فؤاد ابراهيم- السفير بتاريخ 2016-02-03-
مذهبة الصراع السياسي بين إيران والسعودية ومن ورائها عدد من الأنظمة والنخب، تستهدف التشويش على رؤية الأشياء كما هي. وأمام دوامة المجون الطائفي، يتسابق مثقفون، شاءت فورة غرائزهم الانحياز الى الجبهة السعودية، وتغذية الساحة الثقافية والإعلامية بكل ما يزيد في انقسام الشعوب العربية والإسلامية عبر توظيف عناوين قومية وأخرى دينية وثالثة مذهبية. متلازمة إيران فرضت عملياً الارتهان لمخاصمها، أي السعودية، بوصفه الراعي الجبري لخصومات إلحاقية على المستويات الخليجية والعربية والإسلامية.. وحتى الدولية.
يتحصّن جحفل من كتّاب ومثقفين بمبدأ «الموضوعية» والقراءة المتوازنة لمجريات الصراع، ثم ما يلبث أن يتحوّل حكماً، ليختم قراءته بتوزيع شهادات الوطنية لمن يشاء والخيانة والويل والثبور على من يشاء.
يتقمص بعضهم دور «مثقف السلطة»، فيتلو، عبر صحفها، على خصومها أو من تعتقد هي أنهم كذلك «لائحة اتهامات» تبدأ بالتخوين وتنتهي بالتخيير بين التماهي مع السلطة مطلقاً حد العبودية أو الرحيل، وفي لحظة الجنون يصبح الإعدام خياراً ثالثاً.
الخصومة مع إيران تنسحب على مذهبها الشيعي وتالياً على كل المنتمين له، ولا سيما الشيعة العرب. ما يلفت أن الذين يتناوبون على رمي الحطب في الجحيم الطائفي ينتمون الى طيف إيديولوجي متعدد، السلفي والقومي والليبرالي والوطني وحتى بعض المسيحيين العرب ومن عانوا من ويلات «الطائفية» يمدّون بما يطيل أمد الانقسامات الطائفية.
للقومجي المرتهن للمال الخليجي، مقاربته للصراع الإيراني ـ السعودي، إذ يرى في التظهير المذهبي له شكلاً مضلّلاً، وإن ألقت المذهبية بثقلها على طرق التعبير عنه، فيما الحقيقة، كما يتخيّلها، تكمن في النزوع التوسعي الإيراني محمولاً على القومية الفارسية في مقابل الوهن العربي الذي سمح للإيراني استغلال استقالة النظام الرسمي العربي على مستوى الحكم، أي في بناء دولة المواطنة الرصينة والحقيقية وعلى مستوى الدفاع عن القضية الفلسطينية بوصفها امتيازاً عربياً خالصاً.
وبرغم من الإيحاءات السلبية التي تنجبها مقاربة من هذا القبيل لجهة تبرير التخلف والاستبداد، وتستحضر مرحلة كان فيها النظام الرسمي العربي يتلطى خلف شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» لتبرير تخلفه، واستبداده، وفساده، فإن المقترحات المأمولة في النظام الرسمي العربي بتحويل الدولة التسلّطية التي تماهي بين الدولة والسلطة الحاكمة، لتصبح دولة شراكة ديموقراطية وكذلك عودة العرب الى تبني فلسطين قضية عربية يجب الدفاع عنها في كل المحافل الدولية أمنيّة جامعة، ولا تتطلب «استوجاد» خطر إيران. على العكس، لا بد أن تكون إيران هنا حافزاً على السباق نحو تطوير أنظمة الحكم لتكون أنظمة استيعابية وليست إقصائية، وتفسح في المجال أمام مشاريع تنموية في سياق خطة التنمية المستدامة، ودعم قوى المقاومة الفلسطينية لتحرير فلسطين..
على الضد، ما يجري على الأرض هو استبدال الصراع العربي ـ الإسرائيلي لتبرير الاستبداد والتخلف والفساد بالصراع العربي ـ الإيراني، وللغايات نفسها. وليس صدفة علو نبرة الخصومة مع إيران بالتزامن مع الإخفاقات الاقتصادية والأمنية والعسكرية والسياسية التي تتكبّدها السعودية ومن يدور في فلكها. ويمكن الجزم بأن هذه النبرة المتصاعدة لن تتوقف ما دام مسلسل الاخفاقات متواصلاً، بل سوف تبحث السعودية عن أي سبب لإبقاء نبرة الخصومة مع إيران مرتفعة بهدف احتواء أزمات داخلية بدرجة أساسية.
بكلمات أخرى، فإن النظام السعودي يعتمد سياسة الهروب الى الأمام للتغطية على فشله السياسي والاقتصادي من خلال تصعيد التدابير القمعية عبر شن حملات الاعتقال والإعدامات والتهويل ضد المواطنين، وافتعال مشكلات مع المكوّن الشيعي المحلي. بعد إعدام الشهيد الشيخ النمر، أخذت سياسة الهروب الى الأمام منعطفاً حاداً، باعتماد خيار الخطوات الاستباقية عبر إحياء تراث الخصومة مع إيران منذ انتصار الثورة في العام 1979، وتضخيم حادث حرق السفارة والقنصلية. في الأهداف، النظام السعودي أمام أزمة في الداخل اقتصادية وسياسية وأمنية، وأمام أزمة في الخارج إيديولوجية بضلوع عقيدته في الإرهاب، والمخرج لذلك يكمن في خلط الأوراق وإغراق الفضاء بكمية كبيرة من الكتابات والبرامج ضد الشيعة في الداخل وضد منافسها الإيراني في الخارج.
