وحلفاءها في الخليج أمام مأزق صعب، خصوصاً إذا ما قررت واشنطن الوقوف على الحياد، كما تفعل اليوم مع أنقرة، وهذا ما يعني تعزيز النفوذ الروسي الإقليمي أكثر فأكثر قد تكون نصيحة في مكانها.

لكن ما يقابلها، في الجانب الآخر من المعادلة، هو أخطر من ذلك بكثير، عندما تصل إيران إلى ما تريد في المنطقة، وتتخلى تركيا عن موقفها وموقعها في العالم الإسلامي، وتكتفي بالتفرّج على مشاريع التفتيت والتقسيم، وضرب الشعوب الإسلامية، وهي مسألة وبالها أصعب وأشد من السيناريوهات الأخرى بكثير.