لا ريب أن فشل الدولة العربية يشكل عنصراً ضاغطاً على جمهرة واسعة من المثقفين العرب الذين راهنوا عليها في توليد هوية وطنية مكتملة النمو وتحقيق الإشباع الكامل لما يتطلعوا إليه. ولذلك، فإن جنوح بعض المثقفين السعوديين والخليجيين نحو الوقوع في «مصيدة» الخطابات الهالكة الفئوية والطائفية والعنصرية، تؤشّر الى أزمة هوية ووعي أكثر من كونها عاكسة لوعي متطوّر. ما يصدر عن هؤلاء لا يمثّلهم بكل تأكيد، يمكن فحص ذلك بسهولة من خلال عقد مقارنة بين نتاجاتهم الفكرية (قبل وبعد). ولذلك، فإن ثمة حاجة للانفصال عن مركز الجاذبية الطائفية من أجل القيام بمراجعة نقدية تعيد النصاب لحركة تطوّر الوعي في مساره العربي والإسلامي قبل السطو الوهابي. لا إيران ولا تركيا ولا باكستان ولا أي دولة تشكّل تهديداً لحركة الأفكار التنويرية والإصلاحية في العالم العربي عموماً، وإن الاحتجاج بالنفوذ الإيراني يغذي الثقافة الذرائعية التي تبرّر الاستقالة الفكرية، كما برّرت أموراً أخرى مثل الاستبداد، والتخلف، والانقسامات. فالخطاب الذي ينتج في الإعلام والثقافة والسياسة والدين في المجتمعات الخليجية لم تشارك فيه إيران، وهو خطاب لا صلة له بمشروع الدولة الوطنية، ولا التنمية المجتمعية، ولا رهانات المستقبل.
مقاربات متناوبة عن الشيعة العرب، أو «شيعة الخليج» وتفريعاتهم «شيعة السعودية» «شيعة الكويت» وما سواهم، تصدر عن خلفية اتهامية، تنسجم مع رغبة «الرعاة»، إذ إن «التبرئة» تفسد المأمول تحقيقه، لأن المطلوب تعزيز القطيعة، وأسباب التوتّر والخصومة. ما تنسجه خيالات كتّاب مقرّبين من مراكز الحكم حول «شيعة الخليج» تكشف عن نوع الصراع الذي يراد خوضه أكثر مما هو خلاصة مطالعات رصينة أو تجربة ميدانية طويلة ومباشرة.
من الناحية العملية، فإن الاستحضار الكثيف لشيعة الخليج في الصحف المحلية يتزامن مع تدابير قمعية ضدهم في أكثر من بلد خليجي (أحكام قاسية في الكويت على خلفية الاتهام بالتجسس لمصلحة إيران، ومحاكمات بالجملة ضد مواطنين شيعة من أرجاء المملكة السعودية بتهمة التجسس لحساب إيران، ومثلها في البحرين..) وقد أعدّت وزارة الداخلية السعودية قائمة بأسماء ما يربو عن مئتي ناشط في الحراك الشعبي السلمي في محافظة القطيف تحت طائلة الإرهاب. لم تقتصر آثار التحريض على المستوى الرسمي، فقد تعرّض فريق كرة اليد من بلدة القارة في محافظة الإحساء (ذات الغالبية الشيعية) للاعتداء من قبل لاعبي وجمهور نادي النجمة في القصيم (ذات الغالبية الوهابية) بعد تعادل الفريقين وتقدّم «القارة» عليه في مباراة جرت على ملعب نادي «النجمة» في 22 كانون الثاني الجاري.
ومنذ قيام السلطات السعودية بتنفيذ أحكام الإعدام بحق رجل الدين الشيخ نمر النمر في 2 كانون الثاني الجاري وعدد آخر من الناشطين في الحراك الشعبي منذ 2011، قرّرت تصعيد إجراءتها الأمنية في المناطق ذات الغالبية الشيعية، وقامت بحملة استدعاءات لرجال دين وناشطين وإبلاغهم بالتوقف عن مزاولة أي نشاط سياسي واجتماعي أو الاعتقال تحت طائلة الإرهاب.
ما يظهر من مجمل تصرفات الحكومات الخليجية، والسعودية على وجه الخصوص، أن ثمة إصراراً كيدياً باستجلاب إيران كشماعة لتسويغ سلسلة الإجراءات القمعية ضد المكوّنات الشيعية، كتبرير الدمار الهائل الذي تلحقه الطائرات الحربية السعودية باليمن بدعوى محاربة إيران.
في حقيقة الأمر، إن استدعاء إيران في كل مناسبة هو رغبة سعودية، كما كان استدعاء الصراع مع الكيان الإسرائيلي ضرورة عربية، لا بمعنى التماثل بين إيران وإسرائيل ولكن من حيث الوظيفة التي يؤدّيانها سعودياً وعربياً، أي إيران كما تريد السعودية استغلالها لقمع مواطنيها الشيعة، والتعمية على إخفاقاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية. ولذلك، فإن التحشيد المتواصل والمفتعل ضد إيران على خلفية حرق سفارة آل سعود وقنصليتهم في طهران ومشهد في رد فعل على مقتل الشيخ الشهيد نمر النمر لا يمكن تفسيره، برغم إدانة كل القيادات العليا في إيران لفعل الحرق، سوى أن غاية أخرى تكمن وراء إبقاء إيران في دائرة الخصومة الدائمة